27 كانون الثاني يناير 1945 هو التاريخ المتعارف عليه لتحرير قوات الحلفاء معسكرات الاعتقال النازية لليهود وغير اليهود الأوروبيين في بداية النهاية للحرب العالمية الثانية. الذكرى الستون التي تحل بعد أيام أخذت منحى عالمياً، لأنها أولاً وأخيراً شأن انساني عام، وعلى تعدد المعسكرات التي تحولت الى مصانع للموت المبرمج، ظل معسكر اوشفيتز رمزاً لهذه الظاهرة اللاانسانية التي ميزت الايديولوجية النازية. لكن اوشفيتز كان مقتلة البولنديين أكثر مما اتسم بالقتل"اللاسامي"المستهدف اليهود لأنهم يهود، لذلك يلفت هؤلاء الى معسكرات أخرى أكثر تمثيلاً ل"المحرقة"، مثل بركناو وبوشنولد وداشاو حيث ارتكبت جرائم الإبادة على أوسع نطاق. أهم ما في الذكرى هو أن نتذكر، أن لا ننسى، وأن نستنكر وأن نتعلم ان هذا الذي حصل يجب أن لا يتكرر. نعم، يجب أن لا يتكرر بأي شكل، فالمأساة لم تقتصر على الذين قضوا قتلاً أو في أفران الغاز، وانما تمثلت أيضاً بالاهانات والاساءات التي تعرض لها اليهود من لحظة الاعتقال الى لحظة الانعدام، أو لحظة البقاء، مثلما تمثلت باهانة الموتى الذين غدوا مجرد أكوام من الجثث تدفعها الجرافات الى المقابر الجماعية. كان ذلك كبرى الخيبات التي صنعتها البشرية لنفسها حين اخضعت تقدمها العلمي لأكثر الأهداف دناءة ووحشية. لكن يصعب القول انها تعلمت الدرس حقاً، يصعب القول ان تقنية الإبادة ازيلت ولم تعد موجودة، بل يصعب القول ان اغراء الإبادة ذهب الى غير رجعة بفعل الجهد التربوي والتثقيف القيمي والتفضيل الأخلاقي التي سادت فكر ما بعد الحرب. فعالم اليوم يعج بالنازيات المقنّعة. هناك اسقاطات كثيرة من الذكرى الستين تنطبق على الواقع المعاش الآن، منها مثلاً ان دراسات جدية عدة أجريت لرصد مصدر الأوامر بتصفية المعتقلين. إذ أن المحاكمات اللاحقة في نورمبرغ وسواها ارتبكت عند اصرار الضباط على انهم تصرفوا وفقاً ل"الأوامر"، لذا كان مهماً البحث عمن أصدر تلك الأوامر كما في محاكمات الصربيين والراونديين، وصولاً الى محاكمة ضابط التعذيب في العراق، وهو ما انكبّت عليه أبحاث أكاديمية شجعتها منظمات يهودية. ومن الاسقاطات أيضاً، ذلك العمل الدؤوب لاسترجاع أملاك اليهود وتعويضهم، وهو ما يتقاطع مع ضغط شديد يمارس حالياً لتبديد حقوق الفلسطينيين بما فيها خصوصاً حق العودة. هذا يقود الى اسقاط بارز تشير اليه الكتابات الراهنة كالآتي:"دور ذكرى اوشفيتز في التصاعد الراهن للاسامية". "مع مرور الوقت أصبحت مشاعر الاستياء تسيطر على نظرتي الى"الآخر"والى الحياة بشكل عام... سبعون عاماً وأنا أشاهد شعبي يتعرض لعملية بطيئة من الإبادة العرقية، وفي الأعوام الأخيرة أخذت هذه العملية تتحول الى حرب ابادة جماعية"... بهذه العبارات يلخص الأكاديمي الفلسطيني شريف كناعنة مأساة شعبه في شهادة روى فيها مرحلة التهجير. كنت شاهداً على اغتصاب فلسطين، وكان ذلك اغتصاباً جماعياً ارتكبه اليهود الصهيونيون، تدعمهم"وتصفق لهم"أوروبا المسيحية، أوروبا المسيحية نفسها التي ذبحت اليهود وأرسلت من تبقى منهم الى الشرق الأوسط لأنهم لم يكونوا أوروبيين انقياء بل ساميين". ويقدم كناعنة وصفاً حياً للرعب والخوف والتنكيل لا يختلف إلا بالتفاصيل عما ارتكبه النازيون، فهو رأى كل شيء بأم العين. هناك عبارة يمكن أن نجدها في شهادة أي من الناجين من المحرقة اليهودية"جاءت حافلات كبيرة الى القرية وتم تحميل الرجال ونقلهم الى مكان مجهول"... بل يروي كيف ان الفلسطينيين في"معسكرات السخرة"كانوا يجبرون على نقل حجارة بيوتهم المهدمة لبناء بيوت المستوطنين، تماماً كما أجبر اليهود على بناء السجون التي أعدت لاعدامهم. قدر الانسان ان يتذكر، أم أن التذكر امتياز لشعوب من دون أخرى. من حق العراقيين ان يعرفوا كل حقائق فظاعات النظام السابق. ومن حق الفلسطينيين ان يكشفوا كل جوانب المأساة التي حلت بهم على أيدي"أوروبيين"يهود. الذكرى أفضل وسيلة للحؤول دون عودة الغول اللاانساني، والتذكير كان ولا يزال سلاحاً لا يكف اليهود عن استخدامه. فالنسيان أو التراخي في التذكر يحيي الأشباح الجهنمية. لكن يعترف بعض الكتاب بأن ادارة الذاكرة الإنسانية بالنسبة الى المحرقة تنطوي على أكثر من ثغرة. والثغرة الأهم اسمها"اسرائيل". اذ لا شيء يمكن أن يمنع المقارنات التي تذهب الى القول بأن"ضحايا الأمس باتوا جلادي اليوم"، ولا شيء يمنع تذكر هتلر حين تعرض التلفزيونات شارون متباهياً بانجازاته الدموية. فالعملية التعليمية هنا مفتوحة ولا يمكن التحكم، خصوصاً ان تعليم"المحرقة"ظل غامضاً بشأن أسباب استهداف اليهود ودوافعه. ثم ان التاريخ وجد لتحليل الحاضر ومسائلته، بمقدار ما هو مختص بفهم الماضي. عودة اللاسامية، اذا كانت عادت فعلاً، تدار حالياً بالعقلية نفسها التي تسعى الى ادامة وضعية"الضحية"لليهودي أينما وجد، حتى في اسرائيل. لكن الأحداث تخون هذا الهدف، لأن"الآخر"هو الضحية وليس اليهودي. لا شك ان تقريب اسرائيل الى المحرقة هو ما صنع الاشكالية الراهنة، التي سمحت بدورها في اجراء المقارنات. والسؤال المطروح: هل كان انشاء اسرائيل تعويضاً أوروبياً لليهود عن المحرقة، وهل يتبنى اليهود هذا التفسير، أي هل يعترفون فعلاً بأن الضحايا أصبحوا الجلادين؟ إذاً، أين تصبح ذكرى اوشفيتز في هذه الحال؟