القيادة تعزّي أمير وولي عهد الكويت.. وتهنئ رئيس الكونغو    أداء مطاري الجوف والقريات على طاولة فيصل بن نواف    استعراض "بيدي" لتأهيل الفتيات أمام سعود بن نايف    نمو صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي يعزز مكانة المملكة كمركز استثماري إقليمي وعالمي    أمير جازان يستقبل مدير الشرطة والمرور بالمنطقة ويطلع على تقرير المرور    لاعب برشلونة يرد على النصر    شبكة القطيف الصحية تنظم دورة تخصصية في تمريض النساء والتوليد    رئيس مجلس الشورى يصل إلى مملكة كمبوديا في مستهل زيارة رسمية    نمو أصول صندوق الاستثمارات إلى 4.32 تريليون ريال وإيرادات 413 مليار ريال    حملة توعوية وتثقيفية على مغاسل الملابس بالظهران    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزة إلى 58 شهيدًا    أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزتي المواطنة المسؤولة و"صيتاثون" في دورتها الرابعة    غرفة الشرقية تناقش دور القطاع الخاص في البرنامج الوطني للتشجير    فهد بن سعد بن فيصل يطلع على أبرز البرامج والإنجازات لتجمع القصيم الصحي    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية    أمير جازان يستقبل قائد قوة الطوارئ الخاصة بالمنطقة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشن عددًا من المشروعات بجامعة جازان    "الشمري": يزور مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة    جمعية "وقاية" تنظّم معرضاً توعوياً وندوة علمية بمستشفى وادي الدواسر    السمنة مرض مزمن لا ضعف إرادة    لمسة وفاء.. سلطان بن أحمد السديري    الاحمدي يكتب.. جمَّلتها ياهلال    البيعة الثامنة لولي العهد بلغة الثقافة والفنون    هيئة الموسيقى السعودية وعازف البيانو الصيني وأول برنامج صيفي لتعليم البيانو في المملكة    سعد الصقير أول طبيب أمراض جلدية من دول الخليج يحصل على وسام القيادة الدولية في الأمراض الجلدية لعام 2025    كندا تلغي ضريبة الخدمات الرقمية    تصعيد متبادل بين العقوبات والمواقف السياسية.. روسيا تشن أعنف هجوم جوي على أوكرانيا    التعليم في ميزان المجتمع    توقيف شخصين ظهرا في محتوى مرئي بسلاحين ناريين    نقل 1404 مرضى داخل المملكة وخارجها عبر 507 رحلات إخلاء    الملكية الفكرية ليست مائدة نقاش ديني.. بل مبدأ لا يُمس!    ترسيخ الحوكمة وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة.. السعودية تقفز إلى المرتبة 13 عالمياً في حقوق الملكية الفكرية    موجز    المملكة تقود تعاوناً دولياً لدعم الطاقة النظيفة    انطلق في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.. "جيل الابتكار".. يعزز ثقافة البحث لدى الموهوبين السعوديين    ما عاد في العمر متسع للعتاب    مادتا التعبير والخط    بحثا جهود الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الإيرانية يستعرضان العلاقات    مدرب تشيلسي ينتقد الفيفا ومونديال الأندية    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    وزارة الخارجية تُعرب عن تعازي المملكة لجمهورية السودان إثر حادث انهيار منجم للذهب    نائب أمير مكة والقنصل العراقي يناقشان الموضوعات المشتركة    رئيس "الشورى" يبحث تعزيز العلاقات البرلمانية في كمبوديا    دواء جديد يعطي أملاً لمرضى السكري من النوع الأول    "الصحة العالمية" تفشل في تحديد سبب جائحة كوفيد- 19    أخضر السيدات يخسر أمام الفلبين بثلاثية في تصفيات كأس آسيا    الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في خمسة مواقع    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    فاطمة العنزي ممثلة الحدود الشمالية في لجنة المسؤولية الاجتماعية بالاتحاد السعودي للدراجات    استعراض أعمال الشؤون الإسلامية أمام أمير تبوك    الجامعة الإسلامية تدعم الأبحاث المتميزة    "الملك سلمان للإغاثة".. جهود إنسانية متواصلة    بعنوان "النمر يبقى نمر".. الاتحاد يجدد عقد مدافعه "شراحيلي" حتى 2028    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصلَ العام لجمهورية العراق    أمير تبوك يطلع على التقرير السنوي لاعمال فرع وزارة الشؤون الاسلامية بالمنطقة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ جولات ميدانية لصيانة جوامع ومساجد المنطقة    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيء والبعض ... وماذا بعد ؟
نشر في الحياة يوم 01 - 04 - 2007

الشيء بالشيء يذكر. والشيء أمر وجماد. لو شاء الشيء لما كانت له مشيئة ولا حراك. هو الممسك به المنسوبة اليه تسمية لغير مسمّى. يلجأ اليه عند الضياع، ويرجع اليه عند النسيان.
وفي ذلك كله إخراج من عثرة واشارة الى مفقود ينطق به اللسان تعويضاً عن وعي ناقص وامساك صحيح، يشخص وقت اللزوم هرباً من خيانة الذاكرة والإلمام المحرّف بذات الكائنات والأحداث. وحده الحي عصي عليه، ينفر من داره الواسعة، وكأنما اختصّهُ بدور السند والبناء على المقتضى، وأفسح به للمخاطِب سيل الكلام ودروبه، ينقدُ تلعثمه ويعينه على اجتياز امتحان التعريف ودقة المعلومات.
وظائف الشيء تعدّ ولا تحصى في معرض السرد والوصف والكيل والقياس. ولعلها تفوق كل مصطلح آخر، وتستهوي كل طالب إيقاع في المقدار والكمّ والحكم والإضافة والتمثل والإقرار. مع ذلك ثمة نزعة لإنزال التشييء في ما لا يحتمله واقحامه في دائرة المعلوم بغية جني الغموض والتستر على ضآلة الحجة. وهذا غالب رائج في الحقبة القائمة من دورة التاريخ، يسوَّغ إخفاء المُراد والخروج من حكم الحقائق إضافة لذلك الازدراء بقيمة الموجودات وإحلالها سقطاً يابساً في مجرى الحياة. فحين يجاز الاستخفاف بعقول المواطنين وكرامتهم، يسلب كيانهم ويلحقون بعالم الأشياء، خاضعين لأوصافها ومدرجين في مرتبتها.
الشي فاقِد لنبض الناسوت، لا قدرة له على الانتصار لذاته، والردّ على ما يلصق به. صمته اجازة لسواه في الاستيلاء عليه وتسخيره واختيار موقعه في مبنى منطق السببية واستخراج الخلاصات. كلمة سحرية يقصدها كل قاصد ابهام، يتوسل بُكْمها جسراً لرابط واهٍ وتأسيساً لمقولة خاطئة. المؤامرة من اخواته، والإجماع من نتائجه في عالم السكون والصمت القاتل، يفي بأغرب التركيبات الفكرية المذهلة، ويستعيض به اصحاب الرأي المطلق المتفلتين من واجب المساءلة والمبغضين لمبادئه في الأساس. لذا تحوّل ملاذاً لمحترفي الانتقائية وتحريف الوقائع، يتلطون بخيمتهِ ويغرفون من هيولته شتى المبتكرات، ويبنون على جسدهِ المغفل الانجازات والأمجاد.
يكفي استعراض المشهد الحالي لبيان الدور المناط بالشيئيّة في صلب الأمور المصيرية. ففي لبنان، مثلاً، يحتلّ الشي المقام الأرفع في تحليلات رأس هرم السلطة، ويكاد يفسر كل الظاهرات والمآسي.
وعلى رغم مرور ما يقارب عقوداً ستة على ضياع القسم الأكبر من فلسطين، ما زالت غاية الكفاح الأسمى لدى فصائل عدة شيئاً غير معلوم يتأرجح بين انهاء احتلال اراضي 1967 واستعادة كامل تراب 1948، والحرب الألفية على الاستكبار وأعداء الدين.
وفي مجال اوسع، وبشحطة قلم قومي متعصب قلّما خضع لمساءلة جدية، شطبت قوميات من فضاء الكينونة والحقت قسراً بأماني الأمة، بدعوى ضرورة ذوبانها في المحيط الثقافي، أشباحاً غير قابلة للتمييز والتمايز، لا صفة أو حياة لها من ذاتها، مرتهن وجودها بانصهارها في البوتقة الشاملة، أي، عملياً، فقدانها الشخصية وهبوطها إلى قائمة الأشياء. فالكرد عراقيون قبل أن يكونوا أكراداً وأبناء الجبال في تركيا المجاورة والا لاحقتهم وفتكت بهم وصمة الانفصال، والبربر مشروطة هويتهم بانتسابهم إلى حصن الموالي وتخليهم عن لغتهم الأصلية البدائية التي تسقط أمام المقارنة بالعربية، تحت طائلة استمرار تشييئهم ومحاصرة"عروشهم"القبلية المتهالكة، وعشرة ملايين مقترع عراقي ونيّف، كم هزيل من أشياء لا عبرة له ازاء العهدة الموكولة إلى زعيم"القاعدة في بلاد الرافدين"والرسالة التي يحملها لاحيائهم واعلاء شأنهم بتصفيتهم وبعثرتهم اشلاء على طريق الظفر والغزوة المباركة. وقريباً منا، تعهد الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد بابقاء شعلة الممانعة والمعاندة، ووجد السبيل إلى ذلك في أشياء لا تموت في قاموس العنصرية، وأشياء لم تمت لأن المحرقة أسطورة مختلقة من وجهة نظر منحازة لا تصمد أمام عاقل.
يربط أقصر الطرق الشيء بالبعض في ما يلف الحياة العامة ويسكن أروقتها. وغالباً ما يرافقه في ثنائية معيارية غامضة ترجمتها بعض الشيء، تتوخى واقعاً الحذر من الجزم لقلة الثقة بصحة المقال أصلاً، والقعود بين حيص وبيص باختزال حمّال اوجه يستوعب الدلالة المنقوصة، ويتجنب ميزان الخطأ والصواب بعدم تحديد المقادير، تاركاً للبعض مساحة مفتوحة وللشيء استكمال المهمة. بعض الشيء جنة المراوغين والديماغوجيين المنافقين، يدلون به هرباً من المسؤولية وتخفيفاً من وقع. هكذا يلجأ منظِّرو الشمولية ومبرّرو الجمود إلى اختصار المطلوب من إصلاح ببعض الشيء، وإلى الاعتراف بعض الشيء بنواقص أنظمتهم ومنظوماتهم تخفيفاً من وطأة قبضتها وتذويباً لمساوئها في بحر من الايجابيات المحققة.
لكن"بعض"يحظى وحيداً بحياة خاصة ومساحة عريضة في أدبياتنا على مختلف اشكالها، وبخاصة في الحقلين الثقافي/ الفني والسياسي. هنا يدخل القارىء والسامع عالم التجهيل المقصود بنعمات البعض المكررة والمقامة ساتِراً يعفي من البوح بأسماء المنافسين والاخصام والأخوة الأعداء. ويتبيّن مدى العبث بقاعدة ابن خلّكان القائلة"لا تبعيض في اللغة"فكم بالحريْ في مشتقاتها.
إنّ شيوع الاستشهاد بالبعض وايراد ذكره في معرض النقاش والنقد، خاصية تتعلق بإطار ذهني يأبى الوضوح والتوضيح ويستأنس الغمز واللمز. في هذا الاطار اشتق أسلوب، هو أقرب للحيلة والتقية منه للتحديد والافصاح، وشكل من الالتفاف والدوران بغية ابقاء شعرة معاوية أو عدم قطع الجسور مع الآخرين. غير أن هذا السعي الهادِف دوماً إلى عدم الانجرار وراء ما يخشى من"مهاترات"، إنما يستوي ضمن منطق أشد ضرراً على صدقية الرأي، يجعل من نتائج المساجلة والمحاججة وقفاً على نادي قلة من المُتنازعين العرَّافين ويترك الباب مفتوحاً لتسويات غريبة بعيدة من المبدئية وأصول الديموقراطية.
لقد درجت العادة على تصنيف الناس فئتين مُتباينتين: أهل الداخل وأغيار الخارج. لكل من الفئتين منزلتها، ولكل منهما اعتبار، وبالتالي تتموَّج لغة الإشارة بحسب الخانة. لأهل الداخل، بالمعنى المحلي والعربي الواسع، لون من التعمية على المتنقَدْ وراء ذكر"البعض"، مخافة التسمية الصريحة للمعني، وتحسباً لرد الفعل، يسمح بالتراجع المنظم، والتبرؤ من القصد والخصومة. ولأغيار الخارج أسماء علم وقصف مباشر. تحقيقاً لهذه المعادلة، وجدت المهادنة حيال الداخل ضالتها ودرّتها في البعض، كائناً مجهّلاً وجزءاً من كل غير معرف، وتعبيراً لا يفسد في الودّ قضية ولا يخدش مسامع أحد. فالبعض غني بالالتباسات ماكر قابل للنقض، غير قاطع، محشو باللولبية وممهد للتسوية بين أبناء البيت الواحد وذوي الارحام من"أخوة وأشقاء".
أوليست هذه العصا السحرية خير نموذج للمخادعة اللفظية وراية المجاملة ومجانبة الحسم من مخلفات أسلوب ملتوٍ موروث يلف النقاش ويعطل المواجهة؟ وكيف السبيل إلى صراع أفكار مجد يطرح الخيارات والحقائق إذا اختفت أطرافه وراء رداء الإبهام؟ وماذا يكون إلاّ تراشقاً عشوائياً لا هدف محدداً له لا يعرف منه فائز أو خاسر؟ وكيف يراد بالنقد علاجاً وتطلعاً نحو الأكمل والأفضل، اذا ما ألبس الفاعل القناع؟
يخطر في البال أن يُصار إلى نزع الأقنعة كافة في لحظة انتفاضة. لكن بين الأمنية وواقع الحال بوناً وهوّة لن تردم في القريب. فالطبع غالب إلى زمن مرئي، والبعض إلى عمر مديد، طالما ثابر الشرق على طقوس الاحتجاب وجعل من الرماديّة فضيلة. قد يتجانس هذا المنحنى مع دافع البحث عن المخارج والامتناع عن كسر مزراب العين، ويلبي حاجاته.غير أنه، بالتأكيد، لن يرتقي إلى مستوى المكاشفة الجريئة والمساءلة الهادفة. إلى حين ذلك، ستتأذى الحقائق من غيبوبة الدقة ويميع القصد تحت وابل الكلام.
كاتب لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.