خادم الحرمين الشرفين وولي العهد يهنئان رئيس الكونغو بذكرى الاستقلال    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    جامعة جازان تعلن نتائج القبول في برامج الدراسات العليا للفترة الثانية    قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين اليوم    رئيس كوريا الجنوبية يدعو إلى تخفيف التوترات مع كوريا الشمالية    امطار على الجنوب و حرارة على مناطق المدينة والشرقية    استقرار قيمة الدولار    مقصورة السويلم تستضيف المهتم بعلوم النباتات عبدالله البراك"    اقتصاد اليابان ينمو بأكبر من المتوقع    تركيا تندد بخطة الاستيطان الإسرائيلية    الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    انطلاق الأسبوع السادس من كأس العالم للرياضات الإلكترونية    بيع 3 صقور ب 214 ألف ريال    رسمياً .. العبسي اتحادياً حتى 2029    المملكة توزّع (600) سلة غذائية في البقاع بلبنان    الهلال يختتم المرحلة الأولى من برنامجه الإعدادي في ألمانيا    نحو جودة التعليم المحوكم    الاستثمار الأهم    النوم عند المراهقين    السعال الديكي يجتاح اليابان وأوروبا    نادي الحائط يتعاقد مع المدرب الوطني الخبير أحمد الدوسري لقيادة الفريق لأول    الهلال يكسب ودية" فالدهوف مانهايم"الألماني بثلاثية    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    بلدية صبيا تكثف استعداداتها لموسم الأمطار وتحدد أولويات المعالجة    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.1% خلال شهر يوليو 2025    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    حظر لعبة «روبلوكس» في قطر    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    بحضور الأمير سعود بن مشعل .. العتيبي يحتفل بزواج إبنيه فايز وفواز    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    ولي العهد ورئيس كوريا يبحثان فرص التعاون    للمرة الثانية على التوالي.. خالد الغامدي رئيساً لمجلس إدارة الأهلي بالتزكية    موجز    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    19 % نمواً.. وإنجازات متعاظمة للاستدامة.. 3424 مليار ريال أصول تحت إدارة صندوق الاستثمارات    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    الإطاحة ب 13 مخالفاً وإحباط تهريب 293 كجم من القات    الأسمري يزف تركي لعش الزوجية    متحدثون.. لا يتحدثون    الأمن يحث زوار المسجد الحرام على عدم الجلوس في الممرات    (ولا تتبدلوا الخبيثَ بالطَّيب)    ناصر بن محمد: شباب الوطن المستقبل الواعد والحاضر المجيد    فهد بن سلطان يكرم الفائزين بمسابقة إمارة تبوك للابتكار 2025    نجاح عملية دقيقة لأول مرة بجازان    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    مباهاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرم المكي
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 2006

قال الله تعالى في كتابه العزيز:"إنَّ أوّل بيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدًى لِلعالمِيْنَ * فيهِ آياتٌ م بَيِّناتٌ مَّقَامَ إبراهيمَ وَمَنْ دَخَلهُ كانَ آمِناً وَلِلهِِ على النَّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبِيْلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِّيٌّ عَنِ العالمَيْنَ". آل عمران 96-97 صدق الله العلي العظيم.
قال الإمام الطبري:"اخْتَلفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ، فَقَال بَعْضهمْ: تَأْوِيله: إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ يُعْبَد الله فِيهِ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلعَالمِينَ، الذِي بِبَكَّةَ. قَالُوا: وَليْسَ هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الأَرْض، لأَنَّهُ قَدْ كَانَتْ قَبْله بُيُوت كَثِيرَة. وَقَال آخَرُونَ: بَل هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ. ثُمَّ اِخْتَلفَ قَائِلُو ذَلِكَ فِي صِفَة وَضْعه"أَوَّل"، فَقَال بَعْضهمْ: خُلِقَ قَبْل جَمِيع الأَرَضِينَ، ثُمَّ دُحِيَتْ الأَرَضُونَ مِنْ تَحْته. وَقَال آخَرُونَ: مَوْضِع الكَعْبَة، مَوْضِع أَوَّل بَيْت وَضَعَهُ الله فِي الأَرْض.
وَالصَّوَاب مِنْ القَوْل فِي ذَلِكَ: مَا قَال جَل ثَنَاؤُهُ فِيهِ:"إنَّ أوّل بيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدًى لِلعالمِيْنَ"الآية. وَمَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ: أَيْ لِعِبَادَةِ الله فِيهِ مُبَارَكاً وَهُدًى، يَعْنِي بِذَلِكَ وَمَآباً لِنُسُكِ النَّاسِكِينَ وَطَوَاف الطَّائِفِينَ، تَعْظِيماً لِلهِ وَإِجْلالاً له، للذِي بِبَكَّةَ، لِصِحَّةِ الخَبَر بِذَلِكَ عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن المُثَنَّى، قَال: ثنا اِبْن أَبِي عَدِيّ، عَنْ شُعْبَة، عَنْ سُليْمَان، عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرّ، قَال: قُلت يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلّم، أَيّ مَسْجِد وُضِعَ"أَوَّل"؟ قَال:"المَسْجِد الحَرَام"قَال: ثُمَّ أَيّ؟ قَال:"المَسْجِد الأَقْصَى"قَال: كَمْ بَيْنهمَا؟ قَال:"أَرْبَعُونَ سَنَة". فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الخَبَر عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلم، أَنَّ المَسْجِد الحَرَام هُوَ أَوَّل مَسْجِد وَضَعَهُ الله فِي الأَرْض عَلى مَا قُلنَا، فَأَمَّا فِي وَضْعه بَيْتاً بِغَيْرِ مَعْنَى بَيْت لِلعِبَادَةِ وَالهُدَى وَالبَرَكَة، فَفِيهِ مِنْ الاخْتِلاف مَا قَدْ ذَكَرْت بَعْضه فِي هَذَا المَوْضِع...
قال الطبري:"وَأَمَّا قَوْله: للذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً فَإِنَّهُ يَعْنِي للبَيْت الذِي بِمُزْدَحَمِ النَّاس لِطَوَافِهِمْ فِي حَجّهمْ وَعُمَرهمْ. وَأَصْل البَكّ: الزَّحْم، يُقَال مِنْهُ: بَكَّ فُلان فُلاناً: إِذَا زَحَمَهُ وَصَدَمَهُ، فَهُوَ. يَبُكّهُ بَكّاً، وَهُمْ يَتَبَاكَّوْنَ فِيهِ: يَعْنِي بِهِ: يَتَزَاحَمُونَ وَيَتَصَادَمُونَ فِيهِ، فَكَانَ بَكَّة:"فَعْلة"مِنْ بَكَّ فُلان فُلاناً: زَحَمَهُ، سُمِّيَتْ البُقْعَة بِفِعْلِ المُزْدَحِمِينَ بِهَا. فَإِذَا كَانَتْ بَكَّة مَا وَصَفْنَا، وَكَانَ مَوْضِع اِزْدِحَام النَّاس حَوْل البَيْت، وَكَانَ لا طَوَاف يَجُوز خَارِج المَسْجِد، كَانَ مَعْلُوماً بِذَلِكَ أَنْ يَكُون مَا حَوْل الكَعْبَة مِنْ دَاخِل المَسْجِد، وَأَنَّ مَا كَانَ خَارِج المَسْجِد فَمَكَّة لا بَكَّة، لأَنَّهُ لا مَعْنَى خَارِجه يُوجِب عَلى النَّاس التَّبَاكّ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَيْناً بِذَلِكَ فَسَاد قَوْل مَنْ قَال بَكَّة: اِسْم لِبَطْنِ مَكَّة، وَمَكَّة: اِسْم لِلحَرَمِ".
أمن البيت وأمانه
وَاخْتَلفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالى:"وَمَنْ دَخَلهُ كَانَ آمِناً"، فَقَال بَعْضهمْ: تَأْوِيله الخَبَر عَنْ أَنَّ كُلّ مَنْ جَرَّ فِي الجَاهِلِيَّة جَرِيرَة ثُمَّ عَاذَ بِالبَيْتِ لمْ يَكُنْ بِهَا مَأْخُوذاً. وَقَال آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ يَدْخُلهُ يَكُنْ آمِناً بِهَا، بِمَعْنَى الجَزَاء، كَنَحْوِ قَوْل القَائِل. مَنْ قَامَ لِي أَكْرَمْته: بِمَعْنَى مَنْ يَقُمْ لِي أُكْرِمهُ. وَقَالُوا: هَذَا أَمْر كَانَ فِي الجَاهِلِيَّة، كَانَ الحَرَم مَفْزَع كُلّ خَائِف، وَمَلجَأ كُلّ جَانٍ، لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ يُهَاج لهُ ذُو جَرِيرَة، وَلا يَعْرِض الرَّجُل فِيهِ لِقَاتِلِ أَبِيهِ وَابْنه بِسُوءٍ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الإِسْلام، لأَنَّ الإِسْلام زَادَهُ تَعْظِيماً وَتَكْرِيماً. وَقَال آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلهُ يَكُنْ آمِناً مِنْ النَّار. فَإِنْ قَال قَائِل: وَمَا مَنَعَك مِنْ إِقَامَة الحَدّ عَليْهِ فِيهِ؟ قِيل: لاتِّفَاقِ جَمِيع السَّلف عَلى أَنَّ مَنْ كَانَتْ جَرِيرَته فِي غَيْره ثُمَّ عَاذَ بِهِ، فَإِنَّهُ لا يُؤْخَذ بِجَرِيرَتِهِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اِخْتَلفُوا فِي صِفَة إِخْرَاجه مِنْهُ لأَخْذِهِ بِهَا، فَقَال بَعْضهمْ: صِفَة ذَلِكَ مَنْعه المَعَانِي التِي يُضْطَرّ مَعَ مَنْعه وَفَقْده إِلى الخُرُوج مِنْهُ. وَقَال آخَرُونَ: لا صِفَة لِذَلِكَ غَيْر إِخْرَاجه مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَ إِخْرَاجه مِنْ المَعَانِي التِي تُوَصِّل إِلى إِقَامَة حَدّ الله مَعَهَا، فَلِذَلِكَ قُلنَا: غَيْر جَائِز إِقَامَة الحَدّ عَليْهِ فِيهِ إِلا بَعْد إِخْرَاجه مِنْهُ. فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الحَدّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لا خِلاف بَيْن الجَمِيع فِي أَنَّهُ يُقَام عَليْهِ فِيهِ الحَدّ، فَكِلتَا المَسْأَلتَيْنِ أَصْل مُجْمَع عَلى حُكْمِها عَلى مَا وَصَفْنَا.
حكمُ العَائِذ بِالبَيْتِ
فَإِنْ قَال لنَا قَائِل: وَمَا دَلالتك عَلى أَنَّ إِخْرَاج العَائِذ بِالبَيْتِ إِذَا أَتَاهُ مُسْتَجِيراً بِهِ مِنْ جَرِيرَة جَرَّهَا أَوْ مِنْ حَدّ أَصَابَهُ مِنْ الحَرَم جَائِز لإِقَامَةِ الحَدّ عَليْهِ وَأَخْذه بِالجَرِيرَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ الله عَزَّ وَجَل قَدْ جَعَل مَنْ دَخَلهُ آمِناً، وَمَعْنَى الآمِن غَيْر مَعْنَى الخَائِف، فِيمَا هُمَا فِيهِ مُخْتَلِفَانِ؟
قِيل: قُلنَا ذَلِكَ لإِجْمَاعِ الجَمِيع مِنْ المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلمَاء الأُمَّة، عَلى أَنَّ إِخْرَاج العَائِذ بِهِ مِنْ جَرِيرَة أَصَابَهَا أَوْ فَاحِشَة أَتَاهَا وَجَبَتْ عَليْهِ بِهِ عُقُوبَة مِنْهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الإِخْرَاج لأَخْذِهِ بِمَا لزِمَهُ، وَاجِب عَلى إِمَام المُسْلِمِينَ وَأَهْل الإِسْلام مَعَهُ. وَإِنَّمَا اِخْتَلفُوا فِي السَّبَب الذِي يُخْرَج بِهِ مِنْهُ، فَقَال بَعْضهمْ: السَّبَب الذِي يَجُوز إِخْرَاجه بِهِ مِنْهُ تَرْك جَمِيع المُسْلِمِينَ مُبَايَعَته وَإِطْعَامه وَسَقْيه وَإِيوَاءَهُ وَكَلامه وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ المَعَانِي التِي لا قَرَار لِلعَائِذِ بِهِ فِيهِ مَعَ بَعْضهَا، فَكَيْفَ مَعَ جَمِيعهَا؟ وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَل إِخْرَاجه لإِقَامَةِ مَا لزِمَهُ مِنْ العُقُوبَة وَاجِب بِكُلِّ مَعَانِي الإِخْرَاج. فَلمَّا كَانَ إِجْمَاعاً مِنْ الجَمِيع عَلى أَنَّ حُكْم الله - فِي مَنْ عَاذَ بِالبَيْتِ مِنْ حَدّ أَصَابَهُ أَوْ جَرِيرَة جَرَّهَا - إِخْرَاجه مِنْهُ لإِقَامَةِ مَا فَرَضَ الله عَلى المُؤْمِنِينَ إِقَامَته عَليْهِ، ثُمَّ اِخْتَلفُوا فِي السَّبَب الذِي يَجُوز إِخْرَاجه بِهِ مِنْهُ كَانَ اللازِم لهُمْ وَلإِمَامِهِمْ إِخْرَاجه مِنْهُ بِأَيِّ مَعْنًى أَمْكَنَهُمْ إِخْرَاجه مِنْهُ حَتَّى يُقِيمُوا عَليْهِ الحَدّ الذِي لزِمَهُ خَارِجاً مِنْهُ إِذَا كَانَ لجَأَ إِليْهِ مِنْ خَارِج عَلى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْل.
وَبَعْد: فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَل لمْ يَضَع حَدّاً مِنْ حُدُوده عَنْ أَحَد مِنْ خَلقه مِنْ أَجْل بُقْعَة وَمَوْضِع صَارَ إِليْهَا مَنْ لزِمَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَظَاهَرتِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّهُ قَال:"إِنِّي حَرَّمْت المَدِينَة كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيم مَكَّة". وَلا خِلاف بَيْن جَمِيع الأُمَّة أَنَّ عَائِذاً لوْ عَاذَ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ بِحَرَمِ النَّبِيّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يُؤَاخَذ بِالعُقُوبَةِ فِيهِ.
وَلوْلا مَا ذَكَرْت مِنْ إِجْمَاع السَّلف عَلى أَنَّ حَرَم إِبْرَاهِيم لا يُقَام فِيهِ عَلى مَنْ عَاذَ بِهِ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ حَتَّى يَخْرُج مِنْهُ مَا لزِمَهُ، لكَانَ أَحَقّ البِقَاع أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ فَرَائِض الله التِي أَلزَمَهَا عِبَاده مِنْ قَتْل أَوْ غَيْره، أَعْظَم البِقَاع إِلى الله كَحَرَمِ الله وَحَرَم رَسُوله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ، وَلكِنَّا أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِ مَنْ أمَرنَا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَرَم الله لإِقَامَةِ الحَدّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْل الأُمَّة ذَلِكَ وِرَاثَة.
فَمَعْنَى الكَلام إِذْ كَانَ الأَمْر عَلى مَا وَصَفْنَا: وَمَنْ دَخَلهُ كَانَ آمِناً مَا كَانَ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَنْ لجَأَ إِليْهِ مِنْ عُقُوبَة لزِمَتْهُ عَائِذاً بِهِ، فَهُوَ آمِن مَا كَانَ بِهِ حَتَّى يَخْرُج مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَصِير إِلى الخَوْف بَعْد الخُرُوج أَوْ الإِخْرَاج مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ غَيْر دَاخِله، وَلا هُوَ فِيهِ.
إن الله تعالى قد جعل أوّل بيوت العبادة في الأرض قبلةً لخيرِ أمّةً أخرجت للناس، وربطَ بالبيت العتيق قلوبَ المؤمنين الذين خدموا البيتَ الحرام بناءً وترميماً وتجديداً وتوسعةً حيثُ كان البيتُ الحرام منذ نشوئه ومازال موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات، إذ اهتمَّ به آدمُ عليه السلام، و بعدما أتى عليه الطوفان أعاد بناءه أبو الأنبياء إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ عليهما السلام. ومرت السنون فجدّده قصيّ بن كلاب، ثم أعادت قريشٌ بناءَه قَبْل البعثة بخمس سنوات عندما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخامسة والثلاثين من عُمره، وفي عهده صلى الله عليه وسلمَ استقبل المسلمون البيتَ الحرامَ في صلواتهم بعد استقبالِ بيتِ المقدس، ومنذ تحويل اتجاه القبلة حتى الآن والمسلمون يستقبلونه في صلواتهم من النواحي والاتجاهات كافة.
بدأت توسعات بيت الله الحرام في خلافة عمرَ بنِ الخطاب، وأمر بالتوسعة الثانية الخليفة الراشدُ عثمانُ بن عفان، ثم أُنجزتِ التوسعةُ الثالثة بأمر عبدِالله بنِ الزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين، وفي عهد الخلافة الأموية أعاد الحجاجُ بن يوسفَ الثقفيِّ بناءَ جدارِ الكعبة الشمالي المجاور لِحِجْرِ إسماعيل عليه السلام، وذلك بأمرِ الخليفة عبد الملك بن مروان بن الحكم، ثم تتابع اهتمام الخلفاء الأمويين بالحرمين الشريفين وبيت المقدس.
جاءت توسعةُ الخليفةِ العباسي أبي جعفر المنصور سنة مئة وسبعٍ وثلاثين للهجرة/ 755 م، حيث شُيدتٍ المنارةُ الأولى، وتضاعفت مساحةُ المسجد الحرام، ثم تمت توسعتا المهدي العباسيِّ، ورُبِّعَ صحنُ المسجد الحرام بإشرافه، وأضيفتْ ثلاثُ منائرَ، وتتابع اهتمام الخلفاء العباسيين بالحرمين الشريفين، ومن ذلك أعمالُ الخليفةِ العباسي المستنصرِ بالله سنةَ ستِّ مائةٍ وإحدى وثلاثين للهجرة/ 1233 م، كما أهتمَّ بالبيت الحرام خلفاءُ المسلمين وملوكُهم وسلاطينُهم وأولو أمورِهم، وتتابعت أعمالُ الصيانة والترميم والزخرفة، وتجديدِ المنابر والمحاريب والأبواب والأعمدة التي مازال الكثيرُ منها في متحفِ الحرمين الشريفين، يشهدُ بفضل أولي الفضل واهتمامهم ببيت الله الحرام.
داهمَ مكةَ المكرمة سيلٌٌُ جارفٌ في 19 شعبان سنةَ ألفٍ وتسعٍ وثلاثين للهجرة 4 نيسان إبريل سنة 1630م، وأتى ذلك السيل على كثير من بيوت مكة المكرمة، وهدمَ معظمَ أجزاء البيت الحرام فأمر بتجديده الخليفةُ العثماني مرادُ الرابعُ"فجُدِّدَ سنة 1040 ه/ 1631م، وكانت مدة خلافة مراد الرابع من سنة 1032 ه/ 1623م"حتى وفاته سنة 1049 ه/ 1640م. وما زالت قباب توسعة الخليفة مراد الرابع قائمة وهي التي تحيط بالكعبة المشرفة من جميع الجهات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.