إن جيلي الذي تفتحت مداركه السياسية في الستينات من القرن الماضي لم يكن معنياً على الإطلاق بالفروق المذهبية أو الاختلافات الطائفية بل كان التقسيم حينذاك محصوراً ما بين رجعي وتقدمي، بين إقطاعي واشتراكي، بين من تربطهم صلات قوية بالولايات المتحدة الأميركية ومن يتعاونون عن قرب مع الاتحاد السوفياتي السابق عقائدياً وسياسياً، بل إنني أزعم أن الشعب المصري على سبيل المثال لم يعط الاختلاف بين المذهبين السني والشيعي أي اهتمام بل تعامل مع العالم الإسلامي ككتلة واحدة بلا تفرقة وفعلت ذلك أيضاً معظم الشعوب العربية والإسلامية. لذلك فإنه يبدو غريباً أن نواجه الآن عملية ارتداد وتراجع لم تكن في الحسبان، فالطائفية تطل برأسها وتستدعي وراءها كل أسباب الفتنة وعوامل الاختلاف ومظاهر الفرقة. إننا عندما نتأمل ما يجري في العراق في الآونة الأخيرة ندرك حجم المأساة الحقيقية التي يعاني منها العرب والمسلمون وكأنما لا تكفينا المواجهة الحادة مع الغرب ولا الصراع العربي الإسرائيلي ولا الصدام اليومي بين الفلسطينيين والدولة العبرية ولا تلك المشكلة المعقدة في دارفور، ولعل أسوأ ما في الاحتقان الطائفي أنه يأتي في وقت نتطلع فيه إلى الدولة العصرية الحديثة التي لا توظف الدين لخدمة أهداف سياسية أو تبرير مواقف عقائدية، لذلك يكون من المفيد أن نبحث الآن في عدد من المحاور التي تدور حول هذه الظاهرة الكئيبة التي بدأت تقتحم حياتنا العربية بل وتتدخل بشكل ملموس في مواقفنا الإسلامية: أولاً: إن جذور الخلافات المذهبية تعود إلى وقائع تاريخية أكثر منها ملابسات دينية وهذا يعني أننا سنظل أسرى للماضي ندفع فاتورة متجددة له عبر الأحقاب المتتالية إذ أن تقسيم المسلمين بين سنة وشيعة إنما يعود إلى القرن الأول الهجري وما جرى فيه من أحداث اعتمدت على اجتهادات بشرية ولم تكن أبداً استجابة لتعاليم إلهية أو حتى نداءات روحية، ولابد أن أعترف هنا أن حجم هذا الخلاف المذهبي لم يكن متسعاً على النحو الذي نشهده اليوم عندما بدأ منذ أربعة عشر قرناً حين سادت سماحة الإسلام بعد الفتوحات الأولى ولكن التراكم التاريخي للأفكار والمعتقدات هو الذي أدى إلى اتساع الهوة وتبادل المخاوف واستمرار الشكوك. ثانياً: إن الدولة الفاطمية الشيعية التي وفدت إلى مصر من شمال إفريقيا كرست جزءا كبيراً من تراثها الاجتماعي في أعماق الشعب المصري السني المذهب، لذلك فإن أولياء الله وأضرحة أهل البيت ومزارات الأئمة تبدو كلها شواهد على التقارب بين المذهبين وانتفاء الجفوة بينهما، ويكفي أن نتذكر أن الفاطميين بنوا الأزهر الشريف لكي يكون قلعة للمذهب الشيعي قبل أن يتحول مع سقوط الفاطميين ووصول الأيوبيين إلى السلطة في القاهرة لكي يكون مناراً لفقه السنة وأهلها، أي أن ما أريد قوله هنا هو أن الخلاف المذهبي بين الطائفتين الكبيرتين في الإسلام أهل السنة وأهل الشيعة إنما يعود مرة أخرى إلى أحداث تاريخية ونوازع بشرية لا علاقة لها بجوهر العقيدة الإسلامية والجانب الروحي لها. ثالثاً: إن اختلاط المذهب الشيعي بالإطار القومي للهوية الفارسية أدى إلى نشوء عصبية دينية جعلت الاختلاف الفارسي العربي ينعكس في مجمله على الإطار المذهبي للفكر الشيعي حيث ترسخت مفاهيم تدور حول الإمام الغائب والأهمية الزائدة للحوزة الدينية في قم التي تحاول أن تنتزع الدور الأصيل لحوزة النجف في العراق من خلال تنافس مكتوم لا يخلو من دوافع قومية في بعض الأحيان ونحن هنا نرى أن الشيعة العرب هم جزء لا يتجزأ من نسيج الأمة العربية حيث غلبت لديهم تاريخياً النزعة القومية على الخلاف المذهبي ولعل في دورهم أثناء الحرب العراقيةالإيرانية ما يؤكد المعنى الذي نشير إليه. رابعاً: إذا كانت العقود الأخيرة حملت معها رياح التعصب الديني وإحياء تراث الاختلافات العقائدية فإننا نقرر أن ذلك لا يتطابق بأي حال مع ما جرى على امتداد الساحة الإسلامية حيث المسلمون محملون بعبء ثقيل وإرث دائم من خلافات مذهبية استيقظ تأثيرها فجأة مع تطور نظرية صراع الحضارات واعتبار انه يصبح من حق كل إنسان أن يفتش عن هويته الحقيقية ومعدنه الأصلي باحثاً عن نوع من التميز ودرجة من الانتماء الضيق وتلك مصيبة كبرى تجتاح العالم في هذه الآونة. ولست أشك في أن الخلافات الطائفية والتقسيمات المذهبية فوق الأرض العربية ليست هي الأخرى إلا صدى لهذا التوجه العالمي الذي جاء بعد سقوط الايديولوجيات الكبرى وبداية التركيز على العامل القومي والانتماء الديني بديلاً للنظريات الاجتماعية الكبرى التي سادت في القرنين التاسع عشر والعشرين وفي مقدمها التأثير المعروف للنظرية الماركسية التي أنحت الدين والقومية جانباً وسمحت للفكر الاشتراكي بأن يسيطر لعقود طويلة على مساحات واسعة من الخريطة السياسية للعالم، خصوصاً منذ نجاح الثورة البولشفية في روسيا مع مطلع العشرينات من القرن العشرين حتى سقوط الاتحاد السوفياتي السابق في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. خامساً: يجب أن اعترف في نقد ذاتي أن رجال الدين الإسلامي - سنة وشيعة - لم يقوموا بدورهم المطلوب في التقريب بين المذهبين وتوحيد روح الفريقين على الرغم من تسليمنا بالجهود التي بذلتها بعض المراكز الإسلامية السنية أو الشيعية في هذا الشأن واجتهاد بعض العلماء للتوفيق بين روح المذهبين وجمع كلمة المسلمين مثلما فعل شيخ الأزهر المستنير الإمام محمود شلتوت في بداية الستينات من القرن الماضي عندما أصدر فتواه الشهيرة بصحة التعبد بالفقه الجعفري وأيضاًً بالفقه الزيدي وإدخالهما معاً إلى مناهج التدريس وبرامج الدعوة في الأزهر الشريف. ولكن مثل هذه الاجتهادات الفردية والجهود المرحلية لم تتحول إلى زخم شامل يصنع مظلة كاملة تغطي المساحة الروحية للعالمين الإسلامي والعربي بغير استثناء، ولقد جاء الوقت الذي يجب أن تتحرك فيه المؤسسات الدينية الإسلامية لتؤكد للجميع أن صلاة أهل الشيعة في مساجد السنة مقبولة ومطلوبة كما أن صلاة أهل السنة في الحسينيات الشيعية هي أيضاً مقبولة ومطلوبة، فالإسلام واحد لا تمزقه الاجتهادات الفقهية لأن شريعته متماسكة والقرآن الكريم يمثل كلمة الله العليا إلى المسلمين بغير استثناء تنظم لهم ما اختلفوا فيه وتجمع بينهم إذا ما تفرقوا عنه. بعد هذه الملاحظات التي سردناها، قد يقول قائل: وما الجديد في ذلك؟ إن الخلافات الطائفية والصراعات الدينية مرتبطة دائماً بأحداث تاريخية معينة أو باختلافات في تفسير النصوص المقدسة أو التباين في الاجتهادات الفقهية وهذا كله صحيح ولكننا نظن في الوقت ذاته أن المذهبين السني والشيعي يعبر كل منهما عن صحيح الإسلام وليس هناك ما يبرر رفض أحدهما للآخر أو احتكار أي منهما للتعبير عن جوهر الدين الحنيف وهذا يقودنا بدوره إلى ثلاثة استنتاجات واضحة هي: 1- إن إشعال نار الفتنة بين المسلمين من أهل الشيعة وأهل السنة خصوصاً في المنطقة العربية والتي تتجسد بشكل واضح في العراق إنما هي صناعة أجنبية دخيلة تمكنت للأسف من دق اسفين كبير لن تقف آثاره على العراق وحده ولكنها قد تمتد إلى العالم الإسلامي بأسره، ولا يخفى علينا ما تحتويه الأجندة الغربية والأميركية عموماً والإسرائيلية خصوصاً من نظرة معادية تجاه وحدة العالم الإسلامي وتأثيرها على مواجهة المد الأجنبي والتدخل الخارجي. 2- إن البيئة السياسية العراقية هي اختيار خبيث ومتعمد من جانب أولئك الذين يسعون إلى إضعاف العراق وتمزيق أوصاله وتهديد وحدته فضلاً عن النيل من عروبته لذلك فإن أي تحالف شيعي سني في العراق بحيث يضم الأكراد والأقليات المسيحية أيضاً في بلاد الرافدين سيكون من شأنه الخروج بذلك البلد الشقيق من مأزق وضع فيه وفرض عليه. 3- إن الدور العربي عموماً في الأزمة العراقية لا يرقى إلى مستوى الحدث كذلك فإن الدور الإسلامي لا يقل عنه سلبية، الأمر الذي ترك ثغرة مرت من خلالها المخططات الأميركية الإسرائيلية لسحب العراق من ميزان القوى الاستراتيجي في الخليج وإعطاء إيران فرصة للاستقواء المرحلي في ظل هذا المناخ المتردي عربياً وإسلامياً. هكذا نجد أن الحرب الطائفية في العراق انعكست على المنطقة كلها وتركت آثارها لدى الشعوب أيضاً وهو ما جعل الموقف الغربي عموماً والأميركي والإسرائيلي تحديداً أكثر حرجاً وأقل قدرة على المضي في طريق احتواء المنطقة التي يملكون بعض المفردات في قاموسها ولا يملكون البعض الآخر. وأنا ممن يظنون في النهاية أن الانفتاح الديني الكامل والشفافية القومية الحقيقية هي التي تصنع القدرة على توجيه الأحداث وتخلق الصياغة المطلوبة للمستقبل لأننا نؤمن بأنه إذا كان إقحام الدين في السياسة هو خطأ فإن استخدام الدين لتمزيق وحدة الأمة هو خطيئة. * كاتب مصري.