يمثل صوغ الدستور العراقي الجديد أحد أهم الإشكالات التي تجابه الحكومة العراقية الانتقالية، ذلك أنه تحد سياسي واجتماعي، سيتحدد وفق مآله مصير العراق ووحدته الوطنية ومستقبل الدولة وشكلها ومرجعيتها وهويتها وتوزيع ثرواتها واختصاصات سلطاتها الثلاث- على جانب ثان، فإن وضع الدستور العراقي الدائم يمثل استحقاقاً قانونياً وسياسياً بحسب قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي يعد بمثابة الدستور الموقت. ومن جهة ثالثة، فإن كتابة دستور جديد للعراق يمثل نقطة فارقة في تطور البناء العراقي الجديد، تسرع من عملية اجتياز المرحلة الانتقالية إلى الوضع الدائم، فهي البداية لمرحلة يسقط فيها العراق عن كاهله عبء الأوضاع الاستثنائية التي سادت منذ سقوط المخلوع صدام حسين ونظامه، إذ تؤسس لعراق أكثر استقلالاً عن محتليه، وأكثر سيادة على أراضيه. جاءت مسودة الدستور العراقي، معبرة عن توافق نسبي بين الكتل المشاركة في صوغه، فعبّر بذلك عن أول"انتصار"للسنة العراقيين، بعدما"أفاقوا"من"غيبوبة"سقوط مكتسبات المرحلة الشمولية من عمر الدولة العراقية، فمثل انخراطهم في العملية الدستورية عبر المشاركة في اللجنة المكلفة بإعداد الوثيقة الأساسية، عن وعي بات متنامياً يتأسس على أن العزلة والاستعصاء ليس مآلهما غير تفاقم الإقصاء، وتطبيقاً لحكمة مؤداها أنهم إذا ما أرادوا أن تتصرف القوى الرئيسة الأخرى إزاءهم بشكل صائب، فعليهم أولاً التصرف بشكل صحيح. حققت مشاركة السنة في العملية الدستورية في العراق، ثم العودة بعد ممانعة إثر اغتيال اثنين من أعضاء لجنة وضع الدستور السنة، توازناً في هيئة صياغة الدستور، أكان بين الكتل الممثلة فيها، أو بين الرؤى المطروحة على مائدة محادثاتها، ما شكل مانعاً لمواجهة التمترس خلف الرغبات التي تتجاوز حدود المصالح الوطنية للدولة العراقية وسائر مواطنيها، وأن تحظى ثمارها بتوافق أعم، يمكنه نيل رضا الشعب العراقي وكذا القوى العراقية على اختلاف أطيافها في آن، وذلك في ظل مبدأ"التوافق"الذي حكم عملها وجعل من موافقة أعضائها كافة شرطاً للتوصل إلى صياغات دستورية، وهو ما يدفع إلى تعزيز الوحدة الوطنية والهوية العراقية، ويدحر النزعات والفتن الطائفية، والتخندق داخل رؤيتها وفق مصالح آنية غير وطنية. وكان بديهياً أن يدور صراع، ويطفو تباين، وتبرز توجهات متناقضة حول صياغات الدستور الدائم ومتنه، ليس عطفاً على أنه بالأساس صراع أفكار، أو نزاع حول مستقبل العراق السياسي فحسب، وإنما أيضاً باعتبار أن هذه المرحلة في نظر البعض مرحلة استحقاقات لممارساته السياسية التي نشطت منذ بدء الغزو الأنغلو سكسوني للعراق في مطلع نيسان أبريل من العام قبل الفائت، وكذا لتفاعله مع ما ترتب عليه. ومن ناحية أخرى باعتبارها"لحظة تاريخية"تدفع إلى السعي لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات السياسية، من خلال المساومات السياسية بين القوى الأساسية الفاعلة في المجتمع العراقي. ومن ثم تجلى التباين بين الرؤى حول عدد من القضايا، لعل أهمها دين الدولة، وهويتها، والفيديرالية، والقومية، وقضية كركوك. هذه القضايا استدعت اختلافات مفصلية بين الرؤى المختلفة حول وضعيتها في القانون الأساسي للدولة. فأولاً، في ما يتعلق بقضية دين الدولة، وجدت معارضة كبيرة في أوساط القوى العراقية خصوصاً الليبرالي والعلماني منها تأسيساً على أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان، ولا يمكن تلبيس دولته ديناً معيناً وإهمال بقية الأديان بحجة الغالبية والأقلية، فى ظل وجود العراقي المسيحي واليهودي والصابئي المندائي والأيزيدي، وأيضا في ظل تعدد المذاهب الإسلامية. وثانياً، فإن قضية الهوية برز حولها خلاف واضح بين الرؤى السنية الدافعة للنص على الانتماء للمحيط العربي، والرفض الشيعي الكردي المقابل- ثالثاً، حظيت قضية الفيدرالية برفض سني لجهة توسيع نطاقها ليتجاوز حدود المحافظات الثلاث السليمانية واربيل ودهوك. رابعاً، ثمة تعدد قومي في العراق، وليس قومية واحدة، حيث العرب والأكراد والتركمان والكلدان والآشوريين والأرمن، بيد أن تضمين الفرس يثير تساؤلات حول دوافع ذلك ودور إيران، خصوصاً أن أعدادهم في العراق لا تتجاوز العشرات، وأن التعرض لهم قد يدفع بطلب البعض لاحقاً النص على اليهود والغجر كقوميات عراقية- خامساً، ففي حين نصت مسودة الدستور على تمتع الأكراد بالفيدرالية والحكم الذاتي، أجلت حسم قضية كركوك الشائكة التي يطالب بها الأكراد كعاصمة لإقليم كردستان الذي يتمتع باستقلال فعلي منذ عام 1991، تأسيساً على نص المادة 52 ج من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية التي تنص على أهمية تطبيع الأوضاع في مدينة كركوك، وهو ما يشي بأن ثمة تعمد في تأجيل بعض القضايا الخلافية لتخضع للمساومات السياسية، بدلاً أن تقف حجر عثرة في سبيل الاتفاق على ما يمكن أن يكون محل تفاهم مشترك. ومن ثم جاء الدستور مؤكداً على عروبة العراق، وانتمائه للأمة الإسلامية، وعلى لغته العربية بجانب لغة إقليم كردستان الكردية، وأكد على تعدد القوميات في العراق، وعلى الفيدرالية والدولة الاتحادية، وأن الإسلام هو المصدر الأساس للتشريع، وليس أحد مصادر التشريع وفق ما جاء به قانون الدولة للمرحلة الانتقالية. خلاصة القول، إن ما جاءت به مسودة الدستور تشير أن ثمة سياسة ما فتئت تمارس وأن التوافقات والتنازلات المتبادلة بدت معادلة رئيسة غدا أحد طرفيها مصلحة الدولة العراقية غير المجتزئة في مصلحة طائفة أو عرق بذاته، بيد أن استمرار ذلك ليس حتمياً، وإنما سيتوقف على حسم عدد من الخلافات حول قضايا رئيسة أهمها هوية الدولة، وآلية توزيع ثرواتها وإدارتها، وحقوق المرأة، وطبيعة الفيدرالية ومدى إمكان أن تشمل أقاليم أخرى، والتوافق حول اللغة الرسمية للدولة، والاتفاق حول القانون الانتخابي. ولحسم كل ذلك ليس ثمة بديل عن التسامي فوق الطائفية والعنصرية والشوفينية والمحاصصة، والعلو عن الاعتبارات والانتماءات السياسية والمذهبية والعرقية، إذا ما كان سلامة مستقبل العراق واستقراره هو الهدف المبتغى. * باحث مصري.