في 14 آب أغسطس 1997، وبعد أسابيع من انهيار العملة التايلندية البات في 2 تموز يوليو، عومت إندونيسيا عملتها الروبية. ودفع هذا القرار نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي ستانلي فيشر إلى القول بصراحة"إن إدارة صندوق النقد ترحب بالقرار الذي اتخذ في وقته المناسب من جانب السلطات الإندونيسية، وإن تعويم الروبية، المقترن بوجود أسس قوية في إندونيسيا والمدعوم من سياسات مالية ونقدية تتسم بالحذر، سيسمح للاقتصاد الإندونيسي بالاستمرار في أدائه الاقتصادي الذي أثار الإعجاب في السنوات الأخيرة". وخلافاً لتوقعات صندوق النقد، لم يتسم تعويم الروبية الإندونيسية بالهدوء، فقد هبطت العملة هبوطاً سريعاً ومفاجئاً من 2700 روبية للدولار الواحد في زمن التعويم إلى مستويات منخفضة قاربت 16 ألف روبية للدولار عام 1998. وهكذا، لحقت إندونيسيا بركب الاضطرابات العاصفة للأزمة الآسيوية الهائلة. وبحلول أواخر كانون الثاني يناير 1998، أدرك الرئيس الإندونيسي سوهارتو ان الدواء الذي وصفه صندوق النقد لم يحقق النجاح، فراح يبحث عن النصح من مصدر آخر. وفي شباط فبراير من العام نفسه، استُدعيت لأقدم هذا النصح كمستشار خاص للرئيس سوهارتو. ومع افتقاري إلى أي مواقف من حكومة سوهارتو، كانت لدي فعلاً أفكار محددة حول المسألة المطروحة للبحث. وبعد المناقشات المفتوحة الاعتيادية في المنزل الخاص بسوهارتو، اقترحت إجراءً وقائياً يتمثل بإقامة مجلس نقدي تقليدي تكون الروبية بموجبه قابلة للتحويل بالكامل إلى الدولار وفق سعر صرف ثابت. وفي اليوم الذي وصلت هذه الأنباء إلى الشارع، ارتفعت الروبية ارتفاعاً شديداً، بنسبة وصلت إلى 28 في المئة في مقابل الدولار. وأغاظت هذه التطورات حكومة الولاياتالمتحدة وصندوق النقد. وتلت ذلك هجمات قاسية على فكرة المجلس النقدي وعلى"المستشار الخاص". وأُبلغ سوهارتو بعبارات لا غموض فيها من قبل كل من الرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس صندوق النقد مايكل كامدوسو ان عليه إما ان يقوم بصرف النظر عن فكرة المجلس النقدي أو ان يخسر مساعدات خارجية مقررة مقدارها 43 بليون دولار أميركي. وعرف أيضاً ان أيامه كرئيس لإندونيسيا ستكون معدودة إذا لم تستقر الروبية. لماذا قامت كل هذه الضجة حول فكرة إقامة مجلس نقدي خاص بإندونيسيا؟ استوعب الاقتصادي مرتون ميلر اللعبة الكبرى فقال ان معارضة إدارة كلينتون للمجلس النقدي"لم تنتج عن كون الفكرة غير قابلة لأن تحقق النجاح، بل لأنها كفيلة بتحقيق النجاح، ولأنهم إدارة كلينتون، إذا تحقق النجاح الموعود، سيضطرون إلى التمسك بسوهارتو". وعبّر رئيس الوزراء الأسترالي السابق بول كيتينغ عن موقف مشابه إذ قال:"قامت وزارة الخزانة الأميركية في شكل مدبر تماماً باستخدام الانهيار الاقتصادي ذريعة للتسبب في إسقاط سوهارتو". وقدّم وزير الخارجية الأميركي السابق لورنس إيغلبرغر تشخيصاً مماثلاً للمسألة:"لقد كنا أذكياء نوعاً ما إذ دعمنا صندوق النقد عندما عمل على قلب نظام حكم سوهارتو، أما ان كانت طريقتنا حكيمة أم لا فهذا شأن آخر. أنا لا أقول ان سوهارتو كان يجب ان يبقى في الحكم، لكنني أريد ان أتمنى لو أنه ترك الحكم في ظروف تختلف عن تلك التي تسبب بها صندوق النقد". وحتى كامدوسو لم يكن بمقدوره ان يجد أي خطأ أو تقصير في هذه التقويمات. فقد صرح علناً وبفخر، بمناسبة تقاعده:"لقد قمنا نحن بتحقيق الظروف التي أجبرت سوهارتو على ترك منصبه". ولكي يُخلع سوهارتو، وجب القيام بخدعتين. عملت الخدعة الأولى على تلفيق موقف عام عدائي من جانب صندوق النقد تجاه مجالس النقد. وهذه الخدعة كانت مطلوبة لكي يقتنع سوهارتو بأنه كان يتصرف في شكل متطرف وانه، في حال استمراره على هذا النحو، سيكون الثمن باهظاً. وتطلب الأمر القيام باستدارة كاملة وسريعة في الاتجاه المعاكس: قبل اقل من سنة واحدة على الضجة الإندونيسية، شكلت بلغاريا كنت اعمل لديها مستشاراً للرئيس ستويانوف مجلساً نقدياً في 1 تموز 1997 بموافقة حارة وحماسية من صندوق النقد. وفي البوسنة والهرسك قدمت النصح للحكومة حول تشكيل مجلس نقدي جرت متابعة هذا الأمر وفقاً لپ"اتفاق دايتون للسلام"وبدعم من صندوق النقد في 11 آب 1997. وبعد سقوط سوهارتو بوقت قصير، انكشفت خدعة صندوق النقد. ففي 28 آب 1998، أعلن كامدوسو ان صندوق النقد يود ان يعطي روسيا ضوءاً أخضر لإقامة مجلس نقدي. وأعقب ذلك اجتماع لم يُعلن عن مجرياته إلا قليلاً، عُقد في 16 كانون الثاني 1999 في مكتب كامدوسو في مقر صندوق النقد في واشنطن. وحضر الاجتماع كبار مسؤولي صندوق النقد ووزير مال البرازيل بيدرو مالان ومدير السياسة النقدية في البنك المركزي فيها فرانسيسكو لوبيز. وفي هذا الاجتماع اقترح كامدوسو ان تؤسس البرازيل مجلساً نقدياً! وعملت الخدعة الثانية على الترويج لادعاء حظي بانتشار واسع مفاده أنني اقترحت تحديد أسعار صرف الروبية وفق مستويات مغالى فيها لكي يتمكن سوهارتو وأصدقاؤه الحميمون من نهب احتياطات البنك المركزي. ولعب هذا السيناريو التصوري الذي يتلخص بپ"أخذ الأموال والهروب بها"دوراً محورياً في عمل تسهيل حملة إدارة كلينتون ضد سوهارتو. وكان المقصود"التأكيد"على ان نيات سوهارتو مراوغة وحُشد دعم سياسي دولي ضد فكرة المجلس النقدي تمهيداً لإسقاط سوهارتو. ولا يعتبر هذا المسلسل وتلاعباته فريداً من نوعه في عالم السياسة. فقد يكون، على رغم كل ذلك، من المفيد تقويم الحقائق اليوم وبعد الكشف عن الخفايا. هناك بلدان أخرى كالصين مثلاً تمر حالياً ببعض أهواء العلاجات المماثلة. لهذا دعونا نأمل أنها لن تضطر في وقت لاحق إلى دفع الثمن عن أخطاء فادحة من هذا النوع. * أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور، وهو زميل أقدم في معهد كيتو في واشنطن. ومقاله هذا برعاية"مصباح الحرية"www.misbahalhurriyya.org.