لم يعد سراً ان فوز جورج بوش كان نبأ سيئاً لمعظم أنحاء العالم، لأنه عنى ببساطة ان السياسات العنيفة الهوجاء ستتواصل، وقد باتت تتمتع الآن برصيد شعبي أميركي لا ريب فيه. كنا نعاني من الروح الانتقامية المتغطرسة، ولا شيء سيمنع هذه الغطرسة من ان تكون خلال السنوات الأربع المقبلة عمياء وجامحة. مشاريع الحروب معروفة ومرسومة. عصابة المحافظين الجدد استردت الروح بعد انتكاسات، وستتمكن من اكمال السيطرة على مختلف المؤسسات لتتمدد الى الخارجية ووكالة الاستخبارات ولتصبح سطوتها ناجزة وصريحة في مجلس الأمن القومي. فبعد كل شيء، يحق لهذه العصابة أن تعتبر نفسها صانعة انتصار بوش، لأن الاميركيين انتخبوه ليكمل النهج الذي سار عليه منذ هجمات 11 سبتمبر. لكن الاستمرار بالسياسات نفسها قد يكون عنواناً سطحياً ومبسطاً بل متسرع لمغزى انتصار بوش. فالحملة الانتخابية حفلت بالاشارات والانتقادات والاقتراحات التي تدعو الى المراجعة والتقويم. ثم ان اميركا خرجت من الانتخابات منقسمة الى نصفين شبه متساويين، احدهما، الخاسر، كان يدعو الى"التغيير"، ليس فقط تغيير الرجل وانما تغيير النهج أيضاً. هذه رسالة بالغة الوضوح لا يمكن للآخر، الفائز، ان يتجاهلها. هناك طبعاً اعتبارات داخلية جداً، تتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ولا بد انها ساهمت كثيراً في ترجيح كفة بوش، خصوصاً ان منافسه لم يكن مقنعاً ولم يستطع ان يحقق اختراقاً في شعبية الرئيس. أما السياسات الخارجية فلا شك انها كانت، حتى داخل المؤيدين لبوش، موضع جدل وتساؤل من دون ان تشجع هؤلاء على حجب تأييدهم للمرشح الجمهوري. لكنهم بالتأكيد يتوقعون تصويباً لهذه السياسات، فلا تعود مكلفة الى هذا الحد بشرياً ومالياً ومعنوياً، ولا تعود مكتنفة الى هذا الحد بالأكاذيب والتلفيقات والغموض، ولا تعود خاضعة فقط لمصالح"امراء الظلام"داخل الادارة والشركات التي يرتبطون بها. كانت الحرب على العراق، بالنسبة الى بوش، رهاناً شخصياً مرتبطاً مباشرة بهزيمة بوش الأب في انتخابات 1992 وبعزم الابن على البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية. هذه الأجندة العراقية البوشية الخاصة التقت وتماهت مع رؤية للعالم وضعها المحافظون الجدد غداة هجمات 11 سبتمبر وانطوت على مشروع هيمنة امبراطورية للولايات المتحدة. يفترض الآن ان الحسابات البوشية الخاصة تغيرت إلا إذا كان جورج دبليو يريد أن يخصص ولايته الثانية لفتح الطريق لانتخابه اخيه جيب، على ما يقال في الأروقة الجمهورية، فإذا تغيرت فعلاً فلا بد أن يعني ذلك شيئاً من الترشيد للسياسات المتبعة. كيف؟ في الولاية الثانية لا بد أن يوضح بوش إذا كان يعمل فعلاً على ابقاء العالم الإسلامي والعربي عدواً أم أنه على العكس يخوض حرباً جدية وهادفة ضد الإرهاب. إذا توفرت هذه الجدية، بما تعنيه من سياسات بعيدة النظر، فإن العالم كله سيكون إلى جانب الولاياتالمتحدة. أما إذا استمرت الغطرسة المتوحشة والممارسات المتغطرسة فإن الإرهاب سيكسب زبائن جدداً بغضّ النظر عن التهديدات والتوعدات الأميركية. الجدية، وليس الغطرسة الحمقاء، ولا الاسترشاد بالغرائز الشارونية، تفترض أيضاً نظرة جديدة إلى الشرق الأوسط، ومراجعة عميقة للسياسات التي عومل بها. فبعد الترخيص للإسرائيليين بقتل الفلسطينيين بمن فيهم رئيسهم، لا بد أن تثبت واشنطن أن لديها خطة لإنصاف هذا الشعب بدل الركون إلى خطط مجرمي الحرب الإسرائيليين. أما الحديث المتواصل عن إعادة إعمار العراق وبناء دولة حديثة فيه فلم يعد يكفي، والأقوال يجب أن تؤكدها الأفعال. ثم أن التجربة العراقية، في حد ذاتها، لا تكفي أيضاً بكل ما ارتكب فيها من أخطاء وخطايا وحماقات لأن تكرر في إيران أو في أي مكان آخر. هناك حاجة ملحة إلى المراجعة ما دامت الحسابات الانتخابية تراجعت الآن.