بوجه غارق في سمرة الدلتا، ونظرة ملؤها الصدق والعفوية، دخل الفنان الراحل أحمد زكي مضمار الفن، ولم يكن يملك من مقومات النجاح سوى حب جارف يغلي بين الجوارح، ورغبة غامضة تدفعه إلى فن اسمه السينما، بيد أنه استطاع أن يكون أحد أبرز نجومها لأكثر من ثلاثين عاماً قدم خلالها النجم الأسمر أكثر من خمسين فيلماً، عدت ستة منها، من بين أفضل مئة فيلم أنتجته السينما المصرية خلال تاريخها، في حين بلغ عدد الجوائز العربية والدولية التي حصل عليها الراحل، عدد أفلامه. أحمد زكي المولود في الزقازيق محافظة الشرقية العام 1949 ، الذي فقد والده باكراً وكذلك والدته التي تركته بعد زواجها الثاني، قدم إلى القاهرة حيث درس في المعهد المسرحي إذ تخرج مطلع السبعينات من القرن الماضي، لتكون هذه الشهادة هي الدليل الوحيد على حسن نيته في عشق الفن، لكنه واجه واقعاً سينمائياً مكرساً، فأنى لشاب ريفي بسيط، يعاني الحرمان والألم، أن يتمكن من إيجاد موقع وسط الكبار؟ ها هنا ظهرت مهارة الفنان أحمد زكي الذي لم يكتفِ باقتحام قلعة الفن المحصنة، بل عمل على قلب المفاهيم، وكسر التقاليد التي كانت سائدة في السينما المصرية في السبعينات وما قبلها، حين أدخل الشك في نفوس من يختزلون التمثيل في الوسامة والملامح الجميلة، ليثبت لهم بأنه"فتى الشاشة غير الجميل"والمحبوب في الوقت نفسه طالما يملك موهبة هي الوحيدة التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. وعندما تسنى له هذا الموقع سعى احمد زكي إلى ما هو أبعد من ذلك حين عمل، في أفلامه على الأقل، على إخراج السينما المصرية من مستنقع الميلودراما، والإثارة المجانية، ليقدم بديلاً متمثلاً في تلك السينما التي تطرح أسئلة من شأنها تقديم قراءة جديدة للواقع الاجتماعي والسياسي، عبر تقديم نماذج من المجتمع المصري بكل همومه، وخيباته، وتفاصيل حياته العادية فجسَّد دور البواب، والسائق، والطبال، والجندي، والمحامي، والصحافي، والمشعوذ، والمصور... وفي السنوات الأخيرة راح يجسد أدوار الزعماء كما في"ناصر 56"عن حياة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، و"أيام السادات"الذي يؤرخ لسيرة السادات، واعتبر الفيلمان علامتين بارزتين في تاريخ السينما العربية. ولعل الأمر الآخر في مسيرة هذا الفنان هو انه استطاع أن يجمع بين الانتشار الجماهيري الواسع من جهة، والاحتفاء النقدي البارز من جهة أخرى، أي تحقيق تلك المعادلة الصعبة في عالم الفن، معادلة النجم المحبوب بمعايير الجمهور،پوالممثل الموهوب بمقاييس النقاد، فلئن وجد فيه النقاد ممثلاً يتمتع بمهارات عالية في التمثيل، فان الجمهور البسيط وجد فيه نموذجاً للإنسان المصري العادي الذي يتحايل على هموم الحياة، ويبحث عن فسحة للأمل وسط المعاناة. وشاءت الأقدار أن تنتهي حياة الفنان الحافلة بفيلم"حليم"الذي يتناول سيرة الفنان الراحل عبدالحليم حافظ المتشابهة إلى حد بعيد مع تراجيديا الحياة التي عاشها أحمد زكي، ولعله في هذا الفيلم الذي انتهى من تصوير 90 في المئة من مشاهده، أراد أن يكون متماهياً مع الدور وصادقاً في تجسيده حتى الموت، فما إن اقترب موعد تصوير مشاهد مرض عبدالحليم وصراعه مع الموت في الأيام الأخيرة، حتى خرج أحمد زكي من استوديوات التصوير، حين غلبه المرض، ليكمل مشاهد الفيلم الأخيرة، بصورة واقعية، على مسرح الحياة، وربما كان هذا ما يدور في ذهنه حين طلب من المنتج أن يضمن شريط الفيلم جانباً من مشهد جنازته. ولم يكن اختيار زكي لتجسيد دور عبدالحليم حافظ في فيلم كتب له السيناريو محفوظ عبدالرحمن ويخرجه شريف عرفة، عشوائياً، بل هو استحضار لحياة قلقة عاشها الفنانان، بدءاً من خروجهما من المنطقة نفسها، مروراً بالمعاناة التي واجهاها في القاهرة حين حاولا بتفكير ريفي بسيط وبريء نيل الشهرة والمجد، وصولاً إلى التربع على عرش الفن عبر الجهد الفردي، والمثابرة، والإيمان، فثمة نقاط التقاء مشتركة، وحياة صاخبة، وشاقة انتهت بموت حزين. برحيل"جوهرة السينما السمراء"كما كان يلقب، تكون السينما المصرية، والعربية فقدت أحد أبرز نجومها، فهذا الفتى الأسمر النحيل الذي يحتفظ في محياه بكل براءة هذا العالم، استطاع أن يضيف إلى السينما العربية تحفاً فنية مدهشة مثل:"البريء"،"ضد الحكومة"،"أحلام هند وكاميليا"،"زوجة رجل مهم"،"أرض الخوف"،"سواق الهانم"،"اضحك علشان الصورة تطلع حلوة"،"البيضة والحجر"،"الهروب"وغيرها وهي أفلام لا تنتهي بإضاءة الأنوار في الصالة بل لعلها تبدأ، في تلك اللحظة، في ذهن المتفرج، وسيكون من الصعب تجاهل هذا الاسم لدى أي حديث يتناول تاريخ السينما العربية وهمومها وقضاياها.