في مثل هذا اليوم قبل 63 عاماً وُلِد رفيق الحريري الذي لم يُكتب له أن يعيش ليُطفئ شمعة عيده. ولعل أحداً على الإطلاق لم يتوقع لذاك الطفل الجنوبي أن يغدو الرجل الاستثنائي الذي صاره لاحقاً سوى أمه التي كانت تحيك له ملابس الصوف وتدعو الله أن يجعل التراب ذهباً إذا أمسكه ابنها. دارت الأيام دورتها وشبّ الطفل في حكاية بات معظم فصولها معروفاً، صار فتى مضمخاً برائحة زهر الليمون في بساتين صيدا والجنوب يكدح لأجل تغيير واقع الحال، وشاباً تعرفه شوارع بيروت مُتظاهراً مدافعاً عن قضايا العرب والشعوب المغلوبة على أمرها، ومناضلاً في حركة القوميين العرب، يذهب مشياً عابراً جبال لبنان وبقاعه حاملاً الى دمشق منشورات الحركة السرية... الى بقية الحكاية التي يعرف كثيرون عناوينها الكبرى وتغيب عنهم تفاصيلها. ومن التفاصيل الكثيرة التي أعرفها وسمعت وقائعها من صاحبها مباشرة حكايات من زمن النضال في صفوف حركة القوميين العرب، أو شذرات من شقاء الطفولة الأولى، أو وجهات نظر في الدين والدنيا وكلها ملامح تكمل الصورة الحقيقية لرفيق الحريري، وهي صورة مغايرة أو مختلفة عن تلك التي يرسمها المناوئون والمؤيدون على السواء، لأن"الظروف السياسية"في لبنان تملي شروطها على الجميع، فيأخذ كل طرف الأجزاء التي تناسبه من الصورة، أي صورة. والكتابة عن رفيق الحريري مُحيِّرة لكثرة الأبواب التي يمكن الدخول منها الى عالمه، حتى يكاد كل راغب أن يجد الباب الذي يلائمه ويناسب هواه، لأن الرجل الاستثنائي كان واحداً متعدداً أو مفرداً بصيغة الجمع مرَّ في مراحل الحياة المتنوعة المختلفة، وظل أميناً لمنابته الأولى ولمكوناته الوجدانية، وبذل قصارى جهده لأجل خلاص وطنه من محنِهِ ومآسيه الى أن دفع حياته ثمناً وخرَّ شهيداً على قارعة المدينة التي عاش معها وفيها قصة حب منقطعة النظير، إذ نادراً ما نجد عاشقاً لبيروت بين القادة وأهل السياسة كرفيق الحريري. وإن كانت علاقته ببيروت شأنَ كل شأنٍ في لبنان عرضةً لسوء الفهم والتشويه والاستغلال في البازار السياسي إياه، فلا بد من أن يجيء يوم يتصدى فيه قلم منصف لحكاية رفيق الحريري مع لبنان انطلاقاً من مدينتيه: صيدا وبيروت، وما فعله بين مسقط الرأس وسقط القلب، لا لجهة الإنماء والإعمار والتعليم الذي شمل آلافاً مؤلفة من الشباب اللبناني على اختلاف الطوائف والمناطق، بل أولاً مساهماته الكبرى في إرساء دعائم الثبات والصمود والانتصار على المحن الكبرى، خصوصاً دوره غير المُعلن في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والتصدي لنتائجه المادية والسياسية، وتلك مرحلة لم تُكشف أوراقها كاملة حتى الآن. لا يُختصر رفيق الحريري في كلمات وأسطر، لا يستطيع الحبر أن يضاهي الدم. وبيروت تكتب قدرها بدماء شهدائها وتظل مدينة منذورة للمحن، لكنها أيضاً منذورة للحياة، ومَن يستعيد رفيق الحريري في هذه الأيام الحرجة حيث تضع المدينة يدها على قلبها خيفةً وتوجساً، لا مناص له من تذكر الأسلوب الذي كان يواجه به الحريري الأوقات الحالكة، ولا بد لأي لبناني يراقب المشهد السياسي ويستمع الى بعض سياسيي لبنان يُنذر اللبنانيين بالفوضى والخراب والشر المستطير، من أن تتداعى في باله مفردات الأمل والتفاؤل التي كان الحريري يحرص على بثها والتبشير بها. ولو راجع أي باحث الأرشيف الخطابي لرفيق الحريري لما وجد مفردة واحدة من تلك المفردات المقيتة التي"يتقاصفها"المتمترسون في خنادقهم الطائفية والمذهبية والفئوية الضيقة التي تحوّل وطناً الى مساحة زاروب أو زقاق من تلك الأزقة التي تحكم المنطلقات السياسية في لبنان. لئن كان"المرء مخبوءاً تحت لسانه"كما يقول علي بن أبي طالب، فإن الألسنة التي تفضح أصحابها كثيرة جداً هذه الأيام. والحق يقال إن بعضها ساهم طوال السنوات المنصرمة في تشويه صورة رفيق الحريري، ولست أعني هنا أولئك الذين خالفوه الرأي أو ساجلوه في السياسة والاقتصاد والعمران، فتجربته الاستثنائية تستدعي خصومات استثنائية أيضاً وتستوجب السجال والنقاش وتحتمل النجاح مثلما تحتمل الفشل. لكنني أشير الى حملات التجني المبرمجة و"المفبركة"التي لم تنطلق في سجال منطقي وموضوعي مع الرجل، بل انطلقت من الكيدية والكراهية والحقد. ولئن ساهمت تلك الحملات في تشويه الصورة في حياة صاحبها، فإن"السكوت"عن أجزاء أخرى من هذه الصورة وطمسها ونسيانها بعد الاستشهاد تجعلها ناقصة وغير مكتملة، لأن مسيرته واحدة لا تتجزأ. واكتمال الصورة أمرٌ لا يستطيعه سوى أهل الشهيد وأولياء الدم الذين يطلبون العدالة لا الثأر. فالثأر قد يطاول البريء أحياناً، أما العدالة فهي القصاص المُنصف الذي ينزل بالقاتل. والعدالة وحدها تنصف رفيق الحريري بعدما حرمه المخبوؤون تحت ألسنتهم من الإنصاف في حياته وفي استشهاده. والعدالة حق لا يستطيع أحد إنكاره على أهل الشهيد الذين يستيقظون هذا الصباح ليقولوا له: كل عام وأنت... فلا يجدون سوى صورة معلقة على جدار.