"كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة" تستعد لمرحلة «جامعة الدفاع الوطني»    وزير الحرس الوطني يرأس الاجتماع الثاني لمجلس أمراء الأفواج للعام 1445ه    توقيع عدة اتفاقيات بين الهيئة العامة للطرق وجهات حكومية    فهد بن محمد يكرم متدربي "تقنية الخرج" الحاصلين على الميدالية البرونزية    انطلاق فعاليات معرض "أكنان" التشكيلي بمكتبة الملك عبد العزيز .. غداً    القيادة تهنئ رئيس أذربيجان بذكرى استقلال بلاده    مخفية في شحنة قوالب خرسانية .. ضبط أكثر من 4.7 مليون قرص من الإمفيتامين المخدر    "نايف الراجحي الاستثمارية" و"مسكان" تطلقان شركة "ارال" لتطوير مشاريع عقارية عملاقة مستدامة تحقق بيئة معيشية متكاملة    إسبانيا والنرويج وإيرلندا تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية    ميتروفيتش يتفوق على جوميز في الهلال    الشورى يطالب العدل بالتوسع بابتعاث منسوبيها والتوعية بالخدمات المقدمة لذوي الإعاقة    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    محافظ طبرجل يفتتح مقر اللجنة الثقافية والفنون بالمحافظة    الركض بدون راحة يضعف الجهاز المناعي    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من وسط وشرق المملكة    تطبيق تقنية (var) بجميع بطولات الاتحاد الآسيوي للأندية 2024-2025    السجن والغرامة لمن يتأخر عن الإبلاغ بمغادرة مستقدميه    رونالدو: لم أنتظر الرقم القياسي.. وأتمنى "نهائيًا عادلًا"    بمشاركة 4 فرق .. "الثلاثاء" قرعة كأس السوبر السعودي    تمنع "نسك" دخول غير المصرح لهم    «الصقور الخضر» يعودون للتحليق في «آسيا»    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    تقدير الجميع لكم يعكس حجم التأثير الذي أحدثتموه في المجتمع    قدوم 532,958 حاجاً عبر المنافذ الدولية    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    صالات خاصة لاستقبال الحجاج عبر «طريق مكة»    «الاستثمارات العامة» يطلق مجموعة نيو للفضاء «NSG»    حلول مبتكرة لمرضى الهوس والاكتئاب    القاضي الرحيم يتعافى من سرطان البنكرياس    نائب وزير الخارجية يحضر حفل الاستقبال بمناسبة الذكرى السنوية ليوم إفريقيا    شهادات الاقتصاد    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    باخرتان سعوديتان لإغاثة الشعبين الفلسطيني والسوداني    نعم.. ضغوطات سعودية !    الديمقراطية إلى أين؟        طلب عسير    سرقة سيارة خلال بث تلفزيوني    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    موجز    تعاون بين «روشن» و«سمة»    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    ورحلت أمي الغالية    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    إخلاص وتميز    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    مكتسبات «التعاون»    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    فيصل بن بندر يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    سمو أمير منطقة الباحة يكرم 48 طالبا من مدارس المنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين كتابين أو ثلاثة - الإنقلاب على محمد مصدق في ذكراه الخمسين
نشر في الحياة يوم 28 - 09 - 2003

حمل العدد الأخير من "نيويورك ريفيو أوف بوكس" مقالة مطوّلة ل آتش. دي. أس. غرينواي عن كتاب لستيفن كينزر، بعنوان: "كل رجال الشاه: انقلاب أميركي وجذور إرهاب الشرق الأوسط".
على أن ما يبرر تلخيص هذا المقال، بشيء من التصرف والتعليق، ليس صدور الكتاب في الذكرى الخمسين لاطاحة محمد مصدق وحكومته، بل وقوف المقال في وجه سائر أنواع التبسيط: أكان ذاك القائل إن أميركا "قوة خير"، أو ذاك الذي يختصر موضوعاً بالغ التعقيد في "العداء الأميركي للديموقراطية عندنا".
وإلى هذا وذاك، ينبّهنا المقال المذكور إلى أن الولايات المتحدة، مثلها مثل أي كائن سياسي، تسري عليها مفاعيل الزمن وانقسامات السياسة والمصالح والأفكار: فأميركا تنقسم، على الأقل، ديموقراطيين وجمهوريين، وهي في الثمانينات أو التسعينات ليست صورة طبق الأصل عما كانته في الخمسينات أو الأربعينات. ناهيك عن أن السيرورات السياسية كثيراً ما تنتج عن عناصر طارئة أو متحولة، وفي الحالين غير محسوبة أو مُرتّبة مسبقاً.
لقد كان للانقلاب على مصدق أهمية ضخمة: فهو رسم الطريق التي انتهت بالشاه وبلاده إلى الثورة الخمينية، وبالولايات المتحدة إلى احتلال سفارتها كفصل مبكر من فصول الارهاب الذي بلغ أوجه في 11 أيلول سبتمبر 2001. وعلى صعيد آخر، كانت تلك المرة الأولى التي تقدم فيها وكالة المخابرات المركزية سي. أي. آي على عملية تغيير نظام: ما شجّعها، بعد عام واحد، على التدخل في غواتيمالا وإطاحة جاكوبو أربنز، ومن ثم اندلاع حرب أهلية شنيعة كرّت بعدها أعمال التدخل في كوبا وتشيلي والكونغو وفيتنام وغيرها.
وكان كيرميت روزفلت عميل السي. أي. آي الذي كُلّف المهمة في طهران فكسب اعجاب الشاه وتقديره. الا ان القصة لا تبدأ في واشنطن، بل في لندن.
فالبريطانيون هم الذين كرهوا مصدق الداعي الى تأميم شركة نفطهم، وهو السبب نفسه الذي جعله زعيماً شعبياً محبوباً جداً، واضطر محمد رضا بهلوي إلى تكليفه تشكيل الحكومة. أما الأميركان فبدوا، بين عواطف أخرى، متخوفين من ان يؤدي الخلاف البريطاني - الإيراني في ظل مصدق الى خلق فراغ يتسلل منه الروس والشيوعيون الى جارتهم الجنوبية.
وبالفعل نظّم كيرميت، بمعونة البريطانيين، محاولة فاشلة انتهت بهرب الشاه وخروج التظاهرات الشعبية مؤيدةً رئيس الحكومة، فيما سُحب روزفلت الى واشنطن. غير أنه كرر المحاولة التي أُنفق الكثير من الدولارات عليها. وفي النهاية، عاد الشاه من ايطاليا بعدما استسلم مصدق ثم حوكم بتهمة الخيانة. ولئن دان المصالح الأجنبية واتهمها بالتآمر عليه، قضى رئيس الحكومة ثلاث سنوات في السجن انتقل بعدها الى الاقامة الجبرية إلى أن توفي في 1967.
ما هي الخلفيات الأبعد مدى التي ساهمت في حبك خيوط اللوحة هذه؟
لقد انتمى مصدق الى الأريستوقراطية المقربة من العرش، كما درس في أوروبا وعُرف بميول قومية حادة وغير مساومة. وكانت شركة النفط البريطانية والتنازلات الممنوحة لها الرمز المباشر لعدائه. لكن تكوينه القومي والشخصي كان حاداً وعصبياً وأسير الأمزجة الجماهيرية. وهذه الأمزجة التي رأت عدوها الأول في شركة النفط، كان لا بد ان تصطدم بالمماهاة التي اقامتها لندن بين مصالحها الوطنية وبين الشركة المذكورة. فالسائل الأسود بدأت تصعد أهميته في بريطانيا منذ تحولت البحرية الملكية، مطالع القرن العشرين، من الفحم اليه. ولم يخطىء أحد كبار رجالات التاريخ الامبريالي، لورد كرزون، حين قال إن الحلفاء في الحرب العالمية الأولى "وصلوا الى النصر عائمين على موجة نفط". بيد ان هذا الاعتماد تعاظم مع الحرب الثانية، حتى اذا قامت حكومة كليمنت أتلي العمالية، بعد الحرب، رفضت مشاركة طهران السيطرة على قرار شركة النفط الأنغلو-فارسية التي صارت لاحقاً الأنغلو-إيرانية. وكانت إيران عهدذاك المصدّر الرابع للنفط في العالم، تزوّد اوروبا 90 في المئة من حاجتها إليه.
وبدورهم، لم يكتف البريطانيون برفض المساومة مع المشاعر الوطنية للايرانيين، اذ رفضوا أيضاً مجرد التفكير في الاقتسام المتساوي للعائدات، على غرار ما كان يعتمده الأميركان في السعودية آنذاك.
وحتى مطالع الخمسينات لم يكن في وسع انكلترا ان تقرّ بحقيقة تحولها دولة غير عظمى، وكانت حكومتها لا تزال تملك 51 في المئة من شركة النفط. وقد بلغت الصراحة بوزير الخارجية العمالي أرنست بيفن حد القول إنه لولا النفط الايراني "لما توافر أي أمل بقدرتنا على تأمين مستوى المعيشة الذي نصبو إليه". لكن البريطانيين رأوا، إلى المال، أنهم بنوا هذه الشركة من الصفر ولا يمكنهم التفريط في سيادتهم عليها.
الا أن العمال ممن كانوا ابتدأوا تصفية المستعمرات، بدأوا يتجهون إلى تسوية لامهم عليها منافسوهم المحافظون الأشد تجذراً في نزعتهم الامبريالية. وفي المقابل، رفض مصدق أن يكون الزعيم الذي يعقد تسويات في خصوص ما اعتبره ملكية إيران الحصرية. فهو لم يكن براغماتياً إطلاقاً، بل من أصحاب الرؤى والطوبويات والميل الملحمي. ولما كان قد ذهب بعيداً في تعبئة الشارع بشعار تأميم النفط، فهذا لم يفعل غير تقليل قدرته، القليلة أصلاً، على المساومة والمؤلف يربط هذا الموقف، ببعض المبالغة الثقافوية، بخلفية شيعية ذات تقاليد في الشهادة، وبرغبة في تقبل الألم من أجل القضية.
في هذه الغضون، وقف الأميركان في الوسط. فإدارة ترومان الديموقراطية أخذت على الموقف البريطاني تحجره وعجزه عن ادراك مصالحه. وقد سخر وزير الخارجية دين أتشيسون من الانكليز الذي هددوا إيران بالغزو وارسلوا السفن الحربية لإخافة مصدق، فمضى في التأميم غير عابىء. ولم يتردد ترومان وأتشيسون في تأييد مضمون البرقية التي تلقياها من سفيرهما في طهران، هنري غرايدي، الذي كتب يقول: "البريطانيون... يبدو أنهم مصممون على اتباع التكتيكات القديمة كإبعاد الحكومة التي يواجهون مصاعب معها. إن مصدق يحظى بدعم ما بين 95 و98 في المئة من سكان بلاده، ومن الجنون الكامل إخراجه". لا بل نظر كثيرون من أخصائيي الشرق الأوسط في الادارة الأميركية الى الزعيم الايراني بصفته توماس جيفرسون أو توماس باين آخر، فيما كانت "الأوبزرفر" الليبرالية-اليسارية في بريطانيا تتحدث عنه بوصفه "روبسبيير متعصباً" و"فرانكشتاين تراجيدي" تتملكه فكرة واحدة هي العداء للغريب البريطاني وطرده.
وكان ما يحرّك الموقف الأميركي في مقاومته إطاحة مصدق ميراث العداء للكولونيالية والمثاليات الويلسونية، فضلاً عن تقدير سياسي مباشر مفاده ان رئيس الحكومة الايراني ليبرالي وعلماني كما يتمتع بتأييد شعبه. وبصفته هذه، فهو يستطيع أن يكافح الشيوعية بكفاءة أعلى مما لو تولى الأمر مجرد حاكم تابع لبريطانيا. وكان لهذا الموقف سوابق: فقبل ترومان، كان فرانكلين روزفلت قد غيّر رأيه عدة مرات في ما اذا كان جائزاً أن يعاود الفرنسيون احتلال الهند الصينية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذه الأثناء التقى عدد من الموظفين الأميركان بهوشي منه في مخابئه في الغابات. بل قبل ذلك، وفي القرن التاسع عشر، وفد الأميركان الى الشرق الأوسط لا كغزاة، أو موظفي إدارات امبريالية، بل كمدرّسين، غالباً بريسبيتاريين مشيخيين، ممن لم يسعوا وراء التحويل الديني بقدر ما عملوا على تقديم العون وبناء معاهد وجامعات ككلية روبرتس في اسطنبول، والجامعتين الاميركيتين في بيروت ثم القاهرة، هما اللتان علّمتا أبناء نخب الشرق الأوسط. وفي ايران انشأ الأميركان كلية ألبورز التي عُدّت من أوائل المدارس الثانوية العصرية في البلد، كما خرجت الآلاف ممن لعبوا أدواراً في الحيّز العام. وفي مطالع خمسينات القرن العشرين، كتب ستيفن بينروز، رئيس الجامعة الأميركية في بيروت: "حتى وقت متأخر، ظل المشروع الأميركي، بالكامل نقريباً، مشروعاً غير حكومي. وهذا فارق مهم مع معظم الأنماط الوطنية الأخرى. فالأميركان لم يُنظر إليهم إطلاقاً بوصفهم مستعمِرين أو مُخضعين".
لهذا حاول ترومان وأتشيسون دفع البريطانيين ومصدق الى تسوية ما. ففي 1951، إبان زيارة قام بها الأخير الى واشنطن، قيل له ان عدم التوصل الى تسوية سيعيده الى بلده بأيد فارغة، فردّ بأن عودة كهذه أفضل من تسوية يصعب بيعها للمتعصبين في إيران. وبحسب كاتب المقال، كان صدى هذا القول بالغ السؤ على الأميركان إذ أثار لديهم الحنق نفسه الذي أثاره، بعد نصف قرن، ياسر عرفات في إجابة مشابهة على عرض كلينتون-باراك.
هذا كله تغير في الخمسينات، حين حلت أميركا محل بريطانيا بصفتها الضامن ل"الاستقرار" في الخليج. ورغم استمرار نظرة النفور من العجرفة الكولونيالية البريطانية، والتي قابلتها نظرة استخفاف بريطاني بالسذاجة وقلة الخبرة الأميركيتين، تبدى التحول الخمسيني على جبهة العمل الاستخباري. فحتى 1953، كانت السي أي آي لا تزال شريكاً ثانوياً للمخابرات البريطانية المعروفة آنذاك ب"خدمة المخابرات السرية البريطانية" قبل تسميتها اللاحقة "أم آي 6". الا ان انقلاب مصدق ما شكّل نهاية الهيمنة البريطانية على الشأن الاستخباري. وقد وصف التحول هذا موظف الوكالة الأميركية بالتالي: "سريعاً ما غدا واضحاً أن المخابرات البريطانية صارت قنوعة تماماً بالسير وراء قيادة الوكالة... البريطانيون بدوا في غاية السرور بسبب إحرازهم التعاون النشط من الوكالة ... وفي الوقت نفسه بدا قدر من الحسد الذي تسببت به حقيقة أن الوكالة أكثر إعداداً بالرساميل والطاقم والتسهيلات...".
لقد شرعت بريطانيا ترى إلى نفسها على أنها كاليونان لروما: أكثر ثقافة وحذلقة ومكراً، غير أن القوة الفعلية موجودة هناك.
بيد أن هذا كله لا يفسر لماذا انحازت الولايات المتحدة الى لندن، وليس الى مصدق، قبل ان تتولى هي نفسها المهمة.
صحيح أن سلوك مصدّق عمل على تنفيرها، بيد أن الحاسم كان الحرب الكورية التي بدأت بغزو كوريا الشمالية لجنوبها في حزيران يونيو 1950، وصبّت الماء في طاحونة أشد المهوّلين الغربيين بالخطر الشيوعي تهويلاً. وكان من آثار الحرب الكورية تضييق مساحات الخلاف مع انكلترا، وهي الحرب التي لم تنته إلا في تموز يوليو 1953 حين كان كيرميت روزفلت يضع اللمسات الأخيرة على انقلابه.
فقد حُشرت واشنطن في صراعها الكوني مع السوفيات، وخلطت أوراق علاقتها بالامبراطوريات الاستعمارية، جاعلةً إياها تتأرجح بين سياستين: فحيث كانت تلك الامبراطوريات قوية وقادرة على دعم أميركا في معركتها الكونية، حظيت بدعمها الموضعي في هذه المنطقة أو تلك. وحيث كانت ضعيفة، طمعت الولايات المتحدة بوراثتها ضماناً لتصليب تلك الجبهة الكونية.
فلم تكد تمضي سنوات قليلة على استقلال الفيليبين في 1946، وهي المستعمرة الأميركية الوحيدة في آسيا، حتى ظهر انقسام داخل واشنطن في النظر الى قوميي "العالم الثالث" ممن كانوا شياطين انكلترا وفرنسا والبرتغال وهولندا. فقد دعم ترومان بعض الحركات القومية مراهناً على أن يسبق السوفيات الى ملء هذه الفراغات المحتملة. بيد ان الولايات المتحدة حسمت أمرها، أواخر الأربعينات، لمصلحة تأييد فرنسا في الهند الصينية. لا بل فاق دعمها للمجهود الحربي الفرنسي ما أنفقه مشروع مارشال على فرنسا كلها. لكن في 1954، رفض أيزنهاور أن ينقذ الفرنسيين من هزيمتهم في ديان بيان فو وبدىء التفكير بالحلول المباشر محلهم.
ولما كان أيزنهاور لا يزال جديداً في الرئاسة، مع اندلاع "أزمة مصدق" في 1953، وكان تضامن بريطانيا أساسياً في الشأن الكوري، تغلبت وجهة نظر لندن المتلاعبة على خوف واشنطن من الشيوعية وهذا قبل ثلاثة أعوام على اتخاذ الرئيس نفسه موقفاً معاكساً في أزمة السويس.
وخدمت تحولات أخرى في الوجهة نفسها. فقد سجل العام 1952 سقوط الادارتين الديموقراطية في الولايات المتحدة، والعمالية في بريطانيا. فونستون تشرشل، المحافظ والامبريالي العريق، حل محل كليمنت أتلي في انتخابات تلك السنة، مثلما حل الجنرال الجمهوري أيزنهاور، أواخر العام نفسه، محل ترومان، مصحوباً بالأخوين دالاس: وزير الخارجية جون فوستر ورجل المخابرات ألن. وإذا صح أن الحرب الكورية كانت أشبه ب11 أيلول في أثرها على الولايات المتحدة عهد ذاك، صح أن الأخوين دالاس هما معادل "المحافظين الجدد". وبعدما كان تشرشل يتهم أتلي "بالهرب" من إيران، شاء أيزنهاور أن لا "يهرب" فأعطى سماحه بالانقلاب، طالباً أن لا يعلم بالتفاصيل!
وبعد قرابة ربع قرن على تلك الأحداث، ظهر على الساحة وجه آخر يعرف التفاصيل اسمه آية الله الخميني. فأصرّ هذا الأخير على أنه "ليس مصدق"، وعلى أن مصدق هو الماضي الذي يجبّه الإسلام الثوري. أما الولايات المتحدة، عنده، فلم تكن عنده إلا "الشيطان الأكبر" بعينه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.