من المحتمل جداً، ألا يتضح الأمر أبداً، ويُعرف ما الذي جرى هناك بالضبط، في فجر 19 آب أغسطس 1936، في الشارع المحلي الرئيس الذي يربط القريتين الجليتين في الأندلس: "فينزار"، و"الفاكار"، على بعد ستة كيلومترات فقط من غرناطة. وإذا صدق المرء ما يقوله حفار القبور مانويل كاستيا، فإن الرجال الذين ألقوا في حفرة في صباح ذلك اليوم، أحدهم فوق الآخر، بعد إعدامهم رمياً بالرصاص، كان عددهم أربعة: معلم في القرية، مصارعا ثيران، أما الرابع، السيد الانيق بالبدلة وربطة العنق، فلم يكن غير فيديريكو غارسيا لوركا، أشهر شعراء إسبانيا عالمياً. فينزار، في الحقيقة هي قرية مسالمة أصلاً، كانت بالنسبة الى سكان غرناطة منذ زمن طويل منتجعاً صيفياً، قبل أن يحولها الفاشيون "الفالانغ" خلال الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي إلى إحدى أهم ساحات الإعدام في المنطقة. لا يُعرف عدد أنصار الجمهورية أو المحسوبين عليهم، الذين أُعدموا هناك، من جانب أنصار فرانكو بسبب قناعاتهم السياسية" لكنهم كانوا في كل الأحوال بضعة آلاف. ولكي يصل المرء إلى المكان، ساحة الإعدامات، عليه أن يسلك شمال غرناطة طريقاً خرباً ضيقاً، عند منحدر منطقة جبلية وعرة، سيقوده إلى هذه القرية، لكي يسير منها بعد ذلك، ويصل بعد نصف ساعة من السير على القدم، إلى شارع ملتوٍ قصير، حيث تمتد غابة صغيرة من أشجار البلوط، ترتفع على هوة مرتفعة عن الطريق. في هذا المكان تستريح رفات أكبر عدد من المعدومين في الحرب الأهلية تحت الأرض. لكن على رغم ذلك، ليس هناك ما يثبت أن لوركا موجود بالفعل في أحد تلك القبور الجماعية. وإذا تجول المرء على السفح، فإنه سيصل إلى أكبر عين للماء في "الفاكار"، إلى عين ماء كانت معروفة قديماً عند العرب، فهي التي كانت تؤمن حاجة غرناطة آنذاك من الماء. وعند عين الماء تلك بالضبط مكان جميل جداً في الحقيقة أطلق القتلة "الفالانج" النار من بنادقهم في الاشهر الأولى من الحرب الأهلية، على ضحاياهم، الذين كان أحدهم الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا. في الحقيقة، قبل سنوات قليلة فقط، بدأ الاهتمام بإرهاب الحرب الأهلية في إسبانيا. إذ بدأت غالبية العائلات، من ذوي الضحايا، تشرع بفتح القبور المجهولة بغية البحث عن ذويهم الذين يُفترض انهم دُفنوا هناك. وهو جيل الأحفاد بالذات الذي يشجع للمرة الأولى على الاقتراب من هذا الموضوع، لأن إسبانيا ومنذ زمن رئيس الوزراء الاشتراكي السابق، فيليبه غونزاليس، تفاهمت على ما أطلق عليه في حينه "حلف الصمت"، الذي اتفق عليه مباشرة بعد وفاة فرانكو، بين ممثلي الحكومة السابقين والنقابات والأحزاب اليسارية. ليس من الغريب إذاً ألا يتم الانتهاء حتى اليوم في إسبانيا من الماضي. كان لوركا أحد ضحايا هذا الحلف، الذي ألزم البلاد عدم التطلع باتجاه الماضي، إنما التطلع نحو الأمام، لبناء الديموقراطية الضعيفة. الآن فقط، وللمرة الأولى، يتسرب خبر مفاده: سيُحفر قبر أشهر ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية، لوركا، لكي يتم التعرف الى جثته الفعلية. لم يثر الخبر طبعاً الكثير من الانتباه وحسب، إنما تباينت أيضاً ردود الأفعال إزاءه. وبعدما كان الصمت يغلف قصة موت لوركا، يبدأ نقاش حاد وصاخب في وسائل الإعلام الإسبانية، لا يشارك فيه الأخصائيون فقط، إنما الرأي العام الإسباني أيضاً. والقصة بدأت ببساطة، عندما قرر أحد احفاد مصارع الثيران المقتول مع لوركا، والمدفون معه في القبر، والذي اسمه فرانسيسكو غالادي، فتح حفر القبر الجماعي للرجال الأربعة، لكي يتأكد من هوية عظام جده. تدعمه في هذا المشروع المنظمة الأندلسية "التجمع من أجل الذاكرة التاريخية Asociacion por la Memoria Historica"، التي تكافح من أجل نبش قبور كل المقتولين في الحرب الأهلية، والتأكد من هوياتهم لكي يُدفنوا بكرامة. وانضمت إلى عائلة غالادي عائلة مصارع الثيران الثاني المقتول، يواكيم أركويا. فرانسيسكو غالادي، الحفيد، كما صرح للصحافة، لا يبحث عن طلب الثأر، إنما يريد دفن رفات جده بكرامة: "طالما ظل الناس مدفونين في العراء مثل الكلاب، في مكان ما عند الحقل، فإن الحرب الأهلية لن تكون منتهية". غالادي سأل الكثير من سكان المنطقة، عما حدث تماماً في ليلة القتل، لكنه سمع فقط الإشاعات: "قيل إن لوركا ظل يعتقد حتى النهاية، بأنهم لن يقتلوه. وعندما زار قس السجناء، لكي يستمع إلى اعترافاتهم الأخيرة، رفض لوركا أخذه بمحمل الجد، وخاطبه بجدية قائلاً: فيديريكو، إنهم يقتلوننا". وأن يكون هناك حتى اليوم تعتيم على موت لوركا، فإن ذلك جزء من تاريخ إسبانيا. لم يعترف الجنرال فرانكو أبداً، أن لوركا قُتل على أيدي زبانيته. فقد اكتشف الديكتاتور مبكراً، بأن قتل أشهر شاعر اسباني في القرن العشرين عالمياً، كان غلطاً فادحاً. وكانت نتيجة تلك الجريمة، احتجاجات على مستوى العالم كله. هكذا حذف الرقيب الإسباني ولسنوات طويلة، كل تلميح له علاقة بقضية موته. وأصرت الحكومة في شكل عنيد على روايتها الرسمية للحدث، بأن لوركا مات في قتال حرب الشوارع. وعندما نشر المختص المعروف بسيرة لوركا وأدبه، الإنكليزي يان غيبسون، دراسته المهمة جداً في العام 1971، عن موت لوركا، والتي وسعها بسنتين بعد ذلك تحت عنوان: "موت لوركا"، وقع ما كتبه مثل الصاعقة في إسبانيا، لأن غيبسون وثق للمرة الأولى، الخلفية الحقيقية والصحيحة لجريمة القتل "السياسية" بحق الشاعر الجمهوري. ويقول غيبسون في هذا الصدد: "كتابي أثبت ما ظل دائماً طيّ الكتمان في شكل قسري، بأن لوركا قُتل بصورة رسمية، وأن مقتله كان جزءاً من مخطط عام. فعندما يقتل المرء شاعراً مشهوراً، يقتل من طريق ذلك كل إنسان!". لم تشأ حكومة فرانكو الاعتراف بجريمة قتل لوركا، لأن عليها في هذه الحال، أن توضح مقتل الآلاف، إن لم تثبت من طريق ذلك موقفاً صريحاً إزاء مسؤوليتها عن مقتل الآلاف من الذين أُطلق عليهم الرصاص. ولكن ليس في زمن فرانكو فقط، تم التعتيم على موت لوركا، إنما في زمن الديموقراطية أيضاً، ظل الحديث عن حقيقة موت لوركا أحد التابوات. ووصل الأمر أن يُدوّن وفي شكل مختصر قبل خمس سنوات في كُتيب خاص وُزع في معاهد إسبانيا الثقافية بمناسبة الاحتفال الرسمي في ذكرى مئوية لوركا: "في 18 آب 1936 سيقتل لوركا في فينزار". هكذا من دون أية إشارة الى ملابسات الوضع، لخلفية الحدث، للأسباب التي قادت الى قتله، أو الى تحديد الجهة المسؤولة عن مقتله، وكأنه مات نتيجة تعرضة للصعقة الكهربائية! من الضروري الإشارة هنا، الى أن ورثة لوركا يلعبون دوراً غامضاً في إثارة الغموض حول مقتله أيضاً. فهم حتى اليوم يرفضون في شكل حازم إخراج جثة الشاعر. وذهبت كل محاولة بالحصول على لقاء مع مانويل مونتيسينوس، مدير مؤسسة لوركا، هباء. فهو يرفض إجراء أية مقابلات مع الصحافة لها علاقة بالموضوع، ويرسل بدل ذلك "إيميلات" العائلة، التي يقرأ المرء فيها، أن عائلة لوركا تصر على أن "فحص الجثة لن يساعد على كشف الحقيقة التاريخية، وبأن الخلفية التاريخية لموت لوركا معروفة للملأ". تتداول الصحافة في إسبانيا الكثير من التكهنات، بما يتعلق بموقف عائلة لوركا، بسبب رفضها فحص الجثة والتأكد منها. وتقول الإشاعات، أن الورثة يتصرفون لأسباب شخصية، لها علاقة بالسياسة، فهم لا يريدون أن يفقدوا لا مصادر التمويل المالية ولا أعضاء المؤسسة الخيرية الراعية للحفاظ على إرث لوركا، والذين تشكل بينهم الحكومة الإسبانية المحافظة طرفاً مهماً أيضاً. وكما يبدو، لا يملك الورثة أية مصلحة لأن يبدأ نقاش وطني عام جديد حول موت لوركا. ففي النهاية تنتهي حقوق الورثة بحقوق النشر المتعلقة بأعمال لوركا عام 2006. من طرف آخر، هناك إشاعة قوية في إسبانيا تقول إن جثمان لوركا ربما لا يستريح إلى جانب رفاقه الثلاثة الآخرين في القبر الجماعي عند النبع الكبير. ففي خمسينات القرن الماضي، قدم الجنرال فرانكو عرضاً للعائلة، بفحص رفات الشاعر. عائلة لوركا تدعي أنها رفضت الموافقة. لكن الإشاعات تقول العكس. فربما هم الفاشيون "الفالانج"، قتلة لوركا الذين نقلوا جثمانه في وقت قليل بعد وفاته إلى مكان آخر. فرانسيسكو غونزاليس أرويوو، من منظمة: "التجمع من أجل الذاكرة التاريخية"، يأمل، بأن يغير ورثة لوركا رأيهم. فبالنسبة إليه يفتح فحص رفات لوركا الباب لفحص رفات آخرين: "يجب أن يكون ذلك البداية، لفحص رفات قتلى آخرين في قبور فينزار الجماعية. لكي يكون في المستطاع التأكد من عدد الناس الذين وقعوا ضحية الاستبداد الفاشي في غرناطة". وإذا صدقت كل الإشاعات التي تدور في إسبانيا وتتناقلها الصحافة في هذه الأيام، وبخاصة تلك التي يقولها حفارو قبره، فإن لوركا ورفاقة دُفنوا تحت شجرة زيتون قديمة، في البارك الذي يحمل اليوم اسم "فيديريكو غارسيا لوركا"، بالقرب من عين الماء الكبيرة. وعند هذا المكان بالضبط يريد "التجمع من أجل الذاكرة التاريخية"، الشروع بحفر القبور الجماعية. مبدئياً ليس هناك ما يعارض ذلك، ليس هناك ما يقف ضد رغبة الأقرباء بفحص القبور. لكن الجميع يعرف، أن النتيجة ستكون فضيحة وطنية، وسيُطرح الموضوع على الطاولة من جديد، وتُعرف الحقيقة التي تقول إن هناك آلاف الجمهوريين الذين قُتلوا في الحرب الأهلية. من الصعب التأكيد، ما إذا كانت البلاد ناضجة الآن لكي تندمل الجروح. الناس في القرية لا تريد الحديث عن الحرب. صحيح أن الجروح لم تندمل عبر النسيان، إلا انها تورمت. الحرب قسمت العائلات والجيران، شقتهم، فالقسم الأكبر منهم لا يزال يعيش في القرية، الفاكار. وهنا، يعرف الجميع، أن قس القرية كان يسجل كل اليساريين في القرية على القائمة ويسلمهم إلى رئيس البلدية الفالانجي. جميعهم قُتلوا. الكثير من سكان القرية وشوا بجيرانهم عند الفاشيين، لكي يحصلوا على الأراضي والبيوت. الحرب احتضنت الرعب، الذي سيظهر الى العلن مع فتح القبور وفحص الجثث. ومن رأى شيئاً لا يريد البوح به، أو حمل سره معه الى القبر. في النهاية، ربما سينجح المرء بفحص بقايا لوركا وفرانسيسكو غالادي. لكن ذلك لا يمنع أيضاً، بأن من المحتمل جداً، ألا يتضح أبداً مثلما حصل لمعظم بقية ال40000 ألف قتيل وضحية هرستهم الحرب الأهلية في إسبانيا، ويُعرف ما الذي حصل بالفعل في فجر 19 آب 1936.