كراكوف من أجمل المدن البولندية. وكانت عاصمة لملوك البلاد على مر القرون. تقع في الجنوب، على بعد نحو 300 كم من العاصمة الحالية، وارسو. تتبادل طبيعتها بين السهول والجبال والمروج والغابات والوديان الجميلة ويخترقها نهر وديع هو فِستولا فيسوا. وهي مدينة جامعية شابة على رغم قدمها، فقد تأسست في القرن الرابع الميلادي، بعد أن سكن الإنسان تلك المنطقة منذ آلاف السنين. وتعد روايات الرحالة والتاجر الأندلسي ابراهيم بن يعقوب عن البولنديين وملكهم مْيَشكو الأول والمدينة التي زارها في رحلته بين 965-971 ميلادية من أهم وأقدم المصادر التاريخية. أصبحت عاصمة الملوك البولنديين في 1038، ثم دمرها التتار عندما اجتاحوا وسط أوروبا وشرقها سنة 1241، وأعيد بناؤها في 1257، ليدمرها المغول مجدداً في 1259 ومرة ثالثة في 1287. عاشت فترة ازدهار كبير في عصر النهضة منذ نهاية القرن الخامس عشر، وعمل فيها فنانون أوروبيون عظام أمثال فلورنتينو وفايت شتوس وهانس دورر شقيق الفنان الكبير آلبرخت دورر. حكمت بولندا آنذاك أرضاً واسعة امتدت بين البحر الأسود وبحر البلطيق قبل أن ينصب عليها ملك من عائلة فاسا السويدية الحاكمة في 1572، فبدأت كراكوف تفقد من بريقها إذ نقل الملوك مقرهم إلى وارسو في 1596، على رغم استمرار مراسيم تنصيبهم في كراكوف. وفي تسعينات القرن الثامن عشر تقاسمت روسيا وبروسيا والنمسا المملكة البولندية، وأصبحت كراكوف من حصة ملوك هابسبورغ النمسويين. ولم يتم توحيد الأراضي البولندية مجدداً إلا بعد الحرب العالمية الأولى. يبلغ عدد سكانها قرابة ثلاثة أرباع المليون، فهي بذلك ثالث أكبر المدن البولندية، وشهدت نمواً سريعاً خلال السنوات الماضية في كل النواحي، وجرى تجديد أبنيتها التاريخية وازداد الاهتمام بشوارعها ومتنزهاتها لتتحول إلى مقصد سياحي ومركز ثقافي وتعليمي وفني مهم ليس على صعيد بولندا فحسب، بل على صعيد شرقي أوروبا أيضاً. وقد صنفت منظمة اليونسكو المدينة ضمن التراث الإنساني العالمي في 1978. ويغلب على كراكوف طابع بناء عصر النهضة، وفيها أبنية مهمة تمثل مراحل العصور اللاحقة. وأهم معالم المدينة قلعتها التاريخية المزدحمة بالقصور والكنائس والمتاحف، المطلة على النهر، واسمها قلعة فافل Wawel. وتقول الأساطير إن تنيناً ينفث النار سكن في مغارة تحتها، وقد صنع تمثال برونزي لتنين يخرج من فمه اللهب كل بضع دقائق، ووضع عند ضفة نهر الفستولا أسفل القلعة. وشُيّد القصر الملكي في القلعة على عهد سيغيسموند الأول 1506-1548 ليخرج تحفة فنية على يد فنانين إيطاليين وألمان. ومن بين المعروضات التي يمكن للسواح مشاهدتها في قلعة فافل الصالات الملكية وفيها أثاث إيطالي ولوحات فنية وملكية تعود للقرون 14-17، بضمنها لوحة لليوناردو دافنشي، وغرف الملوك بما فيها من أثاث ومتعلقات وجواهر التاج والأسلحة، ونفائس شرقية مثل الأعلام والخيام التركية العثمانية والأسلحة والسجاد التركي والفارسي والخزف الصيني والياباني وغير ذلك الكثير. أما الكاتدرائية فهي الموقع الذي توج ودفن فيه الملوك البولنديون على مر الزمان. ويعود بناؤها الحالي إلى القرن الرابع عشر، لكنها تضم نفائس فنية ترجع إلى المدارس الفنية المختلفة من القوطي إلى النهضة حتى الباروك والكلاسيك والفن المعاصر. ونجد فيها أيضاً مراقد لغير الملوك، كالأساقفة وبعض الشخصيات الوطنية والشعراء، ومن بينهم القديس ستانيسلاف اسقف كراكوف الذي اغتيل في القرن الحادي عشر. ومن الضروري زيارة قبر الملك كاشميرش ياغيلّو 1447-1492 لرؤية الضريح المصنوع من الرخام الأحمر بيد الفنان فايت شتوس. الموقع الآخر هو الساحة الرئيسية رينَك غْووفني Rynek G??wny، وهي ساحة كبيرة مربعة تقريباً، فيها كثير من الكنوز المعمارية. يتوسطها سوق البزازين، وتعد من أقدم الأسواق في أوروبا على الأقل، إذ شيدت قبل أكثر من سبعة قرون. يبلغ طول السوق 108 أمتار، وعرضها ثمانية. وقد أعيد بناؤها في 1555 بعد حريق كبير، هذه المرة على الطراز القوطي الذي نراه الآن. وفي طرف الساحة كاتدرائية مريم العذراء التي تعتبر أشهر كنيسة في بولندا. واستمر تطوير مبناها لغاية نهاية القرن الرابع عشر، عندما اتخذت شكلها الحالي. وقد صنعت لها شبابيك زجاجية ملونة في 1365، بقي منها ثلاثة رائعة إلى اليوم. ويبلغ ارتفاع برجها الأطول 81 متراً، وهو البرج الذي ينفخ فيه عازف الترومبيت نغمة المدينة أربع مرات كل رأس ساعة، من الشباك الغربي، ثم الشرقي، فالجنوبي وأخيراً الشمالي. وينقطع اللحن في نقطة معينة، تذكيراً بنافخ البوق الذي كان ينذر السكان عند بدء الهجوم التتاري في 1241، قبل أن يسكته رامٍ تتري ماهر بسهم من قوسه اخترق حنجرته. وفي الأصل كان البوق يعلن فتح أو غلق أبواب المدينة في القرون الوسطى، أو لتنبيه السكان إذا ما نشب حريق أو اقترب عدو. ونجد في الساحة الرئيسية إلى جوار السوق برج بلدية المدينة المائل الذي يبلغ ارتفاعه 70 متراً، ويميل بخمسة وخمسين سنتمتراً، وذلك بسبب رياح شديدة أمالته في سنة 1703. وقد بني البرج من الآجر والحجر في أواخر القرن الثالث عشر، كجزء من بناية البلدية التي هدمت في سنة 1820. وكانت المدينة القديمة محاطة بسور فيه 39 برجاً وثمانية أبواب. وبلغ ارتفاع السور عشرة أمتار وسمكه مترين ونصف المتر. لكن معظم هذا السور هدّ في القرن التاسع عشر، ولم يبق منه سوى بوابة المدينة الرئيسية براما فلوريانسكا - حوالي سنة 1300 مع بعض الأجزاء التي تربطها بثلاثة أبراج، وأمامها القلعة الصغيرة المدورة المسماة بارابكان التي بنيت قبل 500 سنة وجددت في السنوات الأخيرة، وهي من روائع الهندسة العسكرية، فيها 130 فتحة للرماية وسمك جدرانها ثلاثة أمتار. وتقام فيها اليوم أماسٍ موسيقية وتقدم فيها العروض المسرحية والتاريخية بعد أن حمت المدينة لقرون. والريف المحيط بالمدينة خلاب للغاية، وهناك كثير من الأماكن التي يمكن زيارتها، مثل منجم الملح في فييليتشكا، والذي حول إلى متحف تحت الأرض نحت فيه الملح الصخري هاليت لصنع أشياء كثيرة مثل صوامع العبادة والثريات والسلالم. ويزوره اليوم نحو 800 ألف زائر في السنة، وهو من التراث الإنساني العالمي الذي تحميه منظمة اليونسكو. ويبلغ عمق المنجم 327 متراً وتمتد ممراته مسافة 300 كم، وقد ابتدأ استخراج الملح منه في القرن الثالث عشر. كراكوف هي المركز الثقافي لبولندا، والعاصمة الثقافية لأوروبا في سنة 2000، إذ نجد فيها تسعة مسارح وثمانية وعشرين متحفاً ودار أوبرا وفرقة موسيقية فيلهارمونية شهيرة، وعدداً من الفرق الموسيقية والغنائية التخصصية. وارتبط بالمدينة أدباء وفنانون كبار مثل فيسوافا شيمبورسكا وتشسواف ميووش الحائزين على جائزة نوبل، وكذلك الكاتب الدرامي سلافومير مروجك والموسيقار كشيشتوف بَنْدَرَتْسكي، والفنانان الطليعيان فيسبيانْيسكي وبجيبيشفسكي، والرسام يان ماتَيكو. واحتل كارول فويتيلا أسقف كراكوف الكرسي الرسولي بأسم يوحنا بولس الثاني. وفي المدينة 18 جامعة ومعهداً جامعياً، تضم 170 ألف طالب وباحث واستاذ، أهمها جامعة ياغيلّو التي تأسست مبكراً في 1364. وفيها معهد استشراق مهم، برز فيه كثير من المستشرقين والمستعربين. ومن المفيد زيارة الجامعة الواقعة في شارع القديسة آنّا القريب من الساحة الرئيسية. وتبهر بناية الكلية الكبيرة Collegium Maius الناظر لما تمثله من روعة في العمارة، فباحتها الداخلية وبئرها التي تتوسطها وأعمدتها الرشيقة المحيطة بها تستحق الزيارة لجمالها. وتحوي مكتبة الجامعة على كنز من الكتب يصل إلى أربعة ملايين ونصف المليون من العناوين، بينها 11 ألف من المخطوطات بضمنها 2500 مخطوطة من القرون الوسطى، و92 ألف من نفائس الكتب المطبوعة بينها 2400 كتاب طبع قبل سنة 1501. والمدينة مثالية لمن يهوى السياحة الثقافية، فعلاوة عما ذكر قبل سطور، هناك كثير من المهرجانات على مدار السنة. ومن بين المهرجانات التي تشتهر بها المدينة نذكر مهرجانات الجاز، الفن الذي برع فيه البولنديون، وأهمها مهرجان الجاز العالمي نيسان ومهرجان الجاز الصيفي ومهرجان زادوشكي للجاز تشرين الثاني. وتقام سنوياً مسابقة عالمية لموسيقى الحجرة، ومهرجانات للأفلام والأفلام المتحركة، وموسيقى الأورغن تشرين الأول/ اكتوبر ومهرجانات الفنون الشعبية. وفي كراكوف ستة فنادق بخمس نجوم وهي فنادق عالمية، وسبعة بأربع نجوم، وأكثر من خمسين بثلاث نجوم، والكثير من الفنادق المتواضعة ونزل الشباب والطلبة، بعضها في جوار أهم المناطق السياحية، إذ يطل السائح من شباكها على سوق البزازين في الساحة الرئيسية مثلاً. ولا يفوتنا ذكر جودة ونظافة المقاهي ومحال الحلويات المتنوعة والمطاعم العديدة في المدينة لمن يهوى تذوق روائع فنون الطبخ، فهي تتميز بصفات إيجابية ثلاث هي: الطعم اللذيذ، واعتدال السعر... والكمية الوفيرة!.