فجأة امتلأت الكليبات اللبنانية لمغنين ومغنيات شباب بمشاهد العنف والمطاردات. لعل السبب هو المناخ السياسي والأمني الذي يمر به وطنهم. لكن شبه الأكيد أن السينما وراء هذه "الموضة". فالكليبات مشغولة بتقنيات الشاشة الكبيرة، لا سيما على صعيد بناء المشاهد وتركيبها والحبكة القصصية المترجمة إلى اللغة البصرية. من دون أن يعني ذلك تأكيد نجاح، أو أن الشباب يبدعون العجائب. فالتجربة ما زالت في أولها وتَعِدُ بالمزيد. علماً أن أحلاماً شبابية لبنانية سينمائية وتلفزيونية غنية"سقطت"على الطريق لأسباب لا حصر لها، ما يحبط الشباب ويهدد استمرار تجاربهم ونضجها وربما وصولها إلى السينما، على رغم أن تجربة المخرجة نادين لبكي التي وصلت عبر الكليب إلى السينما، ممثلة ومخرجة، تُعطي بعضَ الأملِ. المخرجة رنده علم من هؤلاء المخرجين. وعلى رغم أن الكليبات التي وقعتها لم تتجاوز بعد عدد أصابع الكفين، منها ثلاثة مع نوال الزغبي وحدها، إلا أنها استطاعت جذب الأنظار إلى تجربتها الخاصة. فأعمالها تمتاز بالحركة أكشن والسرعة والقدرة على تحويل الكليب قصة، أو اختراع قصة للكليب، تحاكي لعبة الفيلم السينمائي. لكن الأهم من ذلك هو أنها تدرك كيف تترجم القصة صوراً ومشاهد كثيفة وواضحة. ففي أحد كليباتها الجديدة،"نور"، مع المغني كميل صوان تلعب بالصورة حتى"الخداع"، في إطار صوغها حبكة أقرب ما تكون إلى فيلم قائم في ذاته. تستفيد هذه الشابة إلى حدود متقدمة من لعبة الالتباس البصري والسردي واستخدام الصور نفسها مرتين في معنيين مختلفين متناقضين. الأولى كأنها صور فوتوغرافية مقتطعة من سياقها الحقيقي وبالتالي في غير معناها الحقيقي. أما في المرة الثانية فترد الصور في شريطها الأصلي كما التقطت من دون تزوير أو مونتاج. وهنا يكتشف المُشاهد أنه أسير لعبة خداع الصورة الممنتجة والمخرجة، وأن الصور التي رآها في مطلع الكليب بوصفها مشهداً غرامياً إباحياً جريئاً بين حبيبين هي في الأساس مشاهد من شريط جريمة، وتحديداً أثناء سقوط الحبيبة عقب إصابتها بطلق ناري في ظهرها ومحاولة حبيبها التقاطها واحتضانها، إلا أنها تمزق قميصه ويتهاويان معاً على الأرض. هكذا، تقترح رنده علم خلال دقائق قليلة قراءتين ومعنيين للصورة الواحدة، وتستخدم المعنيين في إطار صوغها قصة تقول نفسها بسرعة وكثافة من خلال الصورة. بل إن تلك القصة وتلك الصور المتكررة تحضر بقوة وتنافس الأغنية التي تختفي ليغدو المُشاهد يشعر بها كإيقاع عميق جداً، كما لو أنه يرى القصة بشكل حي. وكأن المغني الذي هو الحبيب في الكليب يتذكر إلا أن الذاكرة أقوى من صوته ومنه. أليس هو أسير تلك القصة التي يصورها الكليب والتي لم يخرج منها بعد! وإذا كانت المخرجة صوفي بطرس، في كليب أغنية"أحبائي"مع شقيقتها جوليا بطرس، تثبت قدرة على إدارة التصوير سينمائياً وتحويل الأرض والإنسان وقيم أخلاقية أخرى إلى لغة بصرية مرسلة على نحو شعري وتأطير ذلك كليبياً في خدمة أغنية ومغنية، فإن المخرج وسام سميرة، في كليب"واحشني إيه"مع ميريام فارس، يقارب السينما من زاوية أخرى. فهو ينسخ الأفلام، لا سيما التي تنتمي إلى الحركة والمطاردات. من اللحظة الأولى حتى الأخيرة في الكليب لغته مأخوذة بالأفلام الهوليودية ومنها، ومفرداته مستهلكة: امرأة مثيرة بثياب الجينز التي تصلح لرقص الباليه ميريام فارس طبعاً، سيارات سباق، موقف سيارات في بناية ضخمة، شوارع عريضة، أضواء فلوريسون، محطة وقود، نظرات المفاجأة والغموض والشهوة، ورجل غائر في العتمة مندفع يرفض فكرة أن تتخلى عنه حبيبته أو فكرة أن هذه المرأة ليست له. لا جديد يقدمه سميرة في تجربته هذه. كأنها تمرين سينمائي على تنفيذ الخدع الفنية التقنية ومنها إظهار ميريام فارس تقود سيارة السباق تلك بسرعة جنونية وثقة نادرة. فالكليب عبارة عن جمع مشاهد من هنا وهناك وإلصاقها ببعضها بعضاً. فحتى القصة البسيطة، وهي أن رجلاً يطارد امرأة أو امرأة تبتعد من طريق ذاك الرجل وتتجنبه تمنُّعاً، كأنها من أفلام كثيرة. وحده"اللوك"التاريخي لميريام فارس يبدو من مكان آخر، خاص نوعاً ما.