يتواصل صدور "كتاب في جريدة" مقدماً فائدة لقارئ الشعر ودارسه، خصوصاً وسط حال من الانقطاع تشهدها الأصوات الشعرية العربية، بعضها عن بعض، في عدد غير قليل من عواصم الشعر في العالم العربي. صدر العدد حاملاً قصائد لشعراء من تونس وليبيا. وبداية نذكر أنه في كل مرة يمكن أن تصطدم المختارات، أي مختارات، برفض وقبول. لا يمكن أن تؤدي المختارات إلا إلى شاعر ناقم أو سعيدٍ باندراج تجربته في كتاب مع أقرانه. وينطبق ما قيل عن اختيار الشعر ومنتخباته على ما قيل قديماً: إرضاء الناس غاية لا تُدرَك! ما إن تصدر مختارات شعرية حتى تبدأ أقلام ساخطة نقداً ورفضاً، ولا يكون السبب في معظم الأحوال سوى أن هذا أو ذاك لم يكن مشمولاً في الكتاب. كان من الملائم صدور عدد خاص من"كتاب في جريدة"عن شعراء ليبيا وتونس، إذ تبيّن أن معظم المواهب العربية الجديدة لا تتواصل بعضها مع بعض ولا تتعرف الى تجاربها المتباينة. فمن هو مشهورٌ في المغرب، مثلاً، ليس بالضرورة أن يكون كذلك في بيروت، والعكس صحيح. قد تتسبب المعايير في جزء من الظاهرة، إنما السبب الأساس، وبالقطع، هو عدم التعرف الى التجارب الأدبية، قراءة، في المقام الأول وهو شيء أشار له معد العدد الشاعر المنصف الوهايبي في مقدمته بحيث أشار إلى أنه اضطر للسفر إلى ليبيا للتعرف إلى شعرائها مبيناً أنه يجهل الكثير منهم. وتكاد كل عاصمة تنغلق على شعرائها، خصوصاً الجدد. من هنا فإن لسلسلة"كتاب في جريدة"أن تسد هذا النقص عبر شبكة اتصال منتخبة، لن ترضي في النهاية كل الأذواق، بطبيعة الحال، إنما لعلة في فكرة الانتخاب الشعري نفسها، في المبدأ، وليس في انتخاب بعينه. لذلك تُنْتِج أي مختارات خصوماً ساخطين على الفور. ولن ننسى أن التراث العربي ذاته حمل شواهد على ذلك في كل"طبقات الشعر"وما يعتبره عبدالله بن سلام، مثلاً، من الطبقة الأولى، لا يراه ابن المعتز كذلك، وهكذا. حفل العدد بتجارب متنوعة، سواء في الجيل أو نوعية النص الأدبي. نقرأ في شعر التفعيلة والنثر على السواء، فالشاعر الوهايبي تعامل مع النصوص المنتخبة في الشرط الذاتي بحيث أن النثر يبرر النثر والتفعيلة كذلك، وهو أهم حد من حدود الموضوعية حيث يتحتم على المتن طرح دفاعه الداخلي صوغاً وأدوات. من الشعر الليبي نقرأ عن مفتاح العماري، وهو شاعر معروفٌ من مواليد 1956، وعن الشاعر صالح قادربوه وهو من الشعراء الجدد، والشاعر خالد درويش الذي ينتمي إلى جيل قادربوه نفسه. ومن جيل يكبر جيل درويش وقادربوه الشاعرة الليبية سعاد سالم ومثلها أيضاً الشاعر محي الدين محجوب والشاعر سالم العوكلي. أما الشاعرة فوزية سالم الشلابي فهي من مواليد 1955 والشاعر عاشور الطويبي من مواليد 1952 وكذلك إدريس ابن الطيب. يظهر التنويع سواء في الجيل الأدبي أو اللغة الأدبية وكذلك الصوت النسائي. وهي من سمات نجاح المنتخب الشعري، عموماً. الشعر التونسي لم يختلف في نظام الانتخاب عن قرينه الليبي، إنما تبدو أجياله الأدبية أكبر قليلاً من الليبي، فعلي اللواتي من مواليد 1947، ومنصف الوهايبي، وخالد النجار، ومحمد الغزي، من مواليد 1949 أما الشعراء الصغيّر أولاد أحمد، وعبدالله مالك القاسمي، ومنصف المزغني، وفتحي النصري، ويوسف خديم الله، فهم من مواليد الخمسينات جميعاً. أما عبدالفتاح بن حمودة، وحافظ محفوظ، وباسط بن حسن، فهم من أواسط الستينات، يخرج عن ذلك نزار شقرون، ومنذر العيني، الأحدث سناً. أما الشاعرتان جميلة الماجري، وآمال موسى، فلم يتم تحديد جيلهما. عرف الاختيار كيف يوازن بين الأجيال المنتخبة وأظهر الصوت النسائي. ولكن في الأساس يبقى النص هو الذي ينتخب قارئه، ولن يمكن كما أسلفنا أن تكون المختارات صورة عن كل المعايير. وهي مسألة عصية على التغيير إذ كلما حُدِّد معيارٌ للانتخاب يتولد معيار مناقض للحجب. والأهم، هنا، أن"كتاب في جريدة"يقدم للقارئ العربي نماذج عن الأدب ولا يطرحها كانتخاب للشعراء بل للشعر وعمومِ التجربة، وما على المهتم إلا أن ينوع في أدوات اتصاله ومعرفته، بحيث تبقى كل مختارات، في المبدأ، جزءاً من سيرورة الأدب وتطوره، سواء كان"إرضاء الناس"غاية مدركة أم غير قابلة للإدراك!