ازدحمت الساحة السياسية في الولاياتالمتحدة، وساحات أخرى خارجها بأفكار وممارسات أشاعت اقتناعاً بأن تحولات مهمة، إن لم تكن جذرية، جارية على صعيد الفكر السياسي المعاصر. لا يقتصر الأمر على آثار التحول من الوضع الأميركي المهيمن إلى وضع إمبراطوري أو العكس، ولا يتعلق فقط بالانتفاضة الأميركية، التلقائية أو المخطط لها، لصد التداعيات السلبية لمسيرة العولمة في سنواتها الأخيرة، وإنما يتعلق بقضايا شتى كثير منها متساوي الأهمية وبعضها له أولوية ومنه المشاكل الناجمة عن الفراغ الذي خلفه انحسار الاشتراكية فانزواؤها كأيديولوجية احتجاجية عالمية الأبعاد والانتشار. بدأت هواجس، لديهم ولدينا. استطاع بعض الأميركيين التعبير عنها بسرعة أو بتردد لم يدم طويلاً . أما عندنا في العالم العربي والإسلامي، فقد أخذ التعبير شكل القلق ولم يتبلور فكراً جديداً أو ممارسة، جاءتنا من أميركا أفكار وممارسات تطرق بشدة أبواب العقل أو تخترق أسوار قصور السياسة والثقافة في أشكال متعددة منها الاحتلال العسكري والتبشير الأيديولوجي وحملات الإصلاح ومنها أيضاً صدامات حضارية ودينية وثقافية. دعا بعض المفكرين العرب، في وقت أكثر ملاءمة وأمناً وفي وقت كانت أعصاب الطرفين أقل توتراً، إلى فتح باب النقاش لتدخل منه وتنضج الأفكار كافة. دعوا إلى تشجيع الاطلاع على كل ما تطرحه أميركا على صعيد الفكر وفتح الأبواب كافة للنقاش للاستفادة من الجديد وتصحيح ما يشوبه من مبالغات أو تجاوزات ثقافية أو حضارية أو دينية. وللأسف كان كثير من ردودنا في هذه المنطقة انفعالياً أو حساساً أو متعصباً. وكان للبعض عذر، فالأفكار الجديدة كان الكثير منها خطيراً كونه انبثق عن وضع استثنائي بكل المعايير، وهو حال الانكشاف الأميركي على فراغ أيديولوجي هائل، وعلى حزم من مضادات القيم، وعلى صحوة دينية في المجتمع. كان مفيداً لو أن المفكرين العرب، والشرقيين عموماً، بل والأوروبيين أيضاً استبدلوا الصدمة التي أصابتهم بها الأفكار الأميركية الجديدة بدرجة أكبر من الوعي واليقظة. لم ندرك في الوقت المناسب مدى خطورة بعض هذه الأفكار، أو أدركنا ولم نهتم بالقدر المناسب حتى خرج من بين أهل الغرب، وخصوصاً من الأميركيين، من يكشف عن فداحة الخطر ويحذر من عواقب تجاهل التأثيرات المحتملة على البشرية وعلى السلام العالمي نتيجة الاستسلام لهذه الأفكار والسكوت عن هذه الممارسات. صدر عدد حديث لمجلة"السياسة الخارجية"الأميركية التي تنشرها مؤسسة"كارنيغي"، وعلى غلافها عنوان"الأفكار الأشد خطورة في العالم"، اختارت المجلة بعضاً من ألمع المفكرين في الغرب، وبخاصة في أميركا، وطلبت من كل منهم الكتابة عن فكرة يراها واحدة من أخطر الأفكار في عالم اليوم . اختارت المجلة روبرت رايت، الأستاذ الزائر في جامعة برينستون ومؤلف كتاب"اللاصفر: منطق المصير الإنساني"، فاختار فكرة"الحرب على الشر"التي تحولت إلى حرب عالمية تقودها أميركا. يقول رايت إن خطورة هذه الفكرة تكمن في أنها تعتمد على أسطورة من عصور الظلام تعتبر أن وراء كل الأعمال السيئة قوة كونية مظلمة ومنفردة. وهي الفكرة"الشيطانية"التي رفضتها جميع الأديان وحاربها الفليسوف سانت أوغستين منذ مئات السنين ومات معتقداً أنه دفنها إلى الأبد، إلى أن أعاد اكتشافها أو إحياءها الرئيس بوش. ويقول روبرت رايت إن أخطر ما فعله بوش أنه أرجع كل"الشر"إلى مصدر واحد. وبعدها أصبح من السهولة بمكان وضع استراتيجيات وسياسات لمواجهة"الشر موحداً"، وتصفية كل اتباعه في كل مكان على وجه الأرض، ومن هنا تحولت فكرة خطيرة إلى سياسة جهنمية تعتمد ثلاثة شعارات طرحت للتداول المتكرر وهي شعار"إضربهم كلهم، وحاربهم كلهم، كلهم سيئون للغاية"، وشعار"لا يمحو الشر إلا سياسة الأرض المحروقة"، وشعار"الإسلام مكون رئيسي لمعظم الشر في هذا العالم". واختارت المجلة بول دافيس، أستاذ الفلسفة في جامعة ماكوراي الأسترالية، فكتب يقول إن تياراً واسعاً من العلماء والفلاسفة صار يرفض مفهوم حرية الإرادة. هؤلاء يعتقدون أن الإنسان ليس حراً في الإرادة أو الاختيار، وأن التقدم المذهل والمطّرد في الهندسة الوراثية والعلوم المتصلة بها يؤكد أن هذه الحرية إلى زوال، خصوصاً مع تزايد الاقتناع بين العلماء بأن الجينات تشكل العقول تماماً كما تشكل الأجسام، وأن جينات الدماغ"الميمات"، تنتقل كالفيروسات من عقول أخرى حسب قول العالمة البريطانية سوزان بلاكمور. يقول دافيس إن رفض فكرة حرية الإرادة أكثر الأفكار الجديدة خطورة لأنه يمكن استخدامها لتبرير جرائم وعمليات إبادة وقتل جماعي، ولأنها تخدم فكرة أخرى لا تقل خطورة وهي فكرة الشر المتأصل في مصدر كوني واحد، فضلاً عن أن الاقتناع بها، أي الاقتناع بعدم وجود إرادة حرة، سيؤدي إلى التسليم بأن الناس جاهزون لمن يشكل آراءهم ويفرض عليهم سلوكيات معينة. وحين نفقد نعمة الاقتناع بحرية الإرادة سنفقد معها الشعور بالذنب والمسؤولية وتأنيب الضمير والثواب، ولن يحاسب المجتمع مواطنين فقدوا حرية الاختيار أو الإرادة، وستتحكم فيهم السلطة السياسية وتحركهم وتسيطر على عقولهم وسلوكياتهم. أما المؤرخ البريطاني إيريك هوبسبوم، أستاذ التاريخ الاجتماعي والاقتصادي في جامعة لندن فقد اختار"التبشير بالديموقراطية والسعي لنشرها في أنحاء العالم كافة"باعتبارها في رأيه الفكرة الأشد خطورة . يقول هوبسبوم إن هناك افتراضاً خاطئاً تقوم عليه عملية التبشير بالديموقراطية والسعي لنشرها خارج الولاياتالمتحدة. فالديموقراطية ليست كما يزعم المبشرون بها نظام يمكن أن ينجح في أي مجتمع، وأنه قادر على علاج المشكلات كافة، وبخاصة المشاكل عابرة الحدود، وأنه الأسلوب المناسب لتحقيق السلام. فضلاً عن ذلك فإن الاقتراع العام لا يضمن دائماً سياسات أفضل أو تنفيذ السياسات التي تعهد بها المرشحون للمناصب السياسية . لقد كان الظن بين فلاسفة ودعاة العولمة أن الديموقراطية في مبناها ومعناها لا تختلف عن بقية المؤسسات والممارسات والأفكار النمطية التي أفرزتها مسيرة العولمة، الديموقراطية في نظرهم كالمطارات ومحطات البنزين، مؤسسة نمطية يمكن أن تتكرر بالصورة والمواصفات نفسها في كافة المجتمعات. الخطورة في فكرة التبشير بالديموقراطية ونشرها اقتناعاً بأنها نمط موحد تكمن في أن أميركا تريد إعادة تشكيل العالم على صورتها، فإن كانت ديموقراطيتها ناجحة فلتكن هي النموذج. وينسى المبشرون أن هناك تناقضاً بين مصالح الدولة النموذج، وهي في هذه الحالة الولاياتالمتحدة، وبين الدفاع عن الحقوق الإنسانية العالمية. فالدفاع عن هذه الحقوق تتحكم فيه وتعطله أحياناً كثيرة مصالح داخلية. لقد اثبت القرن العشرون فشل جميع المحاولات التي جرت لإعادة تشكيل العالم على صورة واحدة، فهتلر حاول وحاولت الشيوعية وحاولت الولاياتالمتحدة. ويقول هوبسبوم إن المبشرين بعالمية الديموقراطية يزرعون الوهم بأنها النظام الوحيد الذي لا يدخل في حرب، بينما لدينا نموذج الحرب في العراق بقرار اتخذته دولتان ديمقراطيتان . ولا يخفي رأيه في أن تطبيق الديموقراطية في بلاد بعينها قد يثير الفوضى والنزاعات الإثنية والطائفية، وأن الديموقراطية بالانتخاب ليست هي الضمان الفعال لحرية التعبير وحقوق الإنسان، فالقرارات يتخذها في النهاية عدد ضئيل من الأفراد . أما فرانسيس فوكوياما أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة جونز هوبكنز وصاحب أطروحة"نهاية التاريخ"فكتب تحت عنوان"عبور البشرية"عن حركة يهدف الناشطون فيها إلى تحقيق ما هو أكثر أهمية في نظرهم من حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية، يهدفون إلى تحرير الجنس البشري من قيوده البيولوجية . يدعو هؤلاء إلى أن بني البشر يجب أن يستخلصوا مصيرهم من"التطورية"العمياء التي تصنع بهم ما تشاء وليس ما يشاؤون هم. هذا النفر من الناشطين في حركة تحرير الإنسانية ليسوا حالمين أو من مؤلفي روايات الخيال العلمي، هم في مواقع متعددة على الشبكة الإلكترونية يعملون ويخططون لاختراع جديد يفلح في تجميد أجسامهم لفترة طويلة يعودون في نهايتها للعيش في عصر آخر. الهدف في النهاية هو استخدام إمكانات الثورة في التكنولوجيا الحيوية لجعل البشر أقوى وأذكى وأقل عدوانية وأطول عمراً. إن كثيراً مما تنتجه هذه الأيام مصانع الأدوية وبحوث الطب الحيوي من عقاقير لتقوية العضلات وتغيير الأمزجة ومحو جوانب في الذاكرة وعمليات فحص الجينات قبل الإنجاب والعلاج بها، الهدف منه تحسين النوع، أي تحسين البشر. يحدث هذا بعيداً عن الكلفة الأخلاقية. ويتحدث فوكوياما عن أكثر الأخطار فداحة نتيجة هذه الفكرة، فكرة العبور بالإنسانية إلى إنسانية أخرى، وهو خطر فقدان المساواة نهائياً. ويختار الكاتب المعروف فريد زكريا، الأميركي من أصول جنوب آسيوية، كراهية أميركا كأخطر فكرة تواجه أميركا والعالم إلى درجة أنه يعتقد أنها صارت تحتل مكاناً بين الأيديولوجيات، بل لعلها الأيديولوجية الوحيدة في عصر ما بعد الأيديولوجية. ويجزم زكريا أن سياسات الرئيس بوش مسؤولة عن هذه الكراهية، وبوش نفسه مسؤول لأنه لم يحاول التخفيف منها، فقد رفض أن يتعامل بتواضع مع بقية الدول، ولم يحسن استخدام المؤسسات الدولية والقانون الدولي، ولم يكن يتمتع بحساسية كافية تجاه الفقر والضعفاء في العالم . ومع ذلك يرى زكريا أن هناك أسباباً أخرى دفعت إلى نشأة هذه الكراهية وفي صدارتها تراكم هذه القوة الأميركية الهائلة. هذا التراكم غير المسبوق كان وحده كافياً لدفع الدول الأخرى إلى التجمع ضد هذه القوة الأعظم لهزيمتها، والسوابق التاريخية شاهده من هابسبرغ إلى هتلر مروراً بنابليون وقيصر ألمانيا. الكراهية لأميركا جعلت العالم أقل أمناً ورخاء، واستمرار غطرسة واشنطن مع عجزها عن مسايرة العالم لن يحقق غير الفوضى. واختارت المجلة مفكرين آخرين فطرحوا أفكاراً مثل الميل العام نحو إهمال الأممالمتحدة واتساع ظاهرة عدم التسامح الديني والنقود الحرة، وكلها في رأيهم أفكار خطيرة. إن الساحة الفكرية التي تعج بأطروحات وأفكار لا تقل خطورة لم تحظ منا في هذه المنطقة بالاهتمام المناسب. فقد ركزنا خلال العامين الأخيرين على الإصلاح ومبادراته وانشغلنا بالتفكير في صيغ التنديد به أو التشكيك في جوانب منه وبالسعي للالتفاف حوله وابتكار أساليب لتنفيذه تكون في المضمون خاصة بنا، ولم نهتم بما هو أهم لأنه أبعد أثراً. لم نهتم برحلات العبور الأعظم الجارية فعلاً على مستوى العالم بأسره، عبور الأفكار والعلوم، وعبور الولاياتالمتحدة إلى وضع دولي وداخلي جديد، وعبور دول وثقافات في العالم من حال إلى حال مختلف كلية، والأمثلة بارزة في أوروبا والصين والهند، ومحاولة إسرائيل العبور إلى الوضع النهائي، وعبور الأديان جميعاً إلى عالم إنساني غير مسبوق، وعبور الإنسانية إلى إنسانية أخرى حسب تعبير فوكوياما. انطلقت كافة رحلات العبور بالأفكار أو الممارسات أو بهما معاً ومازلنا نتأمل فكرة الإصلاح. * كاتب مصري.