إذا كانت أميركا ما نقول فلماذا طموح نصف العرب ان يهاجروا اليها؟ أميركا هي ما نقول إلا أن بلادنا أسوأ، وسأكتفي اليوم بالشعر لا السياسة، بعد ان هجرته زمناً، فالصديق نزار قباني رحل عنّا، وكذلك الصديق يوسف الشيراوي الذي كان يتحفني بمعارضات لما اختار. اما الدكتور غازي القصيبي فهو الذي قيل فيه"إدعِ لصاحبك بالسعادة بتخسرو"، فهو مشغول عنا بالعمل الوزاري بعد ان كانت مداعباته أيام السفارة في بلاد الانكليز أجمل من أي سياسة. عدت الى الشعر والأدب وأنا أستعد لمؤتمر عن العرب في أوروبا، بعد ان غلب على تفكيري اثناء العمل الجاد من مصادر دور البحث وغيرها بيتان معروفان لم أستطع طردهما من بين سطور الدراسات العلمية المحقّقة هما: تغرّبْ عن الأوطان في طلب العلى وسافرْ ففي الأسفار خمس فوائد تفريجُ همّ واكتسابُ معيشةٍ وعلمٌ وآداب وصحبةُ ماجد وزدت على ما سبق بيتاً مرتبكاً من واقع الحال: ومع ذا وذا حرية للحكي أو للصمت والنأي عن ظالم أو فاسد. لماذا يريد العربي ان يكون في أي بلد غير بلده؟ لماذا يسبح انسان الى حتفه وهو يحاول البحث عن حياة افضل في أوروبا؟ هل احتاج أن اسأل. شعر الغربة من عمر الشعر العربي نفسه، وان اختلفت الأسباب، وامرؤ القيس قال: لقد طوّفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب غير ان امرأ القيس كان يحاول ملكاً، والعربي يطوف في الآفاق الآن ليأكل. ووجدت بمعنى بيت امرئ القيس بيتاً للبحتري هو: وكان رجائي أن أعود مملّكا فصار رجائي ان أعود مسلّما وجدت شعراً ما يحث على السفر وما يحذر منه. ومن الأول: وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجيته فاغترب تتجددِ فإني رأيت الشمس زيدت محبة على الناس ان ليست عليهم بسرمد ومثله: تلقى بكل بلاد إن حللتَ بها أرضاً بأرض وجيراناً بجيران ولكن كان هناك من حذّر من الغربة، وأختار بيتين من شعر للأعشى ورد أيضاً في ثلاثة أبيات: من يغترب عن قومه لم يزل يرى مصارع مظلوم مجرّاً ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا وكبكب جبل قرب مكة، وقيل أي جبل عالٍ. وفي مثل ذلك يقول الصفدي نثراً: النوى توى أي هلاك، والغربة كربة، والسفر سَقَر، والشتات موات، والافتراق احتراق. المشكلة قديماً وحديثاً ان الانسان يخرج من الوطن الا ان الوطن لا يخرج منه، فهو يحن اليه ويريد ان يعود، وبين أقدم الشعر العربي وأشهره: وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر ومن الحديث الذائع قول أحمد شوقي: وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني اليه في الخلد نفسي وبين هذا وذاك قال أبو تمام غزلاً، ولكن بالمعنى نفسه: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل بعضنا يسافر ليعود والحنين لأول منزل لا يتركه، وبعضنا يسافر لينسى من أين جاء، فقد شفاه الفقر والظلم والألم من كل حنين، مع أنه ربما ظلم في الخارج كما في الوطن، ونحن نرى كل يوم أنواع العنصرية ضد المهاجرين العرب والمسلمين في كل بلد، إلا أن هذا ليس جديداً وقد حملت إلينا كتب الأدب التحذير: الغريب لا يستطيع رفع الظلم. يتعرض للهلاك جذباً وسحباً. اذا أحسن أُنكر إحسانه، وإذا أساء بَدَتْ إساءته كنار على قمة جبل كبكب السالف الذكر شعراً. ربما كان هذا صحيحاً قبل ألف سنة، غير ان الصحيح اليوم هو ان بعض المهاجرين العرب والمسلمين يسيء الى البلد المضيف، وهناك من يشجع على الارهاب، بل هناك من يمارسه. وفي حين ان هؤلاء عُشر واحد في المئة فانهم يسيئون الى المجموع، وهذا مثل طعام نظيف، حتى لا نقول انه شهي، إذا بُصق عليه يفسد كله ولا يريد أحد أن يقترب منه. الفقر في الوطن غربة، والغربة أصعب من دون فقر، فكيف وبعض المهاجرين يفشل في تحقيق ما سافر من أجله، وما حلم به طويلاً، وما وعد الأهل في الوطن بتوفيره لهم من العمل في الخارج. الهجرة الاقتصادية هي الغالبة مع ان هناك لاجئين سياسيين حقيقيين، وآخرين دجالين. ولا أحد يهاجر الا مرغماً، فهو لو توافر له الحد الادنى في بلاده، لما فكر في غيرها. وفي حين ان السعادة حق دستوري في أميركا، فانها لم تعد مطلب العربي في بلده، وأكثر ما يريد هو ان يتجنب التعاسة. قيل لإعرابي: ما السرور؟ فقال: الأمن فإنني رأيت الخائف ما ينتفع بعيش. قيل له: زدنا، فقال: الصحة، انني رأيت المريض ما ينتفع بعيش. قيل له: زدنا: فقال: الغنى فإنني رأيت الفقير ما ينتفع بعيش. قيل: زدنا. قال: ما أجد مزيداً. بعد ألف سنة لا يزال كلام الإعرابي صالحاً، فالمواطن يريد الأمن والصحة والرفاه، وبعض دولنا يوفر شيئاً من هذا وذاك، أما بعضه الآخر فيجعل كل مواطن يحلم بالهجرة ولو سباحة وسط سمك القرش لأنه أرحم مما ترك. وأنا، وقد أقمت في الغرب أكثر مما أقمت في لبنان، لا أزال إذا رأيت شرطياً أزرر الجاكيت وانتقل الى الرصيف الآخر، ومَنْ لسعته الحيّة يخاف من الحَبْل. أترك القراء مع صديق بدا سعيداً وهو يحدثني انه عاد من المهجر الى بلده زائراً، ففُتشت حقائبه في المطار، وأُرغم على دفع رسوم جمركية عن الهدايا، وعندما وصل الى البيت وجد أن هدية سُرقت. وقلت له: لماذا تبدو مسروراً بهذه المعاملة؟ ورد: لأنها تجعلني لا أشكو من الغربة.