مثيرٌ المعرض الذي افتُتح حديثاً في متحف L"Orangerie باريس في عنوان"رسامو الواقع". فلمناسبة تدشين صالات العرض الجديدة المستحدثة داخل المتحف، أراد القيمون عليه الانطلاق في تظاهرة فنية تعكس بوضوح سياسته الجديدة وتشكّل في الوقت ذاته رابطاً رمزياً بين ماضيه العريق ومستقبله. وهذا ما يبرر خيارهم إعادة تكوين المعرض الذي أقيم في أرجائه عام 1934 تحت عنوان"رسامو الواقع في فرنسا خلال القرن السابع عشر"، والذي لعب دوراً كبيراً في تجديد الاهتمام بهذه الحقبة الفنية، وبأعمال جورج لاتور والأخوة لونان في شكلٍ خاص، مع إضافة صالات جديدة تتجلى فيها التأثيرات التي خلّفها هذا المعرض في فنانين كبار من القرن العشرين، وبالتالي مساهمته المهمة في حركة"العودة إلى النظام"أو"العودة إلى الواقع" التي تجلّت بقوة بين الحربين العالميتين. المعرض الأول كان يهدف إلى إظهار حجم وعمق"الميول الواقعية"- التي كان يجهلها قبل الجمهور آنذاك - ودفعت برسامين من القرن السابع عشر إلى"تأمّل الواقع بانتباه"وإلى استخراج"صورٍ بسيطة ومؤثّرة"منه، كما هدف إلى التشكيك في التناقض الشائع بين الأسلوبين الواقعي والكلاسيكي عبر إبرازه لوحات كلاسيكية لبوسان وكلود جولي إلى جانب لوحات واقعية للأخوة لونان وجورج لاتور وبوجان، أو"باروكية"لفالانتان وفينييون. ومن خلال هذا الخليط المتنوّع من الرسامين، حاول المعرض تسليط الضوء على ثابتة مجهولة وأساسية في الفن الفرنسي:"روحٌ واقعية"تعبر تاريخه وتطبع جميع ميوله، بدءاً بالرسامين البدائيين وحتى شاردان وكورو، مروراً بالحقب التي بدا الأسلوب المثالي فيها غالباً. ولأن توقيت هذه التظاهرة المهمة لم يكن عبثياً، يحاول المعرض الحالي إظهار مدى انسجامها مع حركة"العودة إلى النظام"التي كانت في أوجها خلال الثلاثينات. ولهذه الغاية، يكشف المعرض عن لوحات مهمة لكبار فناني القرن العشرين مثل بيكاسو وماغريت وماتيس وبونار وليجي وبالتوس، يظهر فيها تأثر واضح بأعمال لاتور أو لونان أو بوجان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن خصوصية الفن الحديث تمثلت في كونه في حال قطيعة مع أعراف الماضي وأشكاله، خصوصاً مع مبدأ التقليد imitation. فمع أنه يعكس أحياناً، على طريقته، بعض الترتيبات الواقعية - كما في السوريالية أو الواقعية الجديدة... - إلا أنه يُخضع الوظيفة التصويرية لقيم شكلية مجرّدة ولا يحترم صورة الواقع الأولية كما يبصرها الناس العاديون أو كما شاهدها الرسامون لفترة خمسة أو ستة قرون. ولكن، ما إن سجّل هذا الفن اختراقاً كبيراً في السنوات الأولى من القرن العشرين، حتى ارتفعت أصواتٌ من بين أبرز روّاده تنادي بعدم تناقض الموروث والحديث، وفي مقدمهم بيكاسو وموريس دوني اللذان التحقا بحماسةٍ بأولئك الذين سيُطلق عليهم لاحقاً اسم"رسامو الواقع"، وذهب كل منهما إلى حد تحقيق نُسَخ لبعض لوحات لاتور أو لونان. وساهمت حركة"العودة إلى النظام"بعد الحرب العالمية الأولى، بواسطة إعادة إحيائها للمُثُل الكلاسيكية، في نمو تيار واقعي postmoderne تميّز بأساليب متنوّعة واحتل موقعاً كبيراً داخل فن الرسم الأوروبي في الثلاثينات. ففي إيطاليا، برز التيار الميتافيزيقي ثم أسلوبَي Novecento والواقعية السحرية. أما في فرنسا، فإلى جانب نزعة متعية hژdoniste مع ماتيس وبونار، برز أسلوب واقعي وقور، يصل أحياناً إلى حد التقشف، وتنتمي معظم مراجعه إلى التقليد الفرنسي، وفي شكل خاص إلى القرن السابع عشر، ومن أعلامه رسامون طليعيون مثل أندريه دوران ورسامون أقل جرأة إبداعية مثل شابلان ميدي وأومبلو ورونر. ويتميّز موقف هؤلاء باحترام كبير للواقع وبميلٍ كلاسيكي الى الرسم المتوازن مع تخصيص عناية بالوجه البشري ومعالجته في شكلٍ يعكس الأسارير الداخلية. والمثير هو عدم تردُّد بعض النقاد في تقريب بعض أعمالهم من لوحات تعود إلى القرن السابع عشر، فهل ان الأمر مجرّد تجاذب بسيط؟ الأكيد هو أن هؤلاء الفنانين كانوا من زوّار المتاحف الثابتين، فاستطاعوا التأثر بأساليب"أسلافهم"قبل معرض 1934 أو خلاله، كما يدل استشهادهم أحياناً مباشرة بلوحات كانت حاضرة في المعرض المذكور. فألوان"البورتريه الذاتي مع غليون"1937 وإضاءته وحركته استوحاها أومبلو في شكلٍ علني من لوحة لاتور"حلم القديس يوسف". ولوحة رونر"القيثارة وجاكي"1937، مثل لوحة شابلان ميدي"طبيعة جامدة ورقعة ضامة"1937، مصدرهما لوحة بوجان"طبيعة جامدة ورقعة الشطرنج". أما لوحة أومبلو"لاعبو ورق الشدّة"1935 ولوحة بالتوس"مباراة في ورق الشدّة"1948 فتقتربان بقوة من لوحة لاتور"المخادع". وتتخطى شبكة التشابهات - المعلنة أو المضمرة - في شكلٍ واسع الأرضية المعروفة للتيار الواقعي لتطاول المحدّثين العريقين. ففي لوحات لاتور مثلاً، شاهد هؤلاء قبل أي شيء سلطة الشكل ومعالجة توليفية للنماذج الواقعية تُجسّد مقدّماً التكعيبية وامتداداتها المختلفة في الفن الحديث، المجرّد أو التصويري. ويكشف المعرض في هذا السياق عن تأثر جان إيليون، لدى تحقيقه تلك الوجوه العمودية المجرّدة والمكوّنة من خطوطٍ مترابطة، بهندسة الفضاء التي اتبعها لاتور في لوحتي"أيوب"وپ"القديس جيروم"، وعن تأثر رونيه ماغريت بالمناخ الغامض الذي يطغى على لوحات لاتور، كما يظهر ذلك جلياً في لوحته"نور الصُدَف"1933 التي تشبه في كثير من تفاصيلها لوحة"حلم القديس يوسف". الأمر الذي دفع بالرسام أندريه لوت إلى اعتبار"لاتور أوّل سورّيالي فرنسي". أما الأخوة لونان فيظهر أثرهما في أعمال بيكاسو خلال المرحلتين الزرقاء والوردية 1901-1905، وفي لوحات الرسامين الواقعيين المحافظين وپ"التقدّميين"، وفي أعمال بعض السورياليين مثل أندريه مارشان وكريستيان بيرار وخصوصاً بالتوس الذي استعار منهما تلك الوضعية المتشنّجة والغريبة التي تميّز معظم شخصياته. ولعل حال الغياب والانطواء على الذات التي تتجلى فيها شخصيات لوحاتها هي التي دفعت برسام الفراغ جياكوميتي إلى وصفها"بكواكب داخل الفضاء". أما فرنان ليجي فصنّفهما عام 1924 من بين فناني الماضي الذين"خلقوا أشكالاً جديدة واستطاعوا بالتالي الإفلات من التقليد المبتذل".