رحل"دون كيشوت"المصري أو احمد زكي بعد معاناة دامت أكثر من عام، وبعد مسيرة من الفن والثقافة، عمل خلالها على تجسيد هموم المواطن المصري، محاولاً تحقيق حلم المدينة الفاضلة او ال"يوتوبيا". لم يهتم زكي بمتن المجتمع فقط، وإنما عبر عن هامشه ايضاً. فجاءت شخصياته متنوعة مثل البواب وبائع السمك والمدمن والموظف ورجل الشرطة وتاجر المخدرات والوزير ورئيس الجمهورية وغيرها، وأخيراً الفنان. لم يكن زكي يحب ان يكون ممثلاً دور"البطل السلبي"- بحسب تعبير لوكاش - الذي يتصرف بمبدأ رد الفعل على الواقع تجاهه، وإنما كان"البطل الايجابي"او الاشكالي الذي يصنع الحدث ويتابع تدرج نموه. مسيرته حافلة بالأدوار المركبة. ففي مسلسل"الأيام"، انطلاقته الاولى تلفزيونياً، جسد دور عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بكل معاناته وآلامه وآماله وتطلعاته. وهو"الرجل المهم"في"زوجة رجل مهم"و"زينهم"في"الامبراطور". رجل الشرطة والمجرم ضدان التقاهما زكي، وجسدهما بكل ما يحمل من ثقافة وفن، لينبئ من بين ثنايا العمل عن مرحلة سياسية مر بها المجتمع المصري أفرزت بعض الجوانب السلبية، معيداً طرحها وصياغتها من جديد في اطار فني فريد، فأعانت المشاهد على فهم واقعه والتصرف من خلال الوعي المدرك. خبرته الطويلة علمته ان يكون جمال عبد الناصر في"ناصر 56"وأنور السادات في"أيام السادات". لم يفصح زكي عن توجهه الايديولوجي. فحينما لعب دور ناصر حَسِبَ المشاهد والناقد معاً انه ناصري. ولكنه سرعان ما فاجأ الجميع بفيلمه"أيام السادات"- الذي كان من انتاجه - ليقول انه مصري خالص، غير ناصري ولا ساداتي وإنما هو فنان عاشق لفنه وعمله، اراد ان يترك القدوة العملية والتاريخ المشاهد الى جانب التاريخ المقروء. ومنذ مدة طويلة انزوت الفكرة وراء"الإفيه"الانفعال. لكن زكي، خلال السنوات الاخيرة من حياته، جعل الفكرة هي بطل عمله المحوري الذي تدور حوله القصة، ليثير انتباه المشاهد الى تلك القضايا التي يعرضها، وذلك لجعل المتلقي يلعب دوراً فاعلاً في العملية الابداعية. كانت له مقولة شهيرة من عين الناس، فقال: بعض الناس يحملون عيناً يستطيعون التعبير بها، والبعض الآخر يحمل عين السمكة التي لا تعبير فيها. كانت لديه مواهب متعددة. فحينما بدأ في مسرحية"هاللو شلبي"كان يجيد التقليد. واستعان بتلك الموهبة ثانية ووظفها في"الراعي والنساء". كما انه كان يستطيع اداء الاغاني وقد أدى بعض الاغاني في"أربعة في مهمة رسمية"، ومسلسل اجتماعي تحت عنوان"هو وهي"، وفيلم"الدرجة الثالثة"، وغنّى ثلاث أغنيات في فيلم"حليم". وكان دور أحمد الشاعر، في مسرحية"مدرسة المشاغبين"، بمثابة انطلاقة فنية للنجم الاسمر، الذي ما لبث ان لمع نجمه فكان"النمر الاسود"، و"البريء"، و"متولي"في"شفيقة ومتولي"وغيرها من الاعمال التي اثرت السينما المصرية على مدى اكثر من ربع قرن مضى. كانت رؤية زكي الفنية مشبوبة بالأمل والنظر الى الواقع المأزوم الذي يعانيه ابناء جيله. فمنذ فيلمي"أيام الصمت"و"العمر لحظة"، يجسد بصورة تقترب كثيراً من الواقع معاناة الشباب خلف خط النار، قبل حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. ولم يكن"الحب فوق هضبة الهرم"، و"أنا لا أكذب ولكني أتجمل"إلا مرآة اجتماعية واضافة حقيقية للواقعية النقدية. وجاء في فيلم"ضد الحكومة"معلناً حالاً من الشغب الثقافي ضد فئة من معدومي الضمير، ليكشف زيف بعض المحامين الذين يستغلون قضايا التعويضات أسوأ استغلال امام الرأي العام. وكذلك فيلم"اضحك الصورة تطلع حلوة"مع المخرج شريف عرفة، جسد صورة الأب الفقير الذي أنجب الفتاة الجامعية التي أحبها ابن الاثرياء، ويرفض والد الابن الثري الزواج من ابنة ذلك الاب. قصة قديمة حديثة لواقعٍ معاش، لكنه قدم خلاصة المعاناة بكلامه في مشهد"الفينالة""اضحك الصورة تطلع حلوة". كإسقاط على صورة اجتماعية اخرى في الاطار نفسه. وقد وصلت الرسالة الى الجمهور بسهولة ويسر، وصارت هذه الجملة دعوة للتفاؤل تتناقلها ألسنة الشباب. وفي فيلم"الهروب"مثّل دور منتصر الذي أبداً لم يكن منتصراً فقد انهزم هو والضابط الذي كان يمثل معادله الموضوعي قيمياً. وفي"امرأة واحدة لا تكفي"صورة صحافي يعاني احباطات مهنية وسياسية اسقطها من دون وعي على دأب السكر والجري وراء النساء. أحب ثلاث نساء يحملن ثلاثة تيارات اجتماعية، ليعبر في النهاية عن انه من الصعب الاختيار او المفاضلة بين ثلاثتهن. وعلى التيار الموازي نفسه لاحباطات نكسة الخامس من حزيران يونيو 1967م، جاء فيلم"الرجل الثالث"ليجسد دور الطيار الذي ظلم وطرد من الجيش ليواجه صعوبات حياتية يثبت من خلالها - بمرور الوقت-امام ابنه انه بطل، وليرفع رأسه منتصراً من جديد. كانت نزعة دون كيشوتية تتملكه، وروح الفنان اللاهث خلف رسالة فنية تتأرجح بين الأنموذج الصعب تحقيقه والواقع المضاد لتحقيق الحلم. لم يكن زكي من الفنانين الذين وصلوا للنجومية بسرعة الصاروخ. وحتى سئل عن سبب نجوميته السريعة ضحك قائلاً:"عشرين سنة شغل"ونقول: نجومية سريعة. عمره لم يكن طويلاً، وعاشه زكي من اجل التعبير عن معاناته الشخصية، ومعاناة أبناء جيله ومعاناة مع واقع ثقافي معاش. فخرج من اطار المحلية الى اطار العربية، فصار نجماً عربياً بكل ما تحمل الكلمة من مضامين ايجابية. وحتى لحظات الوداع لم يكن زكي متقوقعاً في مرضه وذاته. لكنه كان يسأل باستمرار عن آخر اعماله التي لم تكتمل،"حليم"، وأوصى ان تكون جنازته هي آخر جزء من الفيلم حين اكتماله وعرضه للجمهور. الرياض - حسين أبو السباع كاتب صحافي مصري [email protected]