تايكوندو الشباب يهيمن على بطولتي البراعم والناشئين والحريق يزاحم الكبار    القيادة تعزي في وفاة الرئيس الإيراني ومرافقيه    برعاية خادم الحرمين وزير النقل يفتتح مؤتمر مستقبل الطيران 2024 ويشهد إعلان أكبر استثمار بتاريخ الخطوط السعودية    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب منطقة "شينجيانج" شمال غرب الصين    أمير تبوك يرعى تخريج أكثر من 2300 متدرب ومتدربة للتدريب التقني والمهني .. غدا    أكثر من ثلاثة الاف جولة رقابية تنفذها أمانة الشرقية على المنشآت الغذائية والتجارية    كيف سقطت مروحية الرئيس الإيراني.. وما الذي كشفته الصور؟    إيران تعلن رسمياً مصرع الرئيس ووزير الخارجية    تعليم البكيرية يعتمد حركة النقل الداخلي للمعلمين والمعلمات    وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    مرضى جازان للتجمع الصحي: ارتقوا بالخدمات الطبية    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    الانتخابات بين النزاهة والفساد    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير منطقة تبوك يرأس اجتماع جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة وليد الخالدي في مذكرات رشيد الحاج ابراهيم "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" . آخر المواقف التي سجلها "زعيم حيفا" : التضامن العربي في طريق الانحلال ! 5 من 5
نشر في الحياة يوم 28 - 09 - 2005

وصل صاحبنا إلى القاهرة في 9 نيسان أبريل، في وقت كانت أخبار الأحداث والفواجع الجسام تترى. فمن خبر سقوط القسطل، إلى خبر استردادها، إلى استشهاد عبد القادر، إلى مذبحة دير ياسين وبدء اشتباك قوات القاوقجي مع قوات الهاغاناه والبلماخ حول مستعمرة مشمار هعيمك. ويحدثنا رشيد أن الحاج أمين كان"في حالة حزن شديد للخسارة الجسيمة التي مني بها الجميع باستشهاد عبدالقادر عليه رحمة الله. فلم يتسع الوقت للأخذ والرد". وانتظر رشيد بضعة أيام كان خلالها على اتصال دائم بحيفا يعالج"كبار الأمور وصغائرها"، إلى أن اختلى بالحاج أمين يوم 14 نيسان. ويخبرنا صاحبنا بما حدث فيقول:"إن البحث والكلام مع الرئيس رغم الصراحة المطلقة لم يوصلا إلى اتفاق... وأعدت عليه ما كان ينبغي أن أعيده عليه ساعتئذ في وجوب الاتفاق الخالص لوجه الله والوطن إنقاذاً للوطن الذبيح، وأوضحت له أن الأخذ بما يريد والسير عليه يقضي عليّ أن لا أوافق عليه وهذا يسبب انقسام الكلمة والاختلاف وهذا ليس في مصلحة أحدنا ثم خرجت من هذه الجلسة التي كانت لي معه وكلي أسف على ما رأيت من إصراره على عدم موافقته على تعديل موقفه بشأن تعيين الخليلي والشيخ إبراهيم في لجنة الأمن، فتمثّل لي سوء المصير كأني أحس به بيدي". وقرر صاحبنا أن أمامه طريقين:"إمّا العودة إلى حيفا فأبسط هذا إلى اللجنة القومية ثم أستقيل... وفي هذا راحة لضميري... وإمّا أن أقدم بنفسي على إلغاء قرار رئيس الهيئة العربية العليا وأمضي دونه ولكن في هذا استعجالاً للانقسام الذي ما بعده انقسام فلا يرضى به ضمير حي". وكان قد وصل إلى صاحبنا قبلاً عن طريق صبحي الخضراء رسالة، أغلب الظن أنها من إيحاء الحاج أمين، تقترح"أن أترك حيفا وأذهب إلى دمشق فأنضم إلى العاملين هناك في سبيل فلسطين... وقد كان يصعب عليّ أن أترك حيفا... أفنترك حيفا وهي مسقط الرأس وجبين فلسطين وصخرة من صخورها؟"، وبينما كان رشيد على أهبة السفر والعودة إلى حيفا إذ بصبحي الخضراء ينعي إليه، في 16 نيسان، وفاة ابنه سميح في بيروت. ويخبرنا رشيد:"قضّ مضاجعي هذا النبأ بخسارة ولدي وفلذة كبدي وهو في عنفوان شبابه... فكان عليّ والحالة هذه أن أبرح مصر حالاً فبرحتها في 16 نيسان سنة 1948 حيث قمت بواجبي نحو ولدي في بيروت". وينتقل صاحبنا من بيروت إلى دمشق حيث قابل صديقه القوتلي فوراً يوم 18 نيسان، وقدم له مذكرة وعد القوتلي أن يدرسها دراسة وافية، وأن يقدم إلى حيفا مساعدات واسعة. وشرح رشيد في المذكرة حراجة الوضع في فلسطين، وأن المعنويات العامة انهارت،"وأن القدس ويافا وحيفا تحت خطر الاحتلال". وبسط العلاج بأن يدعو القوتلي إلى قمة عربية تقرر تجييش"قوة من عشرين ألف جندي حالاً كاملة العدة والعدد... تقوم بحركة عامة شاملة دفعة واحدة وبغير هذا لا ينجو الموقف... وإلى أن يتحقق هذا... تقوية المناضلين في فلسطين بإرسال السلاح والعتاد خاصة الدبابات والمصفحات وبطاريات المدافع". وفي اليوم ذاته قابل رشيد طه باشا الهاشمي، المفتش العام لجيش الإنقاذ، الذي سلمه رسالة بإيعاز من القوتلي تتعهد اللجنة العسكرية فيه بزيادة 600 مقاتل على حامية حيفا الحالية وعددها نحو 450 مقاتلاً، على أن يختار رشيد المقاتلين من المسرّحين في حيفا، وعلى أن تتحمل اللجنة العسكرية رواتب هؤلاء المقاتلين الإضافيين. فأرسل رشيد برقية إلى حيفا لاختيار المقاتلين ال600 المشار إليهم. وفي صباح 20 نيسان قابل صاحبنا إسماعيل صفوت باشا، رئيس اللجنة العسكرية، وشرح له حالة فلسطين عامة، وحالة حيفا الدفاعية خاصة. ويحدثنا رشيد عن هذه المقابلة فيقول:"كاشفته بما أشعر من خوف نتيجة للإهمال والتقصير فأجاب معترفاً بكل ما صارحته به... وقال لي أنه يعرف أكثر مما أعرف عن هذه النواحي قلت له لماذا إذاً أنت في مكانك... قال عملت كل شيء وطالبت بكل ما أشرت إليه إلاّ إنهم يمهلون ويسوفون ونتيجة لهذه المقابلة قدم حضرته تقريراً أرسله للمقامات المختصة ولمّا لم تتم تلبية طلباته استقال من القيادة وعاد إلى العراق".
ويخبرنا صاحبنا:"فكرت أنه من المصلحة قبل العودة إلى حيفا وقبل الاستقالة من رئاسة اللجنة القومية أو قبل اتخاذ أية خطوة أُخرى من هذا القبيل، أن أحاول للمرة الأخيرة إقناع رئيس الهيئة بالعدول عن خططه... فعدت إلى مصر في 21 نيسان سنة 1948 ولقيت هناك الأخ صبحي الخضراء فكان رأيه... محاولة الوصول إلى اتفاق بالطرق المجدية".
وفي سَحَر يوم الأربعاء ذاته، في 21 نيسان 1948، انسحبت القوات البريطانية خلسة من خطوط التماس التي كانت تفصل الخطوط الأمامية العربية عن الخطوط اليهودية في حيفا، بعد أن كانت اتفقت مع قوات الهاغاناه على ذلك. وفي صباح ذلك اليوم استدعى الجنرال هيو ستوكويل، قائد القوات البريطانية في شمال فلسطين، ممثلي القيادة العربية العسكرية والسياسية، وهم أمين عز الدين قائد الحامية، ومعاونه يونس نفاع، وكلاً من جورج معمر وأحمد الخليل عن اللجنة القومية، لمقابلته في مقر قيادته في ستيلامارس على جبل الكرمل في الساعة 11.30. حضر المذكورون، عدا أحمد الخليل، وأعلمهم ستوكويل رسمياً بقرار الانسحاب. وهكذا بدأت معركة حيفا الأخيرة التي انتهت بسقوطها يوم الجمعة في 23 نيسان 1948.
8
يأتي صاحبنا إلى تفصيلات نزاع حيفا في الباب الأول من مذكراته روايةً عن الآخرين، وهو ما جعلنا لا نتناول هذه التفصيلات هنا تاركين للقارئ أن يراجعها بنفسه في موضعها من المذكرات. ويختتم رشيد مذكراته في الباب الثالث منها بسرد أحداث الحرب النظامية من 15 أيار مايو 1948 حتى اتفاقات الهدنة ومؤتمر رودس في ربيع سنة 1949، سرداً متسلسلاً موفقاً، نقلاً عن الصحف والإذاعات، فتركنا أيضاً للقارئ أن يراجع هذا السرد في موضعه لخلوه من أي إشارات إلى المؤلف ذاته.
ويروي رشيد أن يوم 14 أيار 1948 حل"وأنا في مصر وكنت كغيري من العرب الفلسطينيين لا أدري أتشرق شمس الغد على صفحة جديدة من صفحات المجد والعز.... أو أنها تشرق لتضيف إلى صفحات الخزي والعار صفحات أُخرى". ويتابع:"وكنت شخصياً في حالة عصبية تحملني على التشاؤم وتبعدني عن الأمل الباسم. كما كنت أرى في الوقت نفسه مجال العمل ما زال رحباً فلازمت العاملين في عواصم الدول العربية التي اتخذت حكوماتها على عاتقها حمل العبء الذي خلفه الانتداب في فلسطين". ويخبرنا رشيد أن الهيئة العربية العليا أذاعت، يوم 15 أيار 1948، ثلاثة بيانات طلبت في الأول منها إلى موظفي المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وقضاة المحاكم الشرعية وموظفيها وموظفي الأوقاف والمساجد"أن يتابعوا أعمالهم وفقاً للأنظمة الشرعية"، وأعلنت في البيان الثاني انتداب فايز الإدريسي، كبير ضباط البوليس العربي في القدس، مديراً للأمن العام والسجون، وطلبت إلى جميع قوات الأمن وموظفي السجون في فلسطين"مزاولة أعمالهم وفق تعليماته"، وطلبت في البيان الثالث إلى الموظفين العرب"الاستمرار في أعمالهم... واعتبرت نفسها أنها هي السلطة العليا في البلاد بعد زوال الانتداب". ويعلق صاحبنا على هذه البيانات الثلاثة بقوله:"كنت وأنا أطالع هذه البيانات أعود بذاكرتي إلى قرارات مؤتمر حيفا التاريخي وإلى مذكراتي السابقة في موضوع التنظيم لتلك المقررات والمذكرات التي استنكرتها الهيئة العليا والتي لو لقيت في حينها آذاناً صاغية لما كان العمل الارتجالي الحالي عقيماً عديم الجدوى ولسبق التنظيم الحالات التي نشأ عنها تشريد أكثر من 300 ألف عربي حتى اليوم 15 أيار 1948".
ومن نوادر العلاقة بين رشيد والحاج أمين أن شكا الأخير إليه مرة"الموقف السلبي الذي أخذت تقفه منه الدول العربية"، فاقترح عليه رشيد"أن يعرض على الدول المذكورة وجوهاً متعددة للعمل وأن يصارحها بوجهات نظره فإن لم يوفق إلى حل عاجل يضمن وحدة العمل عليه أن ينسحب من الميدان لتنحصر التبعة وتحدد المسؤوليات فطلب إليّ أن أكتب له هذا الموضوع في كتاب خاص أضمّنه وجهة نظري". فكتب رشيد كتاباً أورد صفوته في هذه المذكرات. والغريب أن رشيد يعلق على كتابه بقوله:"كنت على علم من الأخبار التي وصلتني من بعض رجالات الدول العربية بأن هذه الدول بالفعل أخذت تشيح بوجهها عنه الحاج أمين حتى تضطره إلى أن يتخذ لنفسه سياسة نهائية فإمّا أن يحسن طرق عمله وإمّا أن ينسحب من الميدان". ومع أن كتاب رشيد إلى الحاج أمين يحمل تاريخ 4/6/1948 فالأغلب من فحواه أنه يعود إلى تاريخ أسبق، في مطلع سنة 1948، وأن ذاكرة المؤلف خانته في إعطائه التاريخ المدون. ونحن نورد هذا الحدث للدلالة على غرابة العلاقة بين الاثنين في تعقيداتها وتناقضاتها التي وصلت إلى ذروتها في فصل أخير بصدد تأليف حكومة عموم فلسطين كما سيلي.
في 15 أيار أعلن الملك عبدالله عند دخول جيشه فلسطين بعد نهاية الانتداب أن الهيئة العربية العليا لم تعد تمثل عرب فلسطين، وأنه عيّن أحمد حلمي باشا، عضو الهيئة الوحيد الذي بقي مرابطاً في القدس، حاكماً عسكرياً لها. وفي 9 تموز يوليو 1948، قررت اللجنة السياسية للجامعة العربية بعيد انتهاء الهدنة الأولى في 7 تموز واستئناف القتال، تأليف"مجلس مديرين"لإدارة أعمال فلسطين يكون مركزه القدس ويرئسه أحمد حلمي باشا. كما عينت جمال الحسيني مسؤولاً عن الأمن في هذا المجلس. وأرسلت الجامعة العربية رسالة بهذا المعنى إلى أحمد حلمي باشا. وعارض كل من الملك عبدالله والحاج أمين الحسيني تأليف هذا المجلس معارضة شديدة، فلم يتم تأليفه حينئذ. إلاّ إن اللجنة السياسية عادت فقررت في 6 أيلول سبتمبر إقامة المجلس، وانضم العراق إلى الأردن في معارضته لذلك.وترك قرار اللجنة، الذي اتخذ بالأكثرية، موعد تشكيل الإدارة للفلسطينيين على أن يقرروا أمورهم"بمحض إرادتهم"كما جاء في تصريح لجميل مردم بك، رئيس الحكومة السورية. ويروي أحمد حلمي باشا أنه تلقى في أثناء اجتماعات اللجنة السياسية دعوة من محمود فهمي النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر،"للاشتراك في الاجتماعات وأبلغني بمحضر الاجتماع أن جامعة الدول العربية قررت تشكيل حكومة كذا لفلسطين لأسباب سياسية هامة تحت رئاستي وأعطاني ورقة مكتوب فيها أسماء الوزراء المقرر انتدابهم للعمل معي من قبل جامعة الدول العربية وكلفني أن أنفذ إعلان هذه الحكومة، ولمّا سألت النقراشي باشا عن واجبات ومسؤوليات الحكومة المقترحة قال: سنبحث ذلك في وقت آخر. ولقد وافقتُ على هذا التكليف".
ويعلق صاحبنا على قرار اللجنة السياسية بشأن تأليف حكومة فلسطينية فيقول:"كان أمام الفلسطينيين صعوبات تعترض حريتهم وتقف حائلاً دون تحقيق تشكيل هذه الحكومة فقد كانت الحكمة تقضي عدم التسرع في الإعلان عن تأليفها حتى لا يساعد الفلسطينيون على تقويض دعائم التعاون العربي المنشود لإنقاذ بلادهم". ويتابع:"كان هذا رأيي الخاص ورأي كثير من إخواني وكنت في الإسكندرية حيث اجتمعت اللجنة السياسية على مقربة من رجال السياسة العرب وعلى مقربة من رئيس الهيئة العربية العليا الذين عرفوا مني هذا الرأي".
كانت التطورات في ساحة الحرب وفي الساحة الدولية، وتدهور العلاقات بين العواصم العربية، تزيد في قناعة صاحبنا بوجوب التأني في شأن الحكومة الفلسطينية"فقد سقطت للتو مدينتا اللد والرملة بعد استئناف القتال في 8 تموز يوليو، وهُجّر منهما ما لا يقل عن 60 ألف عربي، واليهود يستهزئون بالجيوش العربية ويضربونها الواحد بعد الآخر، والوسيط الدولي الكونت برنادوت يعلن مشروعاً للتسوية يتضمن تعديلات جوهرية في مشروع التقسيم، إذ أوصى بضم القدس إلى الدولة العربية بدلاً من تدويلها، وبعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وبضم النقب إلى الدولة العربية. لكنه أوصى، في المقابل، بضم الجليل الغربي إلى الدولة اليهودية، إضافة إلى الجليل الشرقي. كما أوصى بضم الدولة العربية، بموجب مشروع التقسيم، إلى شرق الأردن.
ويتابع رشيد روايته فيقول:"تهيأ لسماحة رئيس الهيئة العليا بناء على قرار اللجنة السياسية المتعلق بإقامة حكومة فلسطينية وترك موعد إقامتها والإعلان عنها لعرب فلسطين أنفسهم، أن يدعو لعقد مؤتمر فلسطيني في مدينة غزة يطلق عليه اسم المجلس الوطني على أن يشترك بالمؤتمر ممثلون عن... النقابات الفلسطينية ومجالس البلديات وغرف التجارة، إلخ. كما تهيأ لسماحته أن مثل هذا المؤتمر يمثل عرب فلسطين وتعلن فيه إرادتهم". ويذكر صاحبنا أنه تلقى يوم 10 أيلول سبتمبر 1948 دعوة تحدد موعد عقد المؤتمر في أول تشرين الأول أكتوبر 1948.
ويستطرد رشيد قائلاً:"ولمّا كان رأيي في المؤتمر وإقامة حكومة فلسطينية في هذه المرحلة... أنه عامل من عوامل هدم التعاون العربي المنشود لإنقاذ البلاد، وأن قرار اللجنة السياسية الذي ترك لنا اختيار الزمن الملائم لإقامة الحكومة ينطوي على حكمة يجب أن لا نتجاهلها"، اتصل رشيد بأحمد حلمي باشا الذي كان يربطه به علاوة على الزمالة السياسية والمهنية الطويلة العهد عبر البنك العربي وبنك الأمة رابط المصاهرة العائلية، وأقنعه بوجهة نظره، واتفقا على مقابلة الحاج أمين معاً ومباحثته في الأمر، لكنهما لم يتوصلا"إلى إقناع سماحته في إلغاء الدعوة للمؤتمر أو تأجيل موعد انعقاده". واستعان صاحبنا بصديقه المصري شافع بك اللبّان، عضو البرلمان المصري، لإقناع الحاج أمين. ولم ينجح في مساعيه معه، وأعاد الكرة مع الحاج أمين بصحبة الباشا ومنفرداً،"ونتيجة لإصرار أحمد حلمي على طلب التأجيل أو الإلغاء وافق سماحته على وجهة نظرنا فحمدنا الله وشكرناه".
غير أنه لمّا طلب رشيد من الحاج أمين أن يذيع بياناً في الصحف يعلن فيه إلغاء عقد المؤتمر أو تأجيله، لم يوافق الأخير على ذلك بحجة أنه"ستكون فرصة طيبة"للاجتماع بالمدعوين"والوقوف على آرائهم حول الحالة الراهنة". عندئذ طلب رشيد من أحمد حلمي نفسه أن يلغي الدعوة باعتبارها صادرة بتوقيعه، فأجابه"بأن ليس من اللياقة"أن يفعل ذلك"بعد أن وافق سماحته على تأجيل عقد المؤتمر". ويتابع رشيد فيقول أنه أراد أن يتحقق من موقف الحكومة المصرية من الحكومة الفلسطينية والمؤتمر المزمع عقده، فقابل في 20 أيلول حيدر باشا، وزير الحربية المصرية، ووجد أن حديثه عن الحكومة الفلسطينية"يختلف عما كان يدور على ألسنة الزعماء الفلسطينيين"، فاتفق مع وزير الحربية على أن يزوره ثانية بصحبة أحمد حلمي باشا، وتم اللقاء الثاني مع وزير الحربية ووجه صاحبنا إلى الوزير بحضور أحمد حلمي السؤال التالي:"هل يسلّم الجيش المصري في غزة الإدارة المدنية مع كافة تشكيلات الحكومة الموجودة فيها وممتلكاتها إلى حكومة فلسطين المقرر إقامتها من الجامعة؟". ويجيب حيدر باشا:"إن الجيش المصري لا يسمح بدخول منطقة غزة لأحد إلاّ بإذن خاص وإن هذه المنطقة تحت مسؤولية الجيش من جميع النواحي العسكرية والمدنية وإنه لا توجد لديه أية معلومات تتعلق بحكومة فلسطين". وينقل صاحبنا كلام وزير الحربية إلى الحاج أمين، ويصرّ الأخير على"تأجيل البحث بهذه الأمور لما بعد تشكيل الحكومة وإعلانها عن نفسها في مدينة غزة". أمّا أعضاء الحكومة فقد كانوا، بناء على رغبة الجامعة، السادة: أحمد حلمي باشا، عوني عبدالهادي، حسين فخري الخالدي، جمال الحسيني، علي حسنا، فوتي فريج، ميشيل أبيكاريوس، أمين عقل، يوسف صهيون، رجائي الحسيني. وكان الرأي أن يذهب هؤلاء إلى غزة في 22 أيلول 1948 لإعلان تأليف الحكومة فيها.
واتفق صاحبنا على مرافقة أحمد حلمي باشا إلى غزة، وعلى لقائه في دار الحاج أمين في القاهرة صباح يوم الثلاثاء الواقع فيه 23 أيلول لوداع الأخير قبل السفر، وتقلهما وسائر الوزراء السيارات ويصلون إلى غزة مساء اليوم ذاته، ويعلن يوم الجمعة في 25 أيلول تأليف الحكومة. ويعلق صاحبنا على ذلك بقوله:"وكان المفروض أن الأمر قد وقف عند هذا الحد".
في اليوم الثاني من تأليف الحكومة، أي السبت الواقع فيه 26 أيلول يخبر أحد الأصدقاء رشيداً في غزة"أن سماحة المفتي وصل الآن من مصر"، وحل ضيفاً على الوجيه محمد بن خضر الصوراني، فيقول رشيد:"تبادر لذهني حالاً أنه جاء لعقد المؤتمر ونقلت الخبر وملاحظتي عليه لأحمد حلمي باشا فقال إنني أشك في هذا كل الشك"، فذهبا معاً لزيارة الحاج أمين، وفي أثناء العودة يقول الباشا لرشيد"إنك كنت على حق فيما قلت يوم أمس". ويخبر رشيداً صديق آخر"أن الترتيبات تعمل للمناداة بسماحته رئيساً للجمهورية"، فيوصل رشيد الخبر إلى أحمد حلمي"الذي استشاط غضباً وأبلغ المفتي أنه في حالة إقدامه على هذا العمل سينسحب من المسؤولية التي وجهتها إليه الجامعة ويعلن استقالته حالاً".
لكن الترتيبات لعقد المؤتمر تستمر، ويرافق رشيد الباشا لزيارة القاعة المزمع عقد المؤتمر فيها، ويلاحظ رشيد"صورة مكبرة لجلالة الملك فاروق وعن شماله صورة مكبرة أيضاً لسماحة الحاج أمين الحسيني وعلى جانبي الصورتين صور باقي الملوك والرؤساء"، ويتابع رشيد قصته فيقول إنه كان إلى قربه إسحق درويش، وهو من أقرب المقربين للحاج أمين وعضو في الهيئة العربية العليا،"فطلبت إليه نزع صورة المفتي... ووضعها في مكان آخر لأنه من العيب أن تعلق صورته فوق صور الملوك ورؤساء الجمهوريات وأن مثل هذا العمل وحده كاف لأن يحرك الضغائن... فأجابني إسحق بقوله: إرفعها أنت إذا شئت"، وفي هذه الأثناء جاء محمد العفيفي، وهو من المقربين من الحاج أمين أيضاً، فأطلعه رشيد على ما جرى فأيد العفيفي وجهة نظره وطلب رشيد منه أن يخبر الحاج أمين فخرج من القاعة وحضر المفتي مع العفيفي وأمر برفع الصورة التي علقت في مكان آخر.
وصل إلى غزة عدد من المناضلين المسلحين من الخليل والقدس لا يقل عددهم عن مئة مناضل، وأخذوا في التظاهر في شوارع غزة والهتاف بحياة الحاج أمين وبإطلاق النار في الهواء، فشكا بعض أهالي غزة أمرهم إلى الحاكم العسكري المصري الذي أمر بعودة المناضلين"إلى ميادين الجهاد في فلسطين"، فعادوا إلاّ نفر قليل استُبقي لحراسة المفتي.
ويروي صاحبنا أيضاً أنه اطلع على برنامج كتب على الآلة الكاتبة للموكب الرسمي للحاج أمين عند افتتاحه المؤتمر، وأن ترتيب السير يتضمن الدراجات النارية وسيارات الجيب والمصفحات وسيارات"البيك أب"إضافة إلى سيارات موظفي الأمن والبوليس والوزراء، وأن البرنامج أرسل إلى رئيس الحكومة المصرية"الذي رفضه وشطب عليه بخط يده بعد أن قال إيه ده موكب ملوكي".
وفي الساعة العاشرة تقريباً من صباح الجمعة أول تشرين الأول 1948، وصلت سيارة تقل الحاج أمين وحلمي باشا إلى قاعة المؤتمر، تتبعها سيارات باقي الوزراء وأعضاء المؤتمر. وما إن ترجل الحاج أمين من السيارة إذ"بصوت جهوري صادر من السيد خضر الصوراني يصيح يعيش رئيس جمهورية فلسطين سماحة الحاج أمين الحسيني، وردد بعض الحضور هذا النداء عندئذ وقف حلمي باشا ملتفتاً إلى سماحة المفتي قائلاً إن الأخبار التي كانت تصلنا عن عزمك على المناداة بنفسك رئيساً لجمهورية فلسطين بدأت تتحقق لذلك فإني لست مستعداً للاشتراك في هذا المؤتمر. وحاول الانصراف ولكن سماحته أكد أن شيئاً من هذا لن يكون أبداً وكل ما في الأمر إن هي إلاّ رغبة بعض الأصدقاء وقد رفضت الموافقة عليها رفضاً باتاً". وفي الساعة العاشرة والدقيقة الثلاثين من اليوم ذاته، افتتح مؤتمر غزة برئاسة الحاج أمين، وتشكلت أمانة سره. وبعد إنهاء المراسم الأولية أعلن انفضاض الاجتماع على أن ينعقد في صباح اليوم التالي، وانتقل الأعضاء لأداء فريضة الجمعة. وفي صباح السبت، 2 تشرين الأول، باشر المؤتمر أعماله واتخذ عدة مقررات، منها إعلان الثقة بحكومة عموم فلسطين ووضع نظام خاص لها.
مساء اليوم الثاني للمؤتمر وصل إلى غزة عدد من الشخصيات الفلسطينية المعروفة، منها عوني عبدالهادي ومعين الماضي وأكرم زعيتر رفاق الأمس. وطلب هؤلاء الاجتماع برشيد، صديقهم القديم. ويروي صاحبنا لقاءه بهم فيقول:"سألوني لماذا لم تشترك في المؤتمر؟ أجبتهم لاعتقادي بضرره وعدم فائدته ولما سينتج عنه من مفاسد واختلافات كان علينا أن نتجنبها في هذا الظرف"، ويشير رشيد إلى مشروع برنادوت إشارة خاصة، ويتابع كلامه:"أعتقد أن السادة المذكورين وافقوني على وجهة نظري في حين ألحوا عليّ بضرورة مرافقتهم لمكان عقد المؤتمر في صباح اليوم التالي لندلي بآرائنا فيه فوافقتهم على شرط الوقوف في موقف المعارض لهذا المؤتمر الذي سأطلب إقفاله وعدم العمل بمقرراته فلم يعارضوني بل لمست تشجيعاً منهم على هذا الموقف".
صباح اليوم الثالث للمؤتمر، في 3 تشرين الأول 1948، يذهب صاحبنا إلى قاعة المؤتمر ويستغرب أعضاء الهيئة العربية العليا مجيئه. وبعد تلاوة المحاضر السابقة، وقبل الدخول في البرنامج الموضوع، يطلب رشيد الكلام فتتقدم عدة اعتراضات على طلبه. وبعد الإصرار يتكلم موجهاً كلامه إلى رئيس المؤتمر الحاج أمين ويقول في روايته لذلك أنه سأل:"من الذي طلب عقد المؤتمر؟ أجاب سماحة الرئيس: المصلحة الوطنية وقرار الهيئة العليا قضت بعقده. قلت: ولكن سبق وغيرتم رأيكم في موضوعه ووافقتم على التأجيل أو الإلغاء فلماذا عدلتم عن قراركم هذا؟ قال: حملنا على عقده وصول المدعوين". وبعد استيضاح من رشيد عن تأليف حكومة فلسطين، شرح أحمد حلمي ظروف تأليفها كما ورد أعلاه. ويعلق رشيد على كلام أحمد حلمي:"اكتفيت بجواب أحمد حلمي باشا وإني وإن كنت واقفاً على هذه التفصيلات ولكني أردت أن أستوضحها أمام الحضور لتكون مداراً لاعتراضي على المؤتمر".
ويروي صاحبنا أنه قال للحضور في المؤتمر:"إن حضرات المجتمعين لا يمثلون عرب فلسطين المقيمين فيها إذ لم يأت من فلسطين لهذا المؤتمر إلاّ نفر قليل لا يزيدون عن خمسة أشخاص، وباقي حضرات المجتمعين جاؤوا من سورية ولبنان ومنطقة غزة فاعتبار هذا المؤتمر مجلساً وطنياً يمثل رغائب الفلسطينيين كافة اعتبار لا يقوم على الحقيقة لأن أكثرية أهل البلاد الموجودين فيها الآن لا يقرون هذا الاعتبار... وفي حالة الإصرار على اعتبار هذا الاجتماع مؤتمراً وطنياً ومجلساً تأسيسياً... سيقومون بأعمال... تبطل هذا الادعاء وعندئذ ننصرف عن العدو الحقيقي الذي عمل على اجتياح البلاد ليلاً ونهاراً إلى خلق جبهتين عربيتين فلسطينيتين إحداهما في فلسطين والأُخرى في خارجها تعملان ضد بعضهما بعضاً.... خصوصاً إذا أدركنا أن التضامن العربي في طريق الانحلال نتيجة للحلول التي أخذ وسيط هيئة الأمم [برنادوت] يعرضها على الدول العربية". ويضيف صاحبنا:"لسوء الحظ لم يؤيد اقتراحي أحد من الحضور وكانت صيحة في واد ونار في رماد".
كان هذا الموقف موقف صاحبنا الأخير، على ما نعلم، في الشأن الفلسطيني العام. وهو إن دل على شيء فإنما يدل خير دلالة على ما تميز به من خصال بارزة من صلابة العود والجرأة المعنوية والصراحة والاعتداد بالنفس والبعد عن الحزبية الضيقة وسعة الأفق السياسي.
ولا بأس في العودة قليلاً إلى الوراء لنسرد في هذا الصدد الواقعة التالية: كان صاحبنا في منزل الحاج أمين في القاهرة في ربيع سنة 1948 عقب عودة أحمد الشقيري وهنري كتن، ممثلي الهيئة العربية العليا في الأمم المتحدة، من نيويورك. وضمت المائدة أعضاء الهيئة ما عدا أحمد حلمي باشا. وفي أثناء البحث في"ضياع فلسطين"وجه كتن إلى رشيد السؤال التالي:"ما هو رأيك في سياسة الدول العربية التي سببت لعرب فلسطين هذه الكارثة؟". ويروي صاحبنا:"أجبته بأن ليس عندي رأي جديد ورأيي معروف، وفضلاً عن هذا فإن أعضاء الهيئة العليا الواقفين على دقائق الأمور... أولى مني بالإجابة على سؤالك، وبعد أن ألح عليّ... هو وغيره قلت لعل رأيي لا يرضيكم أو لا يرضي بعضكم وهنا نهض رئيس الهيئة العربية العليا وخرج من الاجتماع فأوجزت الكلام بأن مسؤولية ضياع فلسطين تقع على زعماء فلسطين قبل سواهم وعلى الهيئة العربية العليا بصورة خاصة. فتقصير الدول العربية.... كان سببه الصحيح تقصير زعماء فلسطين... وعلينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا. فساد المجلس سكون، وجعل الواحد منهم ينظر إلى الآخر وكأن لسان حال كل واحد منهم يقول هذا هو الحق". ثم عاد المفتي ليدعو ضيوفه إلى تناول الطعام. وبعد تناوله استأذن رشيد في الانصراف وكان المفتي في وداعه عند الباب وطلب منه أن يجتمع به في اليوم التالي. حضر صاحبنا في اليوم التالي وسأله الحاج أمين قائلاً:"ما الذي تراه ناقصاً في أعمالنا، وقد عملنا كل ما يمكن أن يعمله البشر؟". ويروي صاحبنا:"قلت لا شك أنكم عملتم وتعملون كثيراً ولكن أعمالكم ناقصة وغير منتجة... ولم تنظروا إلى أفق أبعد من الأفق الذي نظرتم إليه. كان عليكم أن تجاروا خصومنا في التدبير وحسن التنظيم... فهذه الوكالة اليهودية The Jewish Agency ، أعلى سلطة صهيونية في البلاد التي يصح أن يقابلها عندنا الهيئة العربية العليا التي ترئسونها، تعرفون معرفة تامة ما هي عليه من نظام... فهل عندكم ضابط واحد قدير يتولى دراسة أوضاع المناضلين وتحقيقها حسب أصول الفن... وهل الأعمال الأُخرى موزعة حسب الاختصاص والكفاءة على الرجل السياسي الكبير والمحامي المجرب والإداري المحنك والمالي المشهود له في فنه، وهل عندكم اختصاصي بالسلاح والعتاد والذخيرة حتى لا تستثمر القضية في دفع الأموال الوفيرة ثمناً للأسلحة والعتاد الفاسد... وقد أعقب المفتي على انتقاداتي وصراحتي بقوله أنا والله في حيرة من أمري، حتى إخواننا الواقفون على أعمالنا ينتقدوني، قلت واجبي أن أصارحك... ومن رأيي أن لا تلتفت إلى أقوال المرائين والمنافقين الذين يسبّحون بمجدك لمغانمهم ومصالحهم... فتقبَّلَ مني هذه الملاحظة بقول حسن".
والواقع أن لوم صاحبنا لم يكن مقصوراً على الحاج أمين وحده، كما أشار. فهو يتساءل في موضع آخر من مذكراته بصدد مسؤولية الدول العربية: لماذا لم تفرض هذه الدول إرادتها على المفتي فرضاً عندما أتى بخطط وآراء لم تقره عليها، أو عندما كانت ترى الضرر في أساليبه؟ ولماذا كانت تؤيده بالمال من ناحية وتنتقده من ناحية أُخرى؟ أو لم يكن واجب الدول أن تكون إلى جانبه على طول الخط إن وجدته صالحاً ونافعاً ومنقذاً فعلاً؟ ويتساءل صاحبنا بالنسبة إلى أعضاء الهيئة العربية العليا: لماذا كان أعضاء الهيئة يقفون تجاهه مكتوفي الأيدي فتطلق يده للتصرف في الأموال والأعمال منفرداً برأيه وحده؟ ولماذا ظلوا يجارونه على تصرفاته عندما كان لا يقيم وزناً لآرائهم ولا يوافق على تنفيذ مقرراتهم؟
ولا يسعنا إلاّ أن نختتم هذا التقديم بشذرتين أُخريين من مذكراته:
* بتاريخ 5 تشرين الثاني نوفمبر 1948 كان رشيد مدعواً إلى الغداء من جانب رئيس الهيئة العربية العليا في مصر، وكان مدعواً أيضاً كل من أحمد حلمي باشا وجمال الحسيني والشيخ حسن أبو السعود وإسحق درويش وغيرهم، وكان البحث يدور بشأن النكبة الفادحة التي حلت بعرب فلسطين فقال الحاج أمين:"يا ليتنا نفذنا الخطط التي رسمها السيد رشيد الحاج إبراهيم ويعني قرارات مؤتمر حيفا المنوه عنها وقال لو نفذنا تلك المقررات لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن وطلب إليّ أن أشرح للحضور تلك المقررات، قلت ولكنها معروفة عند سماحتكم فتفضلوا بسردها أنتم وقال في الحقيقة إن لرشيد آراء صائبة ونظريات حكيمة ولكن اعتمادنا على الدول العربية جعلنا نتكل عليها بكل شيء".
- ويروي رشيد أيضاً أنه ذات مرة"قال لي رئيس الهيئة: لا يعارضني أحد في البلاد إلاّ أنت، فأجبته أن المصلحة العامة فوق الجميع وقال في مناسبة أُخرى: يقولون عنك إنك دكتاتور ، فأجبته تعلمت ذلك منك. فابتسم". رحمة الله عليهما وغفرانه... وما أشبه الليلة بالبارحة.
وفي 8 تشرين الأول 1948 غادر رشيد غزة عائداً إلى مصر ومنها إلى عمّان حيث استقر وانكب على كتابة مذكراته. وكان قد سبقه ممن سبقه إلى عمّان صديقه عجاج نويهض. ويخبرنا نويهض:"كنا نلتقي كل يوم تقريباً ونخوض الأحاديث المختلفة وخصوصاً عن ذكريات النضال". ويلخص نويهض مقام رشيد في حيفا قبل النكبة بقوله:"كان زعيم حيفا تجري المدينة بين يديه وتحرك كما يحرك الخاتم في الإصبع".
وتخبرنا السيدة بيان الحوت، ابنة عجاج، عن ذكرياتها كطفلة في منزل والديها في عمّان:"من الصفات التي لم تفارق والدي طوال حياته حبه الكبير للأصدقاء والضيوف والزوار... من هؤلاء الضيوف والأصدقاء الأحباء الذين كانوا يترددون على بيتنا في جبل الحسين في عمّان من كانت زياراتهم تتطلب هدوءاً غير عادي وجواً من الخصوصية يثير الاستغراب وكنت أتساءل: لماذا عندما يزور والدي العم أبو العبد مثلاً السيد رشيد الحاج إبراهيم يصبح ممنوعاً الصوت العالي في المنزل وممنوعاً إزعاجهما في خلوتهما لماذا؟ وسألت والدتي مرة عن ذلك فأجابتني باقتضاب أنهم يبحثون مسائل التاريخ".
وتحتار بيان بهذا الجواب، وتمر السنون ويوكل عجاج إلى ابنته المؤرخة الشابة مهمة تصنيف أوراقه وما أكثرها. وتمر سنون غيرها وينتقل عجاج إلى جوار ربه وتعثر المؤرخة الأستاذة بيان في أوراق عجاج، بعد وفاته، على مجموعة من الأوراق عن سيرة الشيخ عز الدين القسّام. وتخبرنا بيان:"ويتضح أن الوالد قد نقل هذه الصفحات بإيجاز عن مخطوطة مذكرات صديقه الحميم السيد رشيد الحاج إبراهيم وقد ذكر تاريخ تسجيلها في أعلى الصفحة 17/7/53 كما ذكر العبارة التالية ملخصة عن مذكرات المرحوم رشيد وهو آخر قسم صححته بعد وفاته".
توفي رشيد في أوائل سنة 1953، ونقل جثمانه إلى دمشق التي أحبها وأحبته، ودفن في مقبرة الشهداء في"العقيبة"بظاهر المدينة. ويخبرنا نويهض:"أقمنا له حفلة تأبين في القدس، وكنت من مؤبنيه وكان رسمه الكبير معلقاً على الحائط، فكنت أخاطبه كأنه حي يسمعني. ومما قلته له: أتذكر يا أبا العبد قصة كذا... وكذا... وجعلت أذكّره بكبرى مآثره التي أعرفها".{ تستعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية لإصدار كتاب الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين - مذكرات رشيد الحاج ابراهيم 1891 - 1953. وتنشر الحياة في حلقات التقديم الذي كتبه وليد الخالدي لهذه المذكرات قارئاً فيها ومقارناً بينها وبين مذكرات آخرين عايشوا رشيد الحاج ابراهيم وكانوا رفاقه في بدايات النضال من أجل فلسطين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.