شكلت التجربة السويدية موضوع إدهاش مديد لعديد المراقبين والمحللين. وربما كانت نادرة النماذج التي استولت على مخيّلات الدارسين كما استولى"الموديل السويدي". لكن ما أسماه غريغ أوسلن نمطاً قائماً على"تأميم وسائل الاستهلاك"هو ما تتعاظم المخاوف، قبل أشهر على الانتخابات العامة، في صدده، كما يلحّ السؤال: هل يكون ذاك الفردوس الأرضي - الذي هو"موديل دولة الرفاه الرأسمالي"- في طريقه الى الأفول. منذ مطالع القرن الماضي جمعت السويد بين الديموقراطية الليبرالية ودولة الرفاه، وعلى نحو عز نظيره كُتب لرفاهها النجاح. فهي شكلت، مبكراً، وبعيداً من الادعاءات الغامضة والمتضاربة لتوني بلير، طريقاً ثالثاً أعلى من الطريقين الرأسمالي والاشتراكي، وليس وسطاً بينهما. والتجربة هذه لم تنفصل سيرتها عن سيرة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي تأسس في 1889، وكان كارل هجالمار برانتينغ في عداد مؤسسيه، قبل أن يصبح، في 1907، قائده الأول. فالماركسي القويم هذا، الآخذ بأطروحات برنشتين ومن بعده كاوتسكي، والمتعاطف لاحقاً مع المناشفة الروس، منح أولويته للعمل البرلماني، منشئاً للغرض هذا، ومنذ ما يرقى الى 1917 سنة الانشقاق الشيوعي عن الاشتراكية الديموقراطية، تحالفاً مع الليبراليين. والحال أن الائتلاف اليساري-الليبرالي ما لبث أن توصل، في العام نفسه، الى تشكيل حكومة تولى فيها برانتينغ وزارة المال، فما أن حل 1920 حتى شكل حكومته الأولى. أما البند الثاني في مشروعه الطموح فكان تحييد السويد، بدل إشعال الحرب الأهلية-الطبقية، على ما طالب لينين. هكذا أُنجز الحياد إبان الحرب الكونية ثم ثُبّت حياداً دائماً، فاستحق صاحبه، في 1920، جائزة نوبل للسلام. وعلى الدوام فضّل السياسي السويدي النزعة البراغماتية على التثبّت الايديولوجي، وانحاز الى النمو طريقاً الى المساواة، بدل العكس. وفي الخلاصة، لم يخسر الحزبُ السلطةَ، منذ الثلاثينات، الا فترات محدودة، فلم يقض اليمين في الحكم، منذ 1932، سوى ما مجموعه تسع سنوات فحسب. وفي الغضون تفوقت برامج الرفاه السويدي على مثيلاتها في العالم قاطبة. فبعد نزاع صناعي حاد سجّلته العشرينات، تمكن الاشتراكيون الديموقراطيون من توحيد بلدهم وراء برنامج للتوسع الاقتصادي بقيادة الدولة، مسوق بالمساواة، أو ما تيسّر منها. وكان المِعلم الفاصل، في المسيرة هذه، الانتصار الانتخابي عام 1932 الذي عبّد الطريق أمام المحاولة الناجحة الأولى لتوفير عمالة شاملة، بوسائل كينزية، في ظل ديموقراطية سياسية. وفعلاً، ففي 1938 توصل كبار مؤسسات البيزنس ونقابات العمل الى اتفاقية سالتسجوبادن التي تؤكد على حقوق الإضراب، وحقوق التسريح، على ألاّ يستعمل الطرفان سلاحيهما الا في الحالات القصوى، آخذين في الاعتبار انعكاس ذلك على الأطراف الثالثة. وعلى النحو هذا اعتُمدت سياسة تدعم الأسواق المفتوحة ومرونة السيولة في اليد العاملة كما لا تعترض أياً من إعادات الهيكلة في الحدود التي يحتاجها أرباب العمل كيما يحسّنوا قوتهم العاملة ويستجيبوا شروط التنافس المتغيرة. وهو ما لم يكن ليحظى بدعم النقابات لولا السخاء الذي تُبديه تقديمات شبكة الأمان الاجتماعي. وعن معاهدة سالتسجوبادن نجم السحر السويدي ذو الأضلاع الثلاثة: ضرائب شديدة الارتفاع وتقديمات شديدة الاتساع وعمالة كاملة. لكن دولة الرفاه، من جهة أخرى، لاءمت تقليدية المجتمع وصغره وعزلته النسبية، إذ وفّرت حساً بالاستمرارية وسط تحول متسارع ينتجه التحديث. وقد ظهر من رأى أحد أسباب قوة النموذج السويدي ربطه الماضي بالمستقبل، عبر وعده بالحفاظ على التقاليد، فكان المثال العائلي حاضراً في تنظيمه الاجتماعي نفسه: ذاك أن ما نشأ عن اتفاقية سالتسجوبادن إنما صيغ بمفهوم"بيت الشعب"فولك-همّت، الذي يرجع الى أوائل القرن العشرين، شاملاً مثالات الاشتراكية الديموقراطية، كالمساواة والعمالة الشاملة والتقديمات. لكن"بيت الشعب"كان أساسياً أيضاً في ضم النساء وهمومهن الى الأجندة السياسية، كما مكّن المرأة من دخول العمل المأجور بأعداد ضخمة ابتداء من الثلاثينات، ولا سيما الستينات. وحتى مطالع التسعينات شكلت النساء 48 في المئة من قوة العمل، وهي أعلى نسبة في العالم. وهذا، بدوره، ما لم يُضطرّ السويد الى استيراد العمالة لعقود عدة، كما زاد في تجانس العمالة والشعب معاً وفي محليتهما. وقصارى القول إن السويديين نجحوا في تفعيل عدد من القيم والعلاقات"الرجعية"، على نحو مفارق،"تقدمياً"، بانين على معطيات متوارثة في تاريخهم. فالملايين التسعة الذين يشكلون اليوم شعب السويد، يتكلمون لغة واحدة ويبلغ البروتستانت اللوثريون قرابة 90 في المئة منهم. وكان آخر استعراضات هذا التركيب المتساوق والمساواتي رفض الانضمام الى اليورو، بموجب استفتاء أجري في أيلول سبتمبر 2003، علماً بأن السويد عضو، منذ 1995، في الاتحاد الأوروبي. ومعروف أن اليسار، في عمومه، ليس متحمساً للقارة التي تصطبغ، في عرفه، بالنمط الأنغلو-ساكسوني وبالعولمة بوصفهما تهديداً للرفاه ولمألوف عيش السويديين الحميم. ويكمّل لوحةَ الانسجام أن اليمين نفسه يؤكد رغبته في إبقاء التقديمات الاجتماعية، والاقتصار على"تشذيبها"، من غير أن يوجد يمين فاشي، عنصري أو شعبوي، يعادي الأجانب ويتهمهم بالعثرات والانتكاسات. وهي إجماعات لها ما يرادفها في الشكل وأنظمة القيم. ذاك أن السجال السويدي هو دوماً"الأشد تهذيباً"، حيث يُرمى من يرفع صوته ب"قلة التمدّن". لكنْ من ضمن اتفاقات كهذه، تترجّح بين الرفاعة والأبرشية، تحققت انجازات تقدمية لم يرتفع ضدها ما يُذكر من أصوات. فالسويد، مثلاً، كانت السبّاقة في الحريات الجنسية، وحقوق المرأة، فيما سجّل الطلاق أعلى نسبه هناك. ومن دون ان يُعرف السويديون بالتردد على الكنائس، غدت اللوثرية جزءاً من ثقافتهم الوطنية تعلموا منها الاستقامة في الأعمال والنزاهة العامة في العلاقات المالية، الشخصية والعامة. وهذا جميعاً لم ينفصل عن موقعهم الجغرافي النائي، كما عن وقوفهم خارج دراما التاريخ الأوروبي وحروبه، الشيء الذي يفسّر جزئياً نقص حماستهم للمشاريع القارية، وتعويلهم على حيادهم، وسرورهم بطرفيتهم الشمالية. وقد لاحظ جوناثان باور أن كبار المثقفين السويديين، كالمخرج إنغمار بيرغمان والشاعر توماس ترانسترومر والموسيقار وليم ستنهامر والرسام أندير زورن والكاتب أوغوست سترندبرغ، يجمع بينهم اشتراكهم في العزلة والنوستالجيا كموضوعات متكررة. ويذكّرنا الكاتب الأميركي بأن السويديين لا يزالون يحييون"الأسبوع القروسطي"، فيفد الزوار من أنحاء السويد الى مدينة فيسبي المسوّرة، لابسين ثياب القرون الوسطى كيما يؤدوا طقس السير كما سار القروسطيون. ورغم انقضاء عقد ونيّف على زوال الاتحاد السوفياتي، تمضي السويد في تمسكها بالتجنيد الاجباري، علماً بصفاء علاقاتها مع جميع الدول القريبة والبعيدة، فيما البلدان اللذان يحدّانها ليسا الا فنلندا والنروج. بيد أن انكسار هذا المركّب من الضآلة والمحلية والعزلة أمّن ظرفاً نموذجياً لدولة الرفاه الموسّع. الا أن انكسار الخليط المذكور هو بات يهدد الفردوس الفريد. فثمة من يجادل، اليوم، بأن الحراك الدولي المتعاظم لرأس المال، كما للعمل، على ما شهدنا في السنوات الأخيرة، سوف لن تنجو السويد منه، بل سيُجبرها على خفض الضرائب، وبالتالي تقليص الرفاه. ويُسترجع، في هذا السياق، التيار الآخر الذي وسم التاريخ السويدي الحديث، وهو التجارة. فهذه الأخيرة كانت الأب الشرعي لسائر الانجازات اللاحقة منذ وقّعت ستوكهولم، في 1865، الاتفاقات التجارية مع باريس ولندن التي تولّت نقلها من بلد زراعي فقير الى ما صارته. وفقط بعد ذاك، انطلقت، في 1870، ثورتها الصناعية التي استجرّتها الصلة الجديدة بأوروبا. صحيح أن المخاوف المضخمة على الرفاه ونجاحه لم تتحقق: فنسب النمو لا يزال يُتوقع لها أن تستمر بمعدل 3 في المئة، أي ما هو أعلى من معدلات باقي الاتحاد الأوروبي ولو أنها أدنى مما كانت عليه المعدلات السويدية، ونسبة الفائدة 1،5 في المئة، والصادرات في ازدهار فيما شركات السويد العملاقة فولفو، إيكيا، تترا باك، إريكسون... لا تزال تعاند التفريع والترحيل الى الخارج. لكن البطالة اليوم مرتفعة نسبياً وهي، حين نضيف الذين يعيشون على برامج إعالة العاطلين عن العمل، تتجاوز ال 5،8 في المئة التي هي الرقم الرسمي. كذلك شرعت صفوف الانتظار طلباً للخدمة الطبية تطول وتعرض. والحال أن خفوضاً جزئية في تقديمات الرفاه تلاحقت منذ مطالع التسعينات، فيما أتيح، على نطاق ضيق، إنشاء مدارس خاصة وخصخصة قليل من المستشفيات. وواضح أن العولمة في حدّها من قدرات الدول-الأمم على ممارسة التناسق والحماية الاجتماعيين، تضرب هناك. فخيارات الاستهلاك شرعت تفيض عن الضبط الحكومي السابق، وبعدما كان السويديون يستخدمون تعبير"ينتمي"وصفاً للعلاقة بمشفى الحي، أو مدرسة الأبناء القريبة - وهما بلا شك مشفى ومدرسة ممتازان الا انهما مقرران حكومياً - ارتفع عدد المدارس الخاصة والمختلطة الملكية ما بين 1990 واليوم من 9 الى 740 يدرس فيها 100 الف تلميذ. وتزايد الخيارات، والحرية تالياً، هو ما تصاحب مع اختلاط سوق العمل وتداخلها. فحسب أرقام 2000، بلغت نسبة الأجانب الى السكان المحليين 5،4 في المئة، وهي نسبة لا تُذكر قياساً بسويسرا 19،3، كما أنها أقل من بلجيكا 8،8. لكن رغم الضوابط التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية، يجد المهاجرون الى السويد ترحيباً لا يتوافر لهم في أي بلد غربي آخر. فهي وحدها، مثلاً، البلد الأوروبي الذي لا يقيم فترة انتقالية تسبق منح المهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية التي أصبحت أعضاء في الاتحاد حق حرية التنقل. وثنائية الرفاه والحرية التي عثرت في السويد على توازنها الأمثل قد تكون في طور المراجعة بحثاً عن توازن جديد. وهو ما يتوقع المراقبون انعكاسه في انتخابات العام المقبل. ذاك أن حكومة غوران بيرسّون، الاشتراكية الديموقراطية، التي قضت في الحكم 9 سنوات، غدت"مضجرة جداً". وهي، هذه المرة، قد تخسر أمام منافس محافظ، شاب وديناميكي نجح في توحيد اليمين المبعثر. صحيح أن هذا الأخير لا يزال، حتى اللحظة، على يسار اليمين الأوروبي كله، لكنْ من الذي يضمن المستقبل إذا ما هبّت رياح الحرية يميناً، وبعيداً؟ وهل هي، من ثم، بداية ما وصفته بولي توينبي بفعالية الضجر،"أكثر الغرائز الانسانية فتكاً"؟