تعرف على غيابات الهلال أمام الاتفاق    الأخضر يتقدم في التصنيف العالمي    المملكة تضيء دروب الأمل بالحد من الفقر عالميًا بمساعدات إنسانية وإغاثية متنوعة    الكرملين : بوتين وترامب ربما يعقدان قمة جديدة خلال أسبوعين    روسيا تعلن القضاء على 10685 جنديا أوكرانيا خلال أسبوع    قريبًا.. كورنيش بيش بحلّة جديدة تواكب التطور وتحتفي بالجمال    «الترفيه في العالم» تقدم رؤيتها المستقبلية في المعرض المصاحب ل Joy Forum 2025    ألكاراز وسينر وجهًا لوجه في نهائي بطولة التنس الدولية "Six Kings Slam الرياض    أموريم يرحب بالدعم العلني من راتكليف    غوارديولا: رودري «غير جاهز» للعودة إلى المباريات    القبض على بنغلاديشي في الشرقية لترويجه (الشبو)    بدء موسم الوسم في المملكة    وزير الصحة يختتم مشاركته في أعمال الدورة 72 للجنة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط    أكثر من 13 مليون قاصد للحرمين الشريفين خلال أسبوع    الذهب يتراجع من ذروة قياسية بعد تصريحات ترامب عن الرسوم الجمركية    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    "قوة عطاء" تتألق في مبادرة التوعية بسرطان الثدي ببوليفارد صبيا    المنتدى السعودي للإعلام يعقد ورشة "جسور الإعلام" في كان    ليلة طرب.. السلطان وموضي والطلاسي يشعلون حماس جماهير جدة    جمعية عطاء تواصل تنفيذ برنامج "نور قناديل" لتعليم الأمهات    WEMART تفتتح مهرجان الأطعمة اليابانية 2025 في الرياض    سالم الدوسري يُعلق على جائزة الأفضل في آسيا    زمزم من نسك.. تجربة جديدة لزمزم المبارك... عبوات 330 مل تصل لجميع مناطق المملكة    خطيب المسجد الحرام: العبد الموفق يعيش في خير لم يسأله ونعيم لم يتوقعه    خطيب المسجد النبوي: الدعاء سلاح المؤمن وسبيل الثبات في الشدائد    ابتدائية مصعب بن عمير تعقد لقاءً توعويًا مع أولياء الأمور حول اختبارات "نافس" والاختبارات المركزية    في أجواء أسرية بهيجة.. عقد قران المهندس خالد القحطاني    اختيار السغودية رئيسة للذكاء الاصطناعي عالميا    سخاء المدني أول سعودية متخصصة في طب الفضاء والطيران    د. عبدالحق عزوزي يترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية    هل استقام ظل لسلام الشرق الأوسط    سباق الذكاء الاصطناعي تنافس بلا خط نهاية يهدد التوازن العالمي    انطلاق أضخم الفعاليات الدولية في صناعة الضيافة بمشاركة رواد القطاع بالمملكة    السواحه يناقش تعزيز الشراكة في تقنيات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي    الاتحاد السعودي لكرة القدم أفضل اتحاد وطني في آسيا    الهلال بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للكرة الطائرة    الأسهم الاستثمارية تغري الآباء للاستثمار لأبنائهم    مجمع الملك سلمان يكرّم 12 فائزًا من 10 دول في مسابقة حَرْف    آل الشيخ ل"الوطن": المملكة تسعى لنشر الإسلام الوسطي المعتدل في شتى أنحاء العالم    أمير منطقة جازان يطمئن على صحة الشيخ العامري    14 عالماً من جامعة الفيصل ضمن قائمة ستانفورد لأفضل 2% من علماء العالم    إنقاذ حياة مريضة بتركيب صمام رئوي عبر القسطرة بدون جراحة    أمير القصيم يرعى حفل تخريج 167 حافظًا لكتاب الله    مائة معلم سعودي يشرعون في دراستهم بالصين لاستكمال برنامج ماجستير تعليم اللغة الصينية    رئيس أمن الدولة يهنئ القيادة بمناسبة تأهل المنتخب لكأس العالم 2026    نيابة عن سمو محافظ الطائف وكيل المحافظة يطلق المؤتمر الدولي السابع لجراحة الأطفال    لضمان تنفيذ وقف النار.. استعدادات لنشر قوة دولية في غزة    بوتين للشرع: حريصون على استقرار سوريا.. تعاون ومشاريع شراكة بين موسكو ودمشق    الفيلم السعودي «هجرة» يعبر إلى الأوسكار    موسم الرياض يطرح تذاكر «النداء الأخير»    ضبط مليوني قرص إمفيتامين بشحنة مكسرات    المرور السعودي: 6 اشتراطات لسير الشاحنات على الطرق    أنف اسكتلندي.. حبة بطاطا    البرد يرفع مستويات السكرفي الدم    العمري يبحث احتياجات أهالي صامطة    أمير مكة: مشروع بوابة الملك سلمان يعكس اهتمام القيادة بالتنمية في المنطقة    أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة تأهل المنتخب لكأس العالم 2026    إطلاق كائنات فطرية في محمية الوعول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شغف الانتقال من المعلوم الى المجهول . "القرن" لآلان بدو : مئة سنة من حروب وأدب
نشر في الحياة يوم 08 - 09 - 2005

في كتاب حديث أثار أصداء، ولا يزال، قام الفيلسوف الفرنسي ألان بدو بتقويم القرن العشرين وأرسل اليه تحية، كما لو كان القرن الصاخب الذي انقضى لم ينقض بعد. ولعل الانتساب الى قرن جدير بالتحية هو الذي جعل المؤلف يعطي كتابه عنواناً موحياً هو:"القرن"بلا اضافة أخرى. ولأن"بدو"يحلل القرن وينتصر له، كان عليه أن يساجل آخرين لم يروا في"القرن"إلا دماراً خالصاً، ان لم يختزله البعض الى"أوشفيتس وعذابات اليهود".
أراد المؤلف، منذ البداية، أن يترك القرن العشرين يتحدث عن نفسه، وأن ينطق بما فكّر وبما أراد أن يكون، متوسلاً فكر القرن في مسرح بريشت وأشعار سان جان بيرس وبيسوا وماند لستام، من دون أن ينسى تروتسكي وبروتون والثورة الثقافية في الصين. فهذه الأسماء، كما غيرها، انتسبت الى القرن وترجمت ما أراد أن يقول، وهو ينتقل من إعصار الى آخر. ولعل البحث عن معنى القرن والمتحدثين باسمه هو الذي أملى على الفيلسوف الاشارة الى الابداع الكبير الذي استُهل القرن به: فبعد البيان الشعري الثوري الذي خلّفه مالارميه قبل موته عام 1898، جاء فرويد بكتابه"تفسير الأحلام"الذي نشر في 1900، في انتظار ألبرت اينشتاين الذي أعطى في 1905 نظريته عن النسبية، ولحقه شونبرغ الذي أسس في فيينا عام 1908 لموسيقى جديدة. كان لينين، كما يقول بدو، صاغ معنى السياسة الحديثة عام 1902 في كتابه الشهير:"ما العمل؟"، قبل أن يشرع بيكاسو بثورة في الرسم بعد عقد من الزمن والبرتغالي بسِّوا بفعل نظير في الفضاء الشعري. حمل هذا الاستهلال الابداعي الكبير معه روايات جويس وبروست وكونراد سينما تشارلي تشابلن ورياضيات ريمان وكانتور وفلسفة هوسرل وفيتجنشتاين... ولد كل شيء تحت راية الجديد، الواعد بجديد لاحق، بدءاً من الشعر والفيزياء وصولاً الى انسان نوعي بشّر به الشيوعيون في كل أنحاء العالم. غير ان القرن الحافل بالجديد انطوى بدوره على أسوأ ما عرفته العصور كافة ممثلاً بمأساة هيروشيما ومأسٍ سابقة ولاحقة. فالحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 أرسلت الى القبور نحو عشرين مليوناً من البشر، ورفعت الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 عدد الموتى الى نحو الخمسين. والسؤال هو: كيف تتعامل الفلسفة مع قرن جمع بين ثورات أدبية وعلمية وفنية وحرب مهلكة ومجازر ستالين والملحمة الشيوعية الغريبة في طموحها؟ يرى بدو ان الفيلسوف لا يتعامل مع ما حصل في القرن، بل يرى كيف وعى"القرن"ذاته وفكر بنفسه، كما لو كان القرن كياناً حيّاً متعدد العناصر والرؤى.
على خلاف الفلاسفة الجدد، الذين اختصروا القرن العشرين الى شرور النازية والشيوعية، تعامل الفيلسوف مع القرن متكئاً على مقولات ثلاث: أولها"الشغف بالواقعي"، حيث الواقعي نقيض للواقع ودعوة الى تحطيمه واستبداله بآخر، كما لو كان الواقع جداراً سميكاً من العتمة والعمى تنبغي معرفته وهدمه، أو تجب معرفته كي يصبح تقويضه ممكناً. ولهذا ارتبط الشغف بالواقعي بالفعل والحركة والممارسة وبپ"الهنا والآن"الواجب تبديلهما، ذلك ان الواقعي هو ما يقف فوق أنقاض الواقع وحطامه. ولعل المسافة بين ما هو قائم وما ينبغي الوصول اليه هو في أساس الجهود الفلسفية والفنية والأدبية التي كانت تنقض المحسوس السطحي المباشر، الذي يربك الوعي ويمنع المعرفة، بپ"واقعي"متحرر من الجهل والتعتيم. فعل هذا فرويد وهو ينتقل من الوعي الى اللاوعي واندريه بروتون وهو يفارق بين الواقع وما فوق الواقع وبيكاسو وهو ينقض ما يُرى وبريشت وهو يواجه المتوهّم بالواقعي ولوكاتش وهو يمايز الوعي الزائف من الوعي الحقيقي وآلتوسر الباحث وراء الايديولوجيا السلطوية عن معرفة أخرى، لن تتحرر من الوهم أبداً. على خلاف القرن التاسع عشر الذي اعتمد على قوة المعرفة، انطلق القرن العشرون من بداهة الجهل، التي تأمر الانسان المتمرد بالعبور من مستوى الى آخر، كي يستولد الواقعي من واقع تراجعت العتمة التي تحجبه. ومع أن في"الشغف بالواقع"ما يوحي باندفاع غير محسوب، قد تخالطه عواطف أفلتت من عقالها، فإن جمالية"القرن"كلها تكمن في هذا"غير المحسوب"الذي يرنو الى نجم بعيد ينتظر اليد التي تمتد اليه. انها فاعلية المجهول التي ترى في المعلوم قيداً ينبغي كسره.
يولد الواقعي من واقع تكسّر وأعيد صوغه بأدوات مختلفة، تبدأ بالرسم والقصيدة ولا تنتهي بالحزب الثوري، الذي يود الانتقال من نمط انتاج الى آخر. فإذا كان بيكاسو يرى وراء الواقع المحسوس واقعاً آخر أكثر جوهرية، فإن الحزب الثوري يلمح وراء السلطة الملموسة سلطة اخرى تغايرها زمناً وكيفاً. اعتماداً على تحويل"الهنا والآن"يصل آلان بدو الى مقولته الثانية:"قانون الاثنين"، أي الصراع التناحري بين طرفين يفضي الى انتصار طرف على آخر، في انتظار صراع جديد. والأساس هنا هو"الاثنان"اللذان يولّد صراعهما حركة متحررة أو حركة تومئ الى التحرر. عاش القرن انقسام الواحد الى اثنين، أو صراع الاثنين الذي يمكن أن ينتهي الى واحد جديد ينقسم بدوره. وهذا الانقسام هو الذي كتب صفحات القرن الأكثر رعباً وجمالاً في آن، اذا الرعب ماثل في الحروب والارهاب والجشع الرأسمالي، واذا الجمال قائم في شغف توليد الواقعي من الواقع، بالحوار والسياسة والعنف الضروري، حتى لو كان مطلق السراح. ذلك أن"الشغف بالواقع"ينطلق من معنى التحرر الانساني لا من مبادئ الأخلاق الساذجة. بهذا المعنى يكشف"غياب الاثنين"عن استنقاع محروس بالوحشية والفساد وباستبداد"الواحد"الذي يغتال الحركة. وهذا ما يجعل من"الحركة"العنوان الكبير للقرن العشرين، من دون النظر الى الموقع الذي قصدته ولم تصل اليه. يقول بدو:"ليس القرن العشرون قرن الوعود. ونحن نعترف سلفاً بأن الوعد لا يعني تحققه، لأن الحركة وحدها هي مصدر العظمة"، الحركة هي العظمة بينما السكون هو البؤس والجموع البشرية البائسة.
واذا كانت الحركة، كما يرى الفيلسوف، هي الانتقال من المجهول الى معلوم مجزوء، فإن كل حركة واقعية انزياح من عالم مملوء بالقيود الى آخر قيوده أقل، وصولاً الى تحطيم قيود غير متوقعة. يفصل بدو، بهذا المعنى، بين الرغبة في السعادة، التي تقمع في الانسان امكان العظمة، والنزوع الى التحرر، المشدود أبداً الى حركة لا نهاية لها. كأن الرغبة في السعادة اعتراف بواحد لا ينقسم، بينما التحرر قول في الانطلاق والقطع والتجدد والسيرورة، أي قول بكل ما لا يميل الى الراحة. وعلى هذا، فإن الديموقراطية الحقيقية هي التي تسمح للإنسان بالحركة، لأن ديموقراطية لا حركة فيها هي استبداد حجبته الأقنعة.
يشكل الجديد المقولة الثالثة في كتاب القرن، علماً أن المؤلف يساوي بين الجديد والانقسام، مبتعداً من كل ما يوحي بتحقق نهائي. والجديد الأساس هو تلك الوحدة بين المفرد والمجموع، أو بين الأنا والپ"نحن"، التي تمحو المفرد وتمدّه بإمكانات هائلة في آن. أما الجديد الآخر الذي يتلوه فقائم في عدم الاعتراف بپ"طبيعة الأشياء"، طالما ان معنى الواقعي صادر عمّا يحاصر الواقع ويهزمه، وصادر أيضاً عن"الكل"الذي يلغي المفرد ويمنحه أجنحة رائعة. فكل شيء خارج طبيعته، لأنه محصلة لعناصر خارجية لا يستطيع التحكم بها. ومع أن في هاتين الفكرتين صدى لبعض الأفكار البنيوية، فإن فيها أولاً استنكاراً للمعايير المسيطرة اليوم في الديموقراطيات الغربية. فعوضاً عن وحدة المفرد والمجموع، التي ملأت النصف الأول من القرن الماضي، جاءت فكرة النجاح أو الفرد الناجح، التي تحيل على المال وامتلاك السلع والأشياء، وعوضاً عن التبدل والانقسام انتشر اليوم التبشير بطبائع البشر والأشياء الثابتة، التي لا يمكن تبديلها ولا يجب تغييرها بسبب طبائع تتصف بالرسوخ والثبات. وواقع الأمر أن كتاب"القرن"يحلل ويساجل، فيبدو واضحاً ومشرقاً ونبيلاً لحظة المساجلة، ويبدو مربكاً وغامضاً في بعض نقاط التحليل. وهو في الحالي داخل"القرن"لا خارجه، كما لو كان يستأنف"بلا سعادة"الاستهلال الابداعي الكبير الذي احتضن بسِّوا ولينين وبريشت ذات مرة أو كان يهمس بپ"الانسان الجديد"الذي لا موقع له في ثقافة السوق ومعايير الربح والخسارة. ومع أن بدو يواجه رغبة السعادة بنشوة التحرر، فإن لكتابه فتنة طاغية تأتي من ثقافة واسعة، تحتضن فلسفة العلوم وتاريخ الفلسفة القديمة والحديثة والرواية والمسرح وفنوناً أخرى. والمؤلف ذاته روائي ومسرحي وصاحب اسهام فلسفي كبير عنوانه:"الكائن والحدث"، صدر عام 1988، وهو أيضاً ذلك المثقف الرومانسي، الذي أراد قبل خمسة وثلاثين عاماً قيادة"حزب ثوري بروليتاري"يستلهم أفكار الصيني ماو تسي تونغ، الذي أخذ منه بدو قانون:"كل واحد ينقسم الى اثنين".
والقرن العشرون العربي؟
السؤال الذي قد يطرح: كيف فكّر القرن العشرون العربي في ذاته، وتحت أية راية مشى ووقع وأكثر من الوقوع واحتفل بپ"طبائع الأشياء"؟ يتضمن السؤال جوابه، ذلك ان الواقع العربي طرد"الواقعي"أكثر من مرة واستراح الى واقع يتساوى فيه المعلوم والمجهول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.