حملت صحف لندن في نهاية الاسبوع الماضي اخباراً لا تخلو من التشفي عن كونراد بلاك وزوجته برباره امييل بعد سقوطهما عن عرش امبراطورية مجموعة "التلغراف" في قصة اصبحت معروفة. وكنت كتبت مرة بعد مرة منتقداً تحويل "الديلي تلغراف"، وهي من جرائدي المفضلة منذ ايامي في بيروت، الى نشرة دعاية اسرائيلية بفضل الزوجة الصهيونية الليكودية للناشر الكندي الذي تخلى عن جنسيته ليصبح لورداً مدى الحياة في بريطانيا، وهو لم ينعم باللقب والوجاهة المرافقة طويلاً، لأن المشاكل المالية لادارة المجموعة، وسوء تصرفه بأموالها اوصلته الى المحاكم. اخبار الصحف المنافسة تحدثت عن صعود بلاك وسقوطه، ويبدو انه بنى بيتاً على الرمل، كما تقول التوراة، فسقط وكان سقوطه عظيماً. وتحدثت جريدة عن عرض بيت بلاك في لندن للبيع، فيما كان منافسه ريتشارد ديزموند، ناشر "الديلي اكسبرس" الذي قد يشتري "التلغراف"، يشتري بيتاً فخماً في شمال لندن لأسرته. ويبدو ان بلاك عرض بيته في بالم بيتش للبيع ايضاً، فمشاكله المالية هائلة، وقد راحت الطائرة الخاصة، ومخصصات مجلس الادارة، ولم يبق سوى حملة اسهم غاضبين يحاولون استرداد ما يعتبرون انه اخذ منهم خلافاً للقانون. قرأت ان بلاك وزوجته اعتكفا في تورنتو، بلدة الزوج الاصلية، وانهما لا يقبلان دعوات الاصدقاء، في حين ان الدعوات الرسمية الكبرى نضبت او جفت تماماً. كل هذا لا يعني لي شيئاً، فقد انتقدت لأسباب مهنية وسياسية، ولا يهمني ان كانت برباره امييل ثرية او إن عادت فقيرة كما بدأت، بل ارجو ان تبقى معززة مكرمة، وان تغيّر قليلاً من تطرفها الذي يعميها عن جرائم حكومة شارون. اتمنى للناشر وزوجته الخير الشخصي، ثم اعطي مثلاً او اثنين عن اسباب معارضتي الدائمة لمجموعة "التلغراف" في عهدها الصهيوني. يوم الاحد 29 شباط فبراير نشرت "الصنداي تايمز" و"الاوبزرفر" و"الاندبندنت اون صنداي" في صدر صفحاتها الاولى اخباراً عن حملة النائبة العمالية والوزيرة السابقة كلير شورت على رئيس الوزراء توني بلير، وتحفظات المدعي العام وقادة القوات المسلحة عن شرعية الحرب على العراق. ماذا نشرت الصحيفة الكبرى الرابعة في صدر صفحتها الاولى في ذلك اليوم؟ هي نشرت خبراً يحتاج عنوانه الى شرح. فاليهود ثاروا لأن رئيس حزب العمال ايان ماكارتني شبه اوليفر ليتوين، وزير الخزانة في حكومة الظل للمحافظين، بأنه فاغن، وهذا شرير يهودي في رواية "اوليفر تويست" المشهورة لتشارلز ديكنز. ولم اكن اعرف دين ليتوين، وما كان يهمني منه سوى سياسته، ثم قرأت انه متحدر من اسرة لاجئين يهود من اوكرانيا. هل هذا خبر يستحق صدر الصفحة الاولى في "الصنداي تلغراف" وهناك قطعاً خبران اهم منه جداً؟ لو نشر الخبر في "جيروزاليم بوست"، وهي من ضمن المجموعة، لما اثار استغراباً وجريدة اسرائيلية تحذر من خطر اللاسامية في الوصف المستعمل. ولكن، هناك كل يوم خبر او اخبار عن اللاسامية الجديدة في اوروبا وخبر يزيد او ينقص لا يغيّر شيئاً. اسوأ مما سبق من وجهة نظري، او من وجهة نظر عربية، هو حماقة مهنية وسياسية ارتكبتها "الديلي تلغراف" في عدد 23 شباط الماضي، فهي قسمت صدر الاولى بين صورتين ملونتين، وفوق الاولى عنوان يقول "الثامنة وخمس دقائق صباحاً: الاسرائيليون يبدأون تفكيك خمسة اميال من الجدار الامني كمبادرة للرأي العام العالمي"، وفوق الثانية عنوان يقول "الثامنة و36 دقيقة: مبادرة الارهابيين عملية انتحارية قاتلة على باص في وسط القدس". ارجو ان يصدق القارئ انني اتحدث عما أعرف، فقد ترأست تحرير اربع صحف، اثنتين بالانكليزية، واثنتين بالعربية، وتدرّبت في فليت ستريت، على بعد امتار من مبنى التلغراف القديم. وأقول من منطلق هذه المعرفة ان تلك الصفحة الاولى اهانة للقارئ ربما تفسر لماذا توزيع "الديلي تلغراف" في هبوط مستمر، وقد نزل عن مليون نسخة في اليوم، وسيستمر في النزول لأن الجريدة لا تكسب قراء جدداً وقراؤها التقليديون يموتون. اولاً، الصورتان تؤكدان فشل الجدار في منع العمليات الانتحارية. ثانياً، الخبر كله جاء على خلفية نظر محكمة العدل الدولية في لاهاي في شرعية بناء الجدار العنصري، فهو يجسد العنصرية كما عرفتها جنوب افريقيا، او الفشل كما ابرزه جدار برلين. ثالثاً، حكومة العنصريين البيض في اسرائيل تهدم خمسة اميال في مكان، وتبني اضعافها في مكان آخر، والصورة نفسها لا تظهر هدماً في جدار من الاسمنت علوه عشرة امتار، وانما ازالة شبك معدني، من نوع يوضع في الحدائق. رابعاً، عملية القدس قتلت ثمانية اسرائيليين، ولكن حكومة شارون قتلت عشرات الفلسطينيين في الايام التي سبقت العملية وبعدها، ولم تفرد الجريدة الصهيونية صفحتها الاولى لأي من اخبار قتل الفلسطينيين. وتحديداً، يوم الاثنين الماضي نشرت "الديلي تلغراف" في صفحتها الثانية عشرة خبر قتل 14 فلسطينياً، بينهم ثلاثة اطفال، برصاص عصابات شارون في قطاع غزة، وهي التي نشرت قتل ثمانية اسرائيليين في صدر صفحتها الاولى مع صورة ملونة قبل ذلك بأسبوعين، فالعنصرية تقضي ان يكون دم الاسرائيلي اهم وأغلى. هذه ليست صحافة، بل مرض او غرض، لعل مجموعة "التلغراف" تشفى منه مع سقوط كونراد بلاك وبرباره امييل. ومرة اخيرة، اتمنى لهما الخير الشخصي، ثم اتمنى ان تنهض المجموعة من عثارها في عهد جديد.