لعل الضجة التي رافقت منح الكاتب إمره كرتيس جائزة نوبل للآداب في العام 2002 لها بعض الحسنات، وأهمها تسليط الضوء على حاجة القارئ العربي إلى التعرف الى الأدب الهنغاري الذي يجهله. صحيح أن بعض الترجمات الشحيحة كانت صدرت هنا وهناك، وهي شذرات من كنز أدبي ضخم لهذه الأمة القاطنة وسط أوروبا، بينها ترجمة المرحوم سعد الله ونوس لعمل إشتفان أُركين "العائلة توت"، والترجمات التي أعدها فوزي العنتيل لأشعار شاندور بتوفي وأتيلا يوجف قبل عقود وهي ترجمات عبر لغات وسيطة غير الهنغارية، والترجمات الجديدة التي نشرها نبيل ياسين لبعض من الشعر في صحف ومجلات، وأسهامات كاتب هذه السطور بترجمة بعض الشعر والنثر الهنغاري في صحيفة "الحياة" وقد صدر لاحقاً في كتاب "لمحات من الأدب المجري" في العام 2002، وكذلك قصة كرتيس "المحضر" التي صدرت في مجلة "المدى" الفصلية ربيع العام الماضي. لكن ذلك كله لا يزال دون مستوى تقديم خلاصة تعبر عن هذا الأدب الهنغاري الجميل الغني والمتنوع. ولحسن الحظ اغتنت المكتبة العربية اليوم بعملين أدبيين هنغاريين جديدين، هما مسرحية إشتفان أُركين "لعبة القطة"، وقصة جيغموند موريتس "الأقارب"، وصدرت الترجمتان عن دار المدى بترجمة نافع معلا الذي نقلهما من الهنغارية. واختيار المترجم هذين النصين جاء موفقاً، فجيغموند هو أحد أهم كتاب جيل "الغرب" الذي اشتهر في النصف الأول من القرن العشرين وتجمع حول مجلة "الغرب" الأدبية الراقية، وهو أبرز كاتب هنغاري في القرن العشرين كله أما أُركين فهو واحد من أهم كتّاب المسرحية والقصة القصيرة الهنغاريين في النصف الثاني من القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم. ولد إشتفان أُركين في عائلة ميسورة في 1912 وكان أبوه صيدلياً وكان في منصب كبير المستشارين لدى الحكومة الهنغارية. توفي في 1979 وهو في قمة شهرته. كاتب ومترجم متعدد المواهب، أتقن اللاتينية والألمانية والفرنسية والانكليزية قراءة وكتابة، ثم أتقن الروسية أثناء وقوعه في الأسر لثلاث سنوات وصفها في أعماله التي صدرت لاحقاً في أواخر الأربعينات بصدق، لكنها لم تلق اهتماماً بسبب انفصام الشخصية التي مرت بها الأمة الهنغارية عقب سيطرة المحررين السوفيات والسلطات الهنغارية الموالية لهم، وقد صمتت عن حقيقة يعرفها الجميع وهي أن هنغاريا حاربت الإتحاد السوفيتي وخسرت 600 ألف هنغاري عند كارثة الدون. حاز أُركين شهادتين في الصيدلة والهندسة الكيماوية، وعمل مهندساً في مصنعٍ للأدوية بين 1957 و1963 بعد أن منعته سلطة كادار من النشر بسبب دوره في ثورة 1956، غير أنهم سمحوا له بمزاولة الترجمة الأدبية. وكان أُركين قبل ذلك اليوم بين ألمع الكتاب الشيوعيين الذين مجدتهم صحافة المستبد راكوشي ستالين الصغير الذي حكم هنغاري، وكتب مسرحيات وروايات بحسب الطلب، وغدا بهذا الأمر في طليعة الكتاب الذين عرفوا بالواقعية الإشتراكية. لكن كتاباته في تلك الفترة من بداية الخمسينات كانت بائسة ومملة، على خلاف أعماله السابقة عن معسكرات أسرى الحرب في سيبيريا، وأعماله لاحقاً بعد 1963. غير أن هذا التمجيد انقلب فجأة بعد كتابته رواية بريئة سياسياً، لكنها ذات مضمون إروتيكي، فانقلبت الصحافة المسيسة ضده، ووصفت عمله بهجوم الذوق البورجوازي المتفسخ على الإشتراكية. هذا الانقلاب جعله يتحمس للتهيئة والمشاركة في ثورة 1956 مع ادباء آخرين. غير أن أُركين الذي غُيب أدبياً بعد ثورة 1956، عاد بقوة إلى المسرح عقب تراخي قبضة الديكتاتورية وبدء ما جرت العادة على تسميته "الديكتاتورية الرخوة"، فحصل مجدداً على أرقى جائزة أدبية هي جائزة أتيلا يوجف في 1967 بعد أن حصل عليها مرة في 1955، وعلى جائزة كوشوت في 1973 وهي أرقى جائزة حكومية عامة. اشتهر أُركين بأعماله المسرحية مثل "العائلة توت"، وتميز بقطعه القصصية القصيرة جداً التي أصبحت أشبه بالجنس الأدبي الجديد وتسمى بالهنغارية "القصص التي طولها دقيقة واحدة" وهي اقاصيص استمد مواضيعها من حياة المدينة - بودابست، ويميزها الفولكلور المديني، ومجبولة بالنكتة البودابستية اللاذعة وهو ما يميز نكات وسط أوروبا عموماً ولا ننسى ذكر تشبعها بالتأثيرات الكافكوية الغرائبية. ولا تخلو مسرحية "لعبة القطة" من كل هذه التأثيرات والمفارقات اللغوية والسوسيولوجية. هذه المسرحية تصور أحوال غرام والشهوات والعواطف للشيوخ والعجائز بأسلوب ساخر ولكن متفهم ومتعاطف. أصبحت "لعبة القطة" من بين أهم الأعمال التي تقدمها المسارح الهنغارية البارزة، وهي تتحدث عن السيدة أوربان التي قاربت السبعين من العمر وعلاقاتها بمحيطها: بصديقتها باولا التي "اختطفت" منها عشيقها فكتور تشرمليني مغني الأوبرا الأكول والنهم، والمصاب بتوسع الرئة، وعلاقتها بأختها غيزا التي تقطن في ألمانيا الغربية حينذاك عند إبنها وزوجته وحفيدتها، وعلاقتها بجارتها فارة، وببنتها إلوش وصهرها يوجي، وعلاقتها بزوجها الذي لا يظهر. تخلو الترجمة من مقدمة أو تعليقات ترتبط بالعمل أو بمؤلفه وموقعه في الأدب الهنغاري المعاصر. وتخلو كذلك من هوامش لتفسير الكثير مما ورد في المتن مما يحتاج إلى شرح. وينقصها كذلك توضيح الأسماء الهنغارية وتنويعاتها التي لم يتعود عليها القارئ العربي، مثل أرجي اسم السيدة أوربان، وهو اسم شخصي جاء بصيغة الإختصار، وأصله أرجيبت، ويقابل أليزابيث وتنويعاته في أوروبا، وإليصابات في العهد القديم، وقد جاء في المتن بصيغة ثانية للدلال على هيئة أرجيكا. وقد فوجئت عند قراءة الترجمة بأن إسم غيزا أُعطي لإمرأة، في الوقت الذي هو اسم هنغاري للرجال. لكنّ عجبي زال بعد قراءة الأصل الهنغاري، الذي يتحدث عن غِزِي، وهو تلطيف وتحبب لأسم غِزَلاّ، جيزيل... ولا علاقة له بإسم غَيزا الفحولي وكان اسم أحد زعماء الهنغاريين أبان قدومهم إلى حوض الكاربات قبل 1100 سنة. وينسحب هذا على إسم المؤلف أيضاً، فقد ورد في الصيغة الهنغارية التي تقدم اسم العائلة على الأسم الشخصي، أركيني أشتفان، لكني أميل إلى كتابته إشتفان أُركَين بهمزة مرفوعة ومن دون ياء. نجح المترجم نجاحاً ملموساً في الحفاظ على روحية النص الأصلي، وعلى أسلوب أُركين الجميل البسيط لكن الذكي والواضح. والنص العربي جميل ولغته جيدة، على رغم بعض النواقص التي تتخلله بسبب ترجمة بعض العبارات الهنغارية في شكل حرفي في مواقع قليلة، مما يجعل هذه العبارات عصية على الفهم لمن لا يجيد الهنغارية. فالأصل الهنغاري كان يتوارى خلف السطور أحياناً كلما مررت بمثل هذه المواقع، فلم أضطر لمراجعة النص الهنغاري لأنني كنت أقرأه بالعربية. ومن الأمثلة على هذا ما ورد في الصفحة 105: "انفخي أنفك يا عزيزتي!"، وهكذا يقال في الهنغارية للتمخط، أو في الصفحة نفسها: "سيعود إليَّ زاحفاً على بطنه"، وهو تعبير هنغاري معروف عن الذي يزحف كالدودة أو السحلية منبطحاً متذللاً عندما يعود ليطلب الصفح أو التصالح من حبيب أو شخصٍ آخر. وجاء تعبير "لا تتشممي كالقطة، طريق الحساء الساخن" في الصفحة 107، وأصله مثل هنغاري. وجاء في الصفحة 43 تعبير "كنت كالأوزة الريفية"، وهو تعبير مجري شائع آخر، يقصد به المرأة الساذجة أو الغبية، ولا أخال القارئ العربي بقادرٍ على تفسير مثل هذه العبارة. وأكثر المترجم من نقل تعابير من قبيل: غاليتي ووحيدتي وهذه من مميزات اللغة الهنغارية، وكان من الممكن إيجاد تعابير عربية أفضل. ومن الممكن استخدام النص لتقديم عمل مسرحي جميل يتناول علاقة مجموعة من الناس جلّهم كبار السن بعضهم ببعض ويتناول خفايا النفس البشرية التي يعتمر فيها صراع الرغبات والحب والغرور والتعالي والتواضع والغضب والتآمر.