دراسة: الشركات الألمانية لا تسوق للسيارات الكهربائية بشكل جيد    توطين تقنية "الجينوم السعودي" ب 140 باحث سعودي    بسبب الجوال.. صدمة كهربائية كادت أن تودي بحياة مراهق أمريكي    السفارة في قرغيزستان للسعوديين: ابتعدوا عن التجمعات في «بشكيك».. التزموا بالحذر    سان جيرمان يسعى لفوز شرفي لتوديع مبابي    «المركزي الروسي» يرفع الدولار ويخفض اليورو واليوان أمام الروبل    استمرار هطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    نيفيز: الهلال لا يستسلم أبدًا    تيليس: ركلة جزاء الهلال مشكوك في صحتها    "تيك توك" تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    آلية الإبلاغ عن الاحتيال المالي عبر "أبشر"    الحج تحذر: تأشيرة العمرة لا تصلح لأداء الحج    "الذكاء" ينقل مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    جيرارد: فخور بلاعبي الاتفاق    السمنة والسكر يزيدان اعتلال الصحة    مهارة اللغة الإنجليزية تزيد الرواتب 90 %    الهلال يتعادل مع النصر في الوقت القاتل في دوري روشن    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    رقم جديد للهلال بعد التعادل مع النصر    موعد والقناة الناقلة لمباراة الأهلي والترجي اليوم في نهائي دوري أبطال إفريقيا    ضمك يتعادل مع الفيحاء إيجابياً في دوري روشن    العلماء يعثرون على الكوكب "المحروق"    «الدفاع المدني» محذراً: ابتعدوا عن أماكن تجمُّع السيول والمستنقعات المائية والأودية    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يحصد 27 جائزة في «آيسف 2024»    الصين تستعرض جيش "الكلاب الآلية" القاتلة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    مستقبلا.. البشر قد يدخلون في علاقات "عميقة" مع الروبوتات    طريقة عمل مافن كب البسبوسة    طريقة عمل زبدة القريدس بالأعشاب    طريقة عمل وربات البقلاوة بحشو الكريمة    تأكيد مصري وأممي على ضرورة توفير الظروف الآمنة لدخول المساعدات الإنسانية من معبر رفح إلى غزة    الأمن العام يطلق خدمة الإبلاغ عن عمليات الاحتيال المالي على البطاقات المصرفية (مدى) عبر منصة "أبشر"    القبض على مقيم ووافد لترويجهما حملات حج وهمية بغرض النصب في مكة المكرمة    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    السالم يلتقي رواد صناعة إعادة التدوير في العالم    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    الكليجا والتمر تجذب زوار "آيسف 2024"    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل        مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    حراك شامل    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوزف راتزينغر قبل بابوية بينيديكتوس السادس عشر ... رئيساً لمجمع العقيدة والايمان ولاهوتياً محافظاً . التنائي المعاصر عن البنيان المرتبي وأركانه الفكرية والتاريخية ... يحيل ما لا يعقل الى تعاقد
نشر في الحياة يوم 21 - 04 - 2005

جرت العادة على التمثيل بهيلدير كامارا ان لم يكن بكاميليو توريس، والأول مطران ريسيف في البرازيل والثاني كاهن بوليفي من أميركا اللاتينية قتل في معركة بين الثوار والجيش في منتصف العقد السابع، تمثيلاً على الصلة المثلى بين الكنيسة الكاثوليكية وبين الفقراء، أو بينها وبين ما دعي ويدعى بحركات التحرير، ولو أفضت هذه الى أشد ضروب الاستعباد والاستبداد ثقلاً. فالمطران، أو الحبر، أو الراعي الأمثل هو من يرفع صوته مجلجلاً في الدفاع عن المقهورين والمحرومين والمعذبين في الأرض، وفي تقريع الظلمة والأغنياء وقساة القلوب والأعين. وهم اذ يدافعون ويقرعون لا يعدون الاختيار بين وظيفتين أو دورين للكنيسة، لا ثالث لهما: الانحياز الى أهل القوة وخدمتهم، أو الانحياز الى أهل الضعف وخدمتهم. فالكنيسة، شأن المؤسسات"العلوية"من البنى العليا الاجتماعية الأخرى، ينبغي أن تنحاز أو أن تلتزم، لأنها شاءت أم أبت منحازة. فإذا قالت: أنا أعمل من أجل جماعة المؤمنين، على سبيل المثال، قهقه الذين يعلمون وقالوا: هذا مثال الكلام الذي يموه الانحياز الى أصحاب الامتيازات ويقنِّعه. فمن قال بالوحدة، وحدة جماعة، ولم يقسم ويفرق، غشى على وعي من لن تقوم لهم قائمة الا بنشر انقسامات الجماعة وتوسيع خرقها.
وحين ذهب أحد كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية، الكاردينال جوزيف راتزينغر، في 1985 وهو القائم بشؤون العقيدة والايمان في الفاتيكان الى حين انتخابه أسقفاً على روما وحبراً أعظم، الى أن رأس الأزمات هو مأزم مفهوم الكنيسة نفسه. فهو علة شبهات وأغلاط أوردت اللاهوت والوعي الكاثوليكي العادي موارد الخطر وضعضعتهما، واذ عزفت الكثرة عن النظر الى الكنيسة نظرتها الى حقيقة شاءها السيد نفسه. فبعض اللاهوتيين يرون فيها بناء بشرياً، انسانياً، يحل بناؤه على وجه آخر في ضوء الظروف واملاءاتها. وتنحو هذه الرؤية نحو الكنائس الحرة في أميركا الشمالية، وهي نشأت رداً على قالب"كنيسة الدولة"الاصلاحية، البروتستانتية، من غير الأخذ بمفهوم الكنيسة الكاثوليكية. فعمد اللاجئون الى البر الجديد الى انشاء كنيستهم هم، والى صنعها على مثال حاجاتهم وأحوالهم.
"البرنامج"
ولا يشك الكاثوليكيون في أن الكنيسة مؤلفة من بشر هم وجهها الظاهر. غير انهم لا يشكون أيضاً في أن وراء هذه الصفحة أبنية أساس، ولا يجوز تغييرها. فلا المصلح، ولا دارس الاجتماع، ولا المنظم يسعهم ادعاء سلطان على حقيقة تتجاوز الانسان ويقصر دونها. فإذا أخضعت الكنيسة لمشيئة البشر فلا شيء يحول دون تحكم هذه المشيئة في مضمون الاعتقاد نفسه وفي مطالبه، والحكم تالياً بتعسفها وامكانها، وليس بوجوبها وضرورتها. ولا مناص من أن ينتهي البناء البشري، أو الشكل البشري، الى الالتباس بمضمون من نوعه ونسيجه. فيغدو الانجيل"برنامج"يسوع، ويُؤوَّل دعوة الى التحرر الاجتماعي أو الى أمر تاريخي آخر من الأمور التي قد تبدو دينية الا انها، في جوهرها، غير دينية.
وينطوي هذا النحو في تناول الكنيسة على احتمال آخر هو ترك العهد الجديد الى العهد القديم، والاقتصار عليه. وما"شعب الله"في الكتاب المقدس الا ابناء اسحق المتعبدون والأمناء على الميثاق. ولكن قبول هذه العبارة وحدها تعريفاً للكنيسة يغفل اسمها، ويقف بها على ارث ولد اسحق وذريته. فالكنيسة في العهد الجديد هي"جسد المسيح". ويلج المؤمن اليها من طريق الاتحاد بجسد السيّد، عمادة ومناولة، وليس من طريق نسب اجتماعي وأواصر اجتماعية. وتغليب هذه على تلك انما هو من اثر اعتبارات سياسية وعصبية وجماعية. وأما أعضاء الكنيسة، الأحياء والأموات، فتؤلف بينهم حياة نبعها ومعينها اتحادهم واجتماعهم في المسيح. وقد دأب اللاهوت الكاثوليكي في تسمية هذه الحقيقة"أمة القديسين"، والقديسون هم كل من غمس في العمادة.
فآل اشتباه مفهوم الكنيسة هذا واستبهامها الى انحلال مفهوم الطاعة، والى الطعن فيه، ورده الى ماضٍ قائم على التسلط والرأي القاطع، أي الى ماض فائت. وهو مآل منطقي ومتماسك المقدمات مع النتائج. فإذا كانت الكنيسة"كنيستنا نحن"، ولم تكن الا هذا، وليس بنيانها بمشيئة المسيح، لم يعقل وجود مراتب في خدمة المعمدين أقامها وسواها المسيح نفسه. فجاز، على هذا، رفض الدين بالطاعة والخضوع لسلطة أو لدالة أرادها صاحب المشيئة، وتصدر عنه، ولا تصدر عن اتفاق كثرة أعضاء التنظيم، على غرار ما يجري في المنظمات السياسية. والكنيسة، بديهة، ليست حزباً، ولا أخوية أو رابطة، وليست ناديا. وبنيانها العميق والثابت غير ديموقراطي لأنه يقوم على الرسم والسيامة والمباركة، وعلى حقيقة هذه. والدالة هي دالة المسيح، والسلطان سلطانه هو، وقد شاء أن يعطيها بشراً ينوبون عنه الى حين عودته، على قول راتزينغر.
وينبغي أن يعني الاسّ المسيحي عصمة الكنيسة من الاصلاح. بل ان الكنيسة،"أمة القديسين والاطهار"، تفتقر دوماً الى الاصلاح، ولو لم يجز أن يحمل مسلك أبنائها عليها، أو أن توصم به. وتفصل الصلاة بين كل الكنيسة وجميعها وبين أبنائها وأعضائها حين يقول مقيمها، مخاطباً السيد: لا تنظر الى خطاياي ولكن انظر الى ايمان كنيستك. ولا يعني احلال"خطايانا"مكان"خطاياي"الا اضعاف قيام الشخص الفرد بفعله، وجدارته بمسألته عنه، وتهوين هذه المسألة. فضمير المتكلم الواحد انما يذكر بضرورة الاقرار بالخطيئة اقراراً شخصياً، فردياً، كما يذكر بأن الانقلاب الى الايمان، أو الهداية، فعل المؤمن والمهتدي. وهذا على نقيض النزعة التي تغلب الجمع، والجماعة والنظام والانسانية جمعاء. فلا خطيئة ولا من يخطئون اذا اشترك الكل في اقتراف الخطيئة، ولم أسأل"أنا"عما فعلت.
ينبغي على كل من في الكنيسة، ولا استثناء، الاقرار بأنهم خطأة، وعليهم طلب الغفران والطهارة من خطيئتهم. وذلك لا يفضي الى القول بأن الكنيسة نفسها خاطئة. فهي فوق أعضائها، وأكثر من جمعهم بعضهم الى بعض بما لا يقاس، على نحو لا يدرك ولا يعقل. وما الخطيئة تستوهب مغفرتها، والصفح عنها، الا نقيض الايمان. بيد أن بعض المسيحيين، اليوم، يقلبون الصلاة ولسان حالهم:"لا تنظر الى خطايا الكنيسة ولكن انظر الى ايماني". فهم غافلون عن أن الايمان هو اجابة الكنيسة المسيح، وهي كنيسة لأنها فعل ايمان، وعلى قدر ما هي فعل ايمان يشترك فيه من تتألف الكنيسة منهم، معاً وجماعة. لذا فالاصلاح الحقيقي ينزع الى اطراح، ما أمكن، ما هو"منا"، ليظهر على أجلى وجه ما هو مصدرها. واذا كانت الكنيسة تحتاج الى شيء فاحتياجها الى القداسة وليس الى ادارة الأعمال والتكيف مع الظروف.
الكاهن
يخالف الايمان الكنسي، الكهنوتي خصوصاً، بعض مسلمات العصر الحاضر خلافاً ينتهي الى المناقضة التامة. ويصيب الخلاف هذا أول ما يصيب حال الكاهن. اذ لا يفهم، اليوم، كيف يجوز أن لا ينهض دور أو وظيفة على غير اتفاق الكثرة وتواضعها على أمر وقبولها به. ولا يعقل، تالياً، معنى أن يندب آخر، مباين ومفارق، امرءاً الى تمثيله، وأن ينيط به السلطان الذي له. فيبدل الذين لا يعقلون سلطان التمثيل هذا، وهو صفة الكهنوت الكاثوليكي وخاصيته، ما لا يعقلونه"خدمةَ تنسيق الاتفاق"، أي مدركاً بشرياً بينه وبين الثقافة المعاصرة وئام وإلف. فيتناءون عن"سر"البنيان المرتبي المتأصل، ويحجون الى ما يجري مجرى السنّة البشرية ومتعارفها.
غير ان متعارف البشر وسننهم لا يتفقان مع دور الكاهن الذي عليه أن يتخلف عن المسيح القادر وحده أن يحل الخاطي من خطيئته، وعليه أن يقدم المسيح على نفسه. والتخلف والتقديم هذان من وجوه الاحتفال الطقسي، وجمعه بين البشر والغيب، وندبه بشرياً ليقول لمثيله ونظيره: أُحلُّك من خطاياك. فكيف يمكن لإنسان أن يملك مثل هذا السلطان، وهذه القوة، لو كان مرجعه الى اتفاق الناس وليس الى المسيح نفسه. ولا ريب ان من امارات الغفلة عن هذه البدائه الكهنوتية سرور بعض الكهنة بتحول الاعتراف الى"محاورات تكفيرية"تعوض حميميتها ? يزعمون ? عن ندرتها وتقطعها. وينتهي الأمر بالكاهن والمعترف الى رد الخطيئة الى أسباب تخفيفية، والى اجراء ممحاة هذه الأسباب عليها، وانكار أن يسأل صاحبها عنها. فيتلاشى القدس من بعد أن أمسى ثقلاً ينوء بحمله من أوكل اليهم حمله، وكان، من قبل، مدعاة تعاظم انتهى الى الكبر أحياناً.
لم تغير قرارات المجمع المسكوني في البنيان المرتبي شيئاً ولم تبدل فيه. وليست مجالس المطارنة والكرادلة وندواتهم استثناء. اذ لا أصل لاهوتياً لها، ولا هي من بنيان الكنيسة وهيكلها الثابت، ولا قيمة غير القيمة العملية للوثائق التي تصدر عنها. أي أن الجمعي لا يحل مكان شخص الحبر ولا يقوم مقامه. فالحبر هو العلاّمة الدكتور، وهو معلم الايمان للمؤمنين من رعيته، والتعليم وقف عليه. وإفراد الحبر، أو المطران، بهذا الدور هو ضامن البنيان الرسولي والحبري الذي تتمسك به الكنيسة. فلا تنحل الى فيديرالية وطنية وقومية، وتمنع من التحجر على المرتبة الوطنية التي ليست بعداً كنسياً. والكنيسة تنهض بالموازنة بين الشخص والجماعة. والجماعة هي كل كنيسة من الكنائس المحلية المتحدة بالكنيسة المسكونية. وأما الشخص فهو من يرئس الأبرشية ويسأل عنها. وهذا، أي دور العلاقة بين الشخص والجماعة، ما جاءت التجربة النازية الفظيعة لتذكر به وبحيويته. فصدرت النصوص القاطعة في حكمها على النازية عن مطارنة شجعان ومعزولين. أما النصوص التي صدرت عن مجلس المطارنة في زوريخ، مدينة الكاردينال راتزينغر، فكانت هزيلة لا تنهض بالحمل الثقيل.
ويخلص الكاردينال، البابا الآتي، من ذلك الى ان الحقيقة الدينية لا يخلقها البشر لكنهم يجدونها ويقرون بها. واذا كان اتخاذ القرارات معاً شيئاً ممتعاً ولذيذاً فقد يضيع ذلك ما يسميه الانجيل نفسه تارة"الملح"، وتارة أخرى"الخميرة". والكنيسة أحوج ما تكون اليوم الى الملح والخميرة. وهذا ما سهت عنه بعض مراتبها في السنوات التي أعقبت المجمع الفاتيكاني الثاني. فاختير المطارنة من بين الكهنة"المشرَّعين على العالم"والعصر. ثم اتضح تدريجاً أن مثل هذه الصفة لا يفي بالغرض. فإلى الانفتاح، والقدرة على استقبال وجه العالم ومطالبه، ينبغي امتلاك القوة على جبهه، ومقارعة منازعه السلبية، والعمل على شفائها وتحصين المؤمنين منها. والحق أن نصف أحبار الكنيسة، من كرادلة ومطارنة، في 1984، لم يشتركوا في أعمال المجمع. وهذا امارة على أن جيلاً يخلف سابقه، وقد يباينه في احجامه عن الاضطلاع بدور الأخصائي، ونازعه الى الرعوية وتقديمها على العلم والاختصاص، من غير ان يدير ظهره وعقله للعلم. لكن نصب العلم معياراً أعلى يهدد الايمان بالدمار والعدم، ويبعد من الرعية.
ويصح في اللاهوت ما يصح في الكنيسة والرعاية. فاللاهوت بدوره خدمة كنسية يؤديها الجسم الكنسي مجتمعاً. واذا هو لم يؤدها على هذا النحو نجمت الفردية اللاهوتية، وهي، على الحقيقة، نزعة ذاتية لا تمت الا بصلة واهية الى أركان السنة والتراث المشتركين. ويبدو ان لاهوتي اليوم يريد"الخلق"و"الابدع"ويعتقدهما حقاً شخصياً له. بينما واجب اللاهوتي الدخول في الدقائق، والعمل على ارساء الفهم على أساس أمتن، واخراج خزائن الايمان المشتركة الى العلن. واذا استنكف من واجب التدقيق والتمكين والاعلان تشتت الايمان مدارس وفرقاً متنازعة، واشتبهت السبل والمناهج على الرعية.
وينزع بعض الدارسين الى تقديم شواهد من الأناجيل على أخرى وانزالها في الصدارة متذرعين بقربها من شعور واحساس معاصرين. وتؤخر، أو تطمس، شواهد أخرى للعلة نفسها وانما مقلوبة. فيغضى عن تعليم يرمي الى جلاء تام للايمان، ليكون محله تأمل يستلهم تجارب جزئية وذاتية. ولكن على تعليم الكنيسة، وهو جماع الأناجيل والأعمال السنة، ان يلقن المؤمن ما يجب أن يعتقده، وأن يعمله، وما هو معقد رجائه، وعليه ان يرسم له ذلك المعتقد والعمل والرجاء جميعاً. ولا يغيب عن الناظر المدقق أن كثيراً من كتب التعليم الديني الحالية يهمل هذا البنيان الأساسي، فيخلف الاهمال ما يرى من تضعضع في رشد الايمان لدى الأجيال الجديدة، ومن عجز عن الالمام به الماماً جامعاً وتاماً.
أثريات
وينهج من هذا شأنهم نهجاً مستقلاً يفضي، باسم الاستقلال، الى المعارضة والمضادة. واذا كان ما من ريب في أن الطريقة التاريخية النقدية أمكنت المسيحيين من فهم النص على انحاء جديدة، ومعان محدثة، غير انها عاجزة عن تفسيره على غير بعده التاريخي، وعن حمله على مطالبه الراهنة والحالية. وتخرج الطريقة التاريخية النقدية عن سوية العلم اذ تخلط الأمرين: البعد التاريخي والمطلب الراهن. ولا مناص من الخلط هذا اذا غفل عن ان كتاب العهدين لا يفهم، بما هو حاضر ومستقبل، منزوعاً عن التحامه بالكنيسة والتحام الكنيسة به. فلا يقرأ، في الحال هذه، على هدي التقليد الكنسي، ومع الكنيسة، وانما في ضوء آخر طريقة تزعم"العلمية". ولكن تفسيراً لا يقرأ الكتاب ويحياه في جسم الكنيسة الحي يتحول الى علم بالأثريات يواري فيه الموتى موتاهم، وينزع الكلمة الفصل في الكلام من الرعاة، ومن الكنيسة المعلمة، ويعطيها لصاحب الاختصاص وللأستاذ، ولعلمهما المتقلب والظرفي.
ولا شك في أن التفسير، التاريخي والنقدي، يتيح قراءة الكتاب بإضافته الى خصوصه التاريخي، والى تنوع تاريخ ينمو وينتقل من طور الى طور، ومن حال الى حال، ويثقله بأضداد ومنازع هي سر ثرائه، وفي الآن نفسه ينكفئ الكتاب ويحول الى موضوع اختصاص، ويحال بين من ليس فقيهَ تفسير وبين التكلم والقول فيه. والخطيئة هي من التعليم الأخلاقي بمنزلة الركن، ومن الحياة الأخلاقية في منزلة الشرط. الا ان الغالب على قيم السلوك ومعاييره في المحيط الليبرالي السائد هو الاباحة. فيبدو الأدب الخلقي الكاثوليكي بعيداً من العقل والاحتمال للمضادة التي بينه وبين متعارف الناس ومشهورهم، أي ثقافتهم العامة والسائرة. بل ان بعض مفكري الكثلكة أنفسهم لم يمكنهم جبه العادات والسنن الرائجة، فاستسلموا لها وسلموا بها. وينص الأدب الخلقي المسيحي على ان الحياة الجنسية خارج الأمومة تخسر اطارها الحي، ومرجعها. وهي، بسبب خسارتها الاطار والمرجع، مشكل وسلطان ثقيلان، مهيمنان على الذهن، وعلى الشعور والرغبة هيمنة لا فكاك منها. وآل الفصل بين الحياة الجنسية والأمومة الى الفصل بين تلك وبين النسل، اذ في وسع من يشاء أن يكون أباً، وتكون امرأته أماً، من غير أن يكون الولد من نسلهما، فتحمله امرأة أخرى تكون أماً من غير أن تحفظ نسلها، وتقتصر أمومتها على حضانة الرحم. ومن الجلي أن هناك طوراً جديداً، طور النسل من غير حياة جنسية البتة، أو طور الاخصاب في المختبر. أما ضحية هذه المحدثات جميعاً فهي العلائق الطبيعية الأساسية، وليس الروابط المدنية أو الحضارية والثقافية وحدها.
وان ما نشهده من عزل للاخصاب عن الزواج، القائم بدوره على رابط حياة كاملة، يقلب الاخصاب من بركة ونعمة الى عكسه وضده، فيقر"حق كل واحد في السعادة"، ويتوج الاجهاض المنظم، والمجاني، هذا"الحق"ويعضده ويحققه. وهذا ما لم يفتأ يوحنا بولس الثاني يعود به وهو في نزعه الأخير. وربما كان هذا من علل انتخاب رئيس أساقفة ميونيخ خلفاً له.
فلا عجب اذا تنازع الكنيسة نازعان: أولهما الى التسوية مع القيم السائدة في المجتمع، وتريد الكنيسة خدمته والمضي عليها، وثانيهما الى حفظ قيمها الخاصة التي ترى أنها حماية للبشر والاجابة الحق عن طلبهم العميق، فتنعزل عن المجتمع وتنفرد. ويتطاول هذا التنازع الى قلب المعتقد الكنسي والى جوهره. فالميل الى ترك الحياة الجنسية نهباً لاختيار الفرد الحر، والى تعليق هذه الحياة على الاختيار وحده، ينتهي الى أنكار منطق الطبيعة ورسومها، والى قطع الأخلاق من الطبيعة ومن منطقها ورسمها. ولعل علة قبول بعض الكاثوليك الاجهاض، على رغم الرسالة البابوية في"الحياة الانسانية"، هي الانكار والقطع هذان. ونتج من هذه المقدمات التسليم بإسناد الأخلاق الى العقل وحده، وباستقلال العقل بالأمر. فألغي، جراء ذلك، دور التعاليم ووظيفة الكنيسة المعلمة، وطمس التنزيل مع وصاياه وشريعته. وذهب كثيرون الى ان الشريعة التي أقامت عليها الكنيسة تعليمها الأخلاقي الموضوعي، ليست سوى"نتاج حضاري"من ثمار الشرق الأوسط السامي والقديم. فلا ينبغي أن يربطنا به رابط غر الرابط الأناسي والتاريخي.
ويمهد نفي الرابط المتصل من العهد القديم الى اليوم الى هرطقة قديمة قالت بالفصل بين العهدين القديم والجديد، وأنكرت وحدتها، ونسخت الشريعة، المضافة الى العهد القديم، بالنعمة، المضافة الى الجديد. وتعكس هذه المقالة تعليم الكنيسة وتقلبه الى خلافه. فالكتاب، في عقيدة الكنيسة، كلٌّ واحد ومتصل، ولا يجوز فيها معارضة الشريعة بالإنعام على المسيح.
ويستأنف دعاة رسم النساء، كهنة، المقالة الناسخة نفسها. فيزعمون أن الفرق بين الجنسين، بين الأنوثة والذكورة، ثانوي ولا دلالة له. وينجم عن زعمهم هذا نفي الجسد بما هو محل تجسد الكلمة في كائن ذي جنس، أو طبيعة جنسية خلاف طبيعة أخرى. وكما نزعت عن المرأة صفة الأمومة يُسلب منها اختيار البتولية الحرة، وينكر عليها. وفي هذا كله ما فيه من محو الفروق الطبيعية والرمزية معاً، في معرض الدعوة الى المساواة والى الغاء كل تفاوت واختلاف. فالمرأة ليست صنو الرجل، وليس الرجل صنو المرأة، لأن بين الاثنين فرقاً يختص بالواحد ولا يعقل أن يشاطره الآخر اياه أو فيه. واذا كان الرجل، بديهة، لا ينجب الا في المرأة، ومن طريقها، فهو لا يتبتل الا بمحاكتها وبالحذو على مثالها. وهي علم على الانسانية وامام لها من غير أن تخرج من طبيعتها وماهيتها. وما أنوثة الكنيسة، اللفظة العربية وغير العربية، وخلافاً"لشعب الله"المذكر، لفظاً أيضاً، الا امارة على استقبالها سر الأمومة، وتحررها من المجازاة والمقايضة، ودليل انصرافها الى التأمل. ولذا أقدم المجمع الفاتيكاني الثاني على التوحيد بين السر المريمي والسر الكنسي، ونبه على ما تخسره الكنائس الانجيلية البروتستانتية من جراء اهمالها مريم وسكوتها عنها. وأناط بالبتول وبأمومتها وانتقالها الازدواج طبيعتين في واحد. فالبتول مبنى الأمل بالخلاص الأخروي ومبنى الجمع المتوفر والمتنازع بين التجسد وبين رجاء بعث الأجساد في آخر الزمن، وبين العهد القديم والعهد الجديد، وبين الشريعة والنعمة. والفيء الى مريم يقي الكنيسة، وأبناءها، الاسترسال في الهم الذكري والسعي وراء السيادة والملك والسلطان، وترك لنفس نهباً لها.
قد يكون قارئ راتزينغر غريباً عن لغته، وعن ألفاظه، ومفهوماته. الا ان راتزينغر، المسيحي، الكاثوليكي، الأوغسطيني نسبة الى أوغسطينوس الأفريقي القرطاجي التونسي، الأوروبي، الألماني، انسان يفكر بصوت وفكر عاليين وجهوريين، من غير ان يعرى من كل الصفات الآنف ذكرها، ومن معانيها. ولعل سعيه الى الجميع بين الوجهين، وتوكيده الثابت على اثنينية عميقة التنزيل والكنيسة، الكتاب والتقليد، الوحي والتعليم، التعليم والعقد، الطبيعة والمدنية، الرجل والمرأة، الشريعة والنعمة، الرب والابن...، لعلهما، أي الجمع والتوكيد، مصدر احساس القارئ بضرب آخر من الاثنينية. فلا يني القارئ يشعر أن ما يقوله راتزينغر مشدود الى قائله، لا ينفصل عن يقينه وايمانه ومسلماته وثقافته. ولكن القارئ اياه يجد نفسه مشدوداً الى الفكر الذي يقيم بين المسائل العلاقات التي يقيمها بسبب قوي ومتين. ولا شك في ان القائل يبقى حيث هو، ملتبساً بمقالاته ومعتقداته وتجربته، غير مفرط في شيء منها، ولا محاب فيها. واقباله على الموضوعات التي يتناولها من غير اغفال وجوهها الكثيرة، ومن غير انكار التنازع بين هذه الوجوه، يحمل القارئ على التعويل على نتيجة المعالجة، وانتظارها، قلقاً ومضطرباً. وما القلب والاضطراب الا لأن راتزينغر لا يتردد في حشر نفسه بين الأضداد، وفي عرضها عرض نفسه عليها من غير رحمة، ولا تعويل جدلي على دمجها وتوحيدها ونسخ ضديتها.
أي ان معالجة راتزينجر درامية، بالمعنى اليوناني والأرسطي. والحق أن نعتها بهذه الصفة ليس ذريعة الى حملها على محمل جمالي أو شعري، والى التنصل من مضمونها. فمقالات الكاردينال السابق والحبر الأول اليوم، وارث التفتيش والرقيب على سوية الكنيسة الاعتقادية، نقد جاد للسياسة باسم الدين، وللتاريخ باسم الخلق، وللديموقراطية باسم العهد والتجسد، وللمدنية وتسويتها وتمهيدها الفروق باسم منطق الطبيعة. ويتنقل نقده بين هذه العناصر ليقيم الاختلاف بينها، ويثبتها على اختلافها وتفاوتها وعلى حقها فيهما. وهو يصر على ان أسماء مسائله ليست كناية ولا مجازاً: فالكنيسة هي الكنيسة، والأحبار هم الأحبار، الخ. والحبر الأول، على ضيق قسمته من الوقت، لن يكون الا حبراً أول. والى هذا ندبه من كانوا زملاءه وأمسوا رعيته.
كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.