ما من حقبة اشتد فيها الصراع على الكلمات والمعاني مثل هذه، كلمات مثل"الشرعية"و"الميليشيا"، وتمثيل الأمة، وما شاكل. هذا التنازع على المعنى يذكرني بقولة شهيرة لفيلسوف ما بعد الحداثة، ليوتار، الذي حذر مجايليه من ان حروب المستقبل ستنشب، اذا ما نشبت، حول المعرفة والمعلومات لا على الموارد والاسواق. لا ريب ان صراع المعاني أقدم، الا انه يندرج الآن في ثنايا حرب المعرفة والمعلومات. واجهت اول هذه الحروب وأنا يافع بالكاد أميز المعاني، في عراق ما بعد ثورة تموز يوليو، الحرب على كلمة واحدة: هل القومية العربية"متحررة"، كما يلهج اليساريون، أم"خالدة"كما يصر العروبيون، وبالذات البعثيون منهم. اقترح مدرس لغة عربية محايد ازالة النعتين والاكتفاء بالأصل، فانتهى نزيلاً في المستشفى. وكانت مثل هذه الحوادث غير الحميدة تنمو احياناً الى شجار أكبر، بل تقاتل بالسلاح الابيض وغيره. ويشهد العراق اليوم بداية لمعركة مماثلة، تدور هذه المرة حول تعريف كلمة"ميليشيا"، او كلمة"مقاومة". الكلمة الاولى، تخرج من أردية المعاجم مسربلة بكل ما ينفي عنها الشرعية. اما الكلمة الثانية فتدخل رحاب السياسة الشرعية بكل ثقة. والصلة بين الاثنين ليست معدومة. فما من"ميليشيا"إلا ولها اغراض او غايات سياسية، بصرف النظر عن مدى شرعية هذه الغايات، او مدى قبول المجتمع لهذه المآرب عينها. وما من"مقاومة"إلا ولها ميليشيا خاصة بها، تؤلف مركز الثقل في جهازها. وتستخدم هاتان الكلمتان في العراق بشحنات قوية من العاطفة الجياشة، أينما نولّي وجوهنا في عالم السياسة الدموي، المضطرب. وبالطبع ليست ثمة اكاديمية مختصة بتحديد المعنى النهائي للكلمات، فاللغة هي ما يدرج الناس على استعماله على رغم أنف القاموس المحيط، او المنجد، والحقوق المستمدة من الكلمات تحميها البنادق او تهددها القوة العاتية. خذ كلمة ميليشيا. تفيد الميليشيا، وهي ترجمة صوتية للأصل، نوعاً من القوات العسكرية غير النظامية، قد تكون مكملاً وتابعاً للقوات النظامية او قد لا تكون. وكانت الدولة العثمانية، مثلاً، تستخدم المسلحين الأفراد في المدن، او محاربي القبائل في حملاتها التأديبية او حروبها الخارجية. وكان لهذه الجماعات المسلحة غير النظامية اسم طريف هو"عسكر جتة"، وكلمة"جتة Chata"بالتركية تعني الفوضى، او اللاالتزام. وقد دخلت هذه الكلمة العامية العراقية صفة لكل شخص"فالت"في تصرفه وسلوكه وآدابه، او في عمله ودراسته. فهو متحلل مثلاً من واجبات اعالة أسرته، او الالتزام بالدوام وما الى ذلك. وتلمس هذه المعاني لب الموضوع الخاص بالميليشيا. فهي خلافاً للقوات النظامية، لا تخضع للضبط إلا اذا رغبت، وهي عادة لا ترغب. كما ان امكانية تحديد مسؤولية هذه القوات عن التجاوزات القانونية شبه مستحيلة نظراً لعدم وجود تسلسل مراجع، او مرجعيات محددة لإصدار الأوامر، وما شاكل. وفي كل حال تدخل الميليشيات في باب القوات غير النظامية من أوسع أبوابه، لكنها تدخل ايضاً باب القوات غير الشرعية. ذلك ان فكرة وواقع الدولة الحديثة يقومان على احتكار الدولة لوسائل العنف المشروع. يعرف هذه المقولة كل علماء الاجتماع وعلماء السياسة وفقهاء القانون. مع ذلك تجد ان الفكر السياسي في المنطقة العربية يكاد يكون أعجف، سقيماً، بلا أية قواعد عقلانية للحكم او النقد. فتراه يقبل بأي خرق لمبدأ"احتكار وسائل العنف المشروع"باسم شرعية ثورية مزعومة، او شرعية ذاتية غير مسندة بتفويض شعبي مبدأ قبول الأكثرية. نجد هذه الأعذار والتبريرات لظهور الميليشيات في كل البلدان العربية تقريباً، وبخاصة لبنانوفلسطين، كما نجدها اليوم في العراق. فمثلاً تجد من يصف جيش المهدي، وهو حركة سياسية مسلحة، بأنه محض جيش عقائدي وليس ميليشيا، كأن الميليشيات بلا عقائد، او ان العقائديين بلا ميليشيات. ليس هذا جوهر المسألة، فجوهرها ان الحركة هي مزيج من حزب سياسي له تنظيمات، وجماهير، ومكاتب، وصحافة، الخ. وميليشيا مسلحة لها كل مواصفات القوات غير النظامية التي تنازع الدولة احتكارها لوسائل العنف الشرعي. وينطبق هذا التوصيف على كل قوة مسلحة في العراق تقع خارج نطاق مؤسسات العنف، ويرتكز هذا على واقع ان هذه المؤسسات تخضع لهيئات منتخبة، ولم تعد تستند الى شرعية"ذاتية"، أي معلنة من صاحب العلاقة. وهذا القول ينطبق على"المقاومة"، مهما بلغت درجة شرعيتها او لا شرعيتها بنظر المراقب. فالمقاومة في بلد يفتقر الى مؤسسات وطنية داخل البلد للحكم، ويعيش في حالة فراغ دستوري - سياسي، يطلق العنان لمزاعم شرعية او شرعيات متضاربة لن تحسم إلا بصناديق الاقتراع اذا كان المجتمع يقبل بالانتخابات اساساً للشرعية او تحسم بالقوة الساخرة اذا كان المجتمع يخلو من أي مدركات قانونية للشرعية الحديثة. والحال ان خطاب"المقاومة"أخذ يفقد وهجه تباعاً، بتحول أهدافه من القوات الاجنبية الى الاهداف العراقية، الثقافية والدينية والاقتصادية، وصولاً الى الذبح على الهوية. وبات خطاب"المقاومة"حتى عند اشد انصارها يحوي استدراكات من قبيل"المقاومة النزيهة"او"الشريفة"، تمييزاً لبعض النشاطات عن غيرها، واشتد هذا التمييز بعد ان اخذ العراقيون يتساءلون بعامة عن علاقة العداء للامبريالية بمراقد الأولياء، او قتل الحلاقين، او تعطيل شبكات الكهرباء. وعلى رغم ان هذه الاسئلة وغيرها ذات طابع أخلاقي او سياسي، فإن المسألة الأهم التي تقرر او تلغي الحق في انشاء ميليشيا لأغراض"مقاومة"او لأغراض"معارضة"، هي الآتي: هل يقوم النظام السياسي على تفويض شعبي أم لا؟ تلك هي ركيزة الشرعية الوحيدة في عالمنا المعاصر. وان توجه أحد عشر مليون عراقي الى صناديق الاقتراع ليس واقعة هامشية الا في نظر العمى الايديولوجي الذي لا شفاء منه. ان الدفاع عن الميليشيات في عراق اليوم فاقد لكل شرعية. وأجد التلاعب بالأسماء والتعاريف مجرد بهلوانيات كلامية لا طائل من ورائها. وان كان لها من قيمة او معنى حق فهي ان اصحابها يصرون على البقاء زعماء محليين، بدل ان ينضجوا ليصبحوا قادة دولة ومجتمع. نجد مثل هذه الكاريكاتيرات في فلسطين بعد نجاح حماس، وهي الآن في الحكم على اساس تفويض قانوني شرعي. الا ان سلوكها لا يزال محكوماً بعقلية الميليشيات. فهي ترى نفسها حركة تعتمد على مسلحيها، وليس حكومة تعتمد على مؤسسات الدولة. وثمة طيف من هذه المعضلة في لبنان، منذر متوعد. كلما أنعمنا النظر في مفصلة الميليشيات عاد التاريخ العثماني كله الينا. فهو تاريخ بدايات تأسيس الدولة الحديثة، بجهازها الاداري الممركز، وجيشها النظامي الدائم، وقانونها الاساس المدون. ألم تشهد اسطنبول اول ثورة على اول مصلح اراد انشاء جيش دائم! ما زلنا نراوح منذ قرن، مثل السلاحف، على تخوم الدولة الحديثة، نبني بيد ونهدم بأخرى. لا أجد لهذا الدوران حول النفس من مثال سوى دابّة الناعور. لعله تشبيه قاس.