دراسة: الشركات الألمانية لا تسوق للسيارات الكهربائية بشكل جيد    توطين تقنية "الجينوم السعودي" ب 140 باحث سعودي    بسبب الجوال.. صدمة كهربائية كادت أن تودي بحياة مراهق أمريكي    السفارة في قرغيزستان للسعوديين: ابتعدوا عن التجمعات في «بشكيك».. التزموا بالحذر    سان جيرمان يسعى لفوز شرفي لتوديع مبابي    «المركزي الروسي» يرفع الدولار ويخفض اليورو واليوان أمام الروبل    استمرار هطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    نيفيز: الهلال لا يستسلم أبدًا    تيليس: ركلة جزاء الهلال مشكوك في صحتها    "تيك توك" تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    آلية الإبلاغ عن الاحتيال المالي عبر "أبشر"    الحج تحذر: تأشيرة العمرة لا تصلح لأداء الحج    "الذكاء" ينقل مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    جيرارد: فخور بلاعبي الاتفاق    السمنة والسكر يزيدان اعتلال الصحة    مهارة اللغة الإنجليزية تزيد الرواتب 90 %    الهلال يتعادل مع النصر في الوقت القاتل في دوري روشن    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    رقم جديد للهلال بعد التعادل مع النصر    موعد والقناة الناقلة لمباراة الأهلي والترجي اليوم في نهائي دوري أبطال إفريقيا    ضمك يتعادل مع الفيحاء إيجابياً في دوري روشن    العلماء يعثرون على الكوكب "المحروق"    «الدفاع المدني» محذراً: ابتعدوا عن أماكن تجمُّع السيول والمستنقعات المائية والأودية    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يحصد 27 جائزة في «آيسف 2024»    الصين تستعرض جيش "الكلاب الآلية" القاتلة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    مستقبلا.. البشر قد يدخلون في علاقات "عميقة" مع الروبوتات    طريقة عمل مافن كب البسبوسة    طريقة عمل زبدة القريدس بالأعشاب    طريقة عمل وربات البقلاوة بحشو الكريمة    تأكيد مصري وأممي على ضرورة توفير الظروف الآمنة لدخول المساعدات الإنسانية من معبر رفح إلى غزة    الأمن العام يطلق خدمة الإبلاغ عن عمليات الاحتيال المالي على البطاقات المصرفية (مدى) عبر منصة "أبشر"    القبض على مقيم ووافد لترويجهما حملات حج وهمية بغرض النصب في مكة المكرمة    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    السالم يلتقي رواد صناعة إعادة التدوير في العالم    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    الكليجا والتمر تجذب زوار "آيسف 2024"    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل        مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    حراك شامل    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ادار مكتبي البكر وصدام وتولى الاعلام ورافق السياسة الخارجية وزيراً وسفيراً . حامد الجبوري : وزير الخارجية يشرف على الاغتيال في الكويت ويعيد المنفذين في طائرته قدمت استقالتي فاستهجن الرئيس الاسير فكرة الاستقالة وقال: أبول على كرسي الرئاسة 2
نشر في الحياة يوم 26 - 09 - 2003

بعد ساعات من دفع رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف الى المنفى، على يد صدام حسين، شكل الرئيس أحمد حسن البكر حكومة جديدة، واختار حامد الجبوري وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية. وعلى مسافة أمتار من مكتب الرئيس، وتحديداً في آخر الممر، كان يجلس الرجل الآخر صدام حسين في "مكتب العلاقات العامة" الذي سيصبح لاحقاً مديرية الاستخبارات. وذات يوم طلب البكر من الجبوري ان يذهب الى صدام ويبلغه رسالة مفادها: "إذا كنتم تريدون قتل الناس فأبلغوني على الأقل". وسيكتشف الجبوري لاحقاً ان الرئيس تحول أسيراً لا يجرؤ حتى على الاستقالة.
وهنا نص الحلقة الثانية:
متى تعرفت الى صدّام حسين؟
في صيف 1967 في منزل المرحوم خالد عبدالحليم الذي كان كادراً في حزب البعث وعضواً في المكتب المهني المركزي للحزب. كان هذا المكتب يضم نخبة من المثقفين البعثيين وكبار الموظفين المنضوين في الحزب. هزيمة 1967 هزت العالم العربي. وكان طبيعياً ان تكون لها اصداء قاسية في العراق. داخل الحزب كانت الهزة عنيفة وطالب كثيرون بالتحرك للرد على الهزيمة واعتبروا ان الرئيس عبدالرحمن عارف، كما قادة انظمة عربية اخرى، لم يقم بما كان يتوجب عليه. هذا الغليان اعطى انطباعا ان الاجتماع قد يشهد استقالات وانسحابات. ربما لهذا السبب أوفدت قيادة الحزب الى الاجتماع ارفع مسؤولين وهما احمد حسن البكر أمين سر القيادة القطرية وصدّام حسين نائب امين السر.
طبعا كنت اعرف البكر فقد التقينا في السجن قبل انضمامه الى حزب البعث، اما صدّام فلم اكن قد التقيته وجها لوجه. افتتح البكر الاجتماع وتحدث لخمس دقائق ثم اعطى الكلام لصدام الذي انطلق في مرافعة طويلة دامت اكثر من ساعتين. ان مشاعرنا اليوم حيال صدّام يجب الا تدفعنا الى اخفاء حقائق تلك الايام. لا ابالغ ان قلت ان الرجل سيطر على الاجتماع واسر الحاضرين الذين اعتبروه صاحب حجة قوية ورؤية واضحة. لا ابالغ ان قلت انه تمكن من قلب المناخ رأسا على عقب. فبدلاً من مشاعر الاحباط والغضب والنقمة سادت الدعوات الى التضامن وتوحيد الصف والتهيؤ للايام المقبلة.
من واجبي حيال الحقيقة ان اعترف انني تأثرت جداً في ذلك الوقت بهذا الشاب الهادئ الذي بدا وكأنه يشتعل حماسة وتصميما في داخله. ورحت اتساءل في نفسي من اين امتلك هذا الشاب سعة الافق والفكر الجوال وهو الريفي القادم من قرية في تكريت.
الصورة والرجل
ماذا كنت تسمع عنه قبل اللقاء الاول؟
صورته لدى عدد من الحزبيين لم تكن مشرقة. كان ينظر اليه كشاب قبضاي مستعد للعراك والصدام وربما لا يتورع عن الاحتكام الى مسدسه اذا دعت الحاجة. طبعا لم يخطر ببالي آنذاك انني سأعمل بعد سنة مع البكر الرئيس وسيكون لصدّام مكتب في آخر الممر وانني سأنتقل لاحقا للعمل مع صدام نفسه.
اجواء الغضب والنقمة التي ولدتها الهزيمة رسخت قناعة الحزب بضرورة الامساك بالسلطة وهذا ما حدث في 17 تموز يوليو 1968 حين تعاون حزب البعث مع مساعد مدير الاستخبارات العسكرية عبدالرزاق النايف وقائد الحرس الجمهوري ابراهيم الداود وعين الاول رئيساً للوزراء والثاني وزيراً للدفاع. واتضح لاحقاً ان تعاون البعث مع الرجلين فرضته الرغبة في ضمان نجاح الانقلاب دون اراقة دماء لكن الشكوك بهما كانت حاضرة منذ اللحظة الاولى خصوصاً في ما يتعلق بالنايف وما يحكى عن ارتباطاته الخارجية.
النايف و"الارتباطات"
ماذا كان دورك في 17 تموز؟
لست من قماشة الذين يستفيدون من مرور الزمن لاختراع ادوار لم يقوموا بها او لتضخيم ما قاموا به. لم اكن في موقع قيادي وكان دوري بسيطاً.
ما هي قصة ابعاد عبدالرزاق النايف في 30 من الشهر نفسه؟
ما زلت اذكر جيداً ما رواه البكر لي ذات مساء. كان النايف مساعداً لمدير الاستخبارات العسكرية. عرف ان حزب البعث يستعد لتنفيذ عملية انقلابية. ارسل الى البكر يقول له: اما ان تشركوني في هذه العلمية التي اعرف تفاصيلها وأكون رئيساً للوزراء وعبدالرحمن الداود وزيراً للدفاع واما ساضطر الى احباط حركتكم. قال البكر: "اصبحنا في موقف حرج وامام امر واقع. نعرف توجهات النايف وارتباطاته ولا يمكن الوثوق به لكن لا نريد المغامرة بافشال الحركة وتلقي ضربة. قررنا اشراكه وقررنا في الوقت نفسه التخلص منه في اول فرصة" وفي 30 تموز دخل صدّام وصلاح عمر العلي الى مكتب البكر بالسلاح. ارغمه صدّام على الخروج واقتاده الى طائرة أقلته الى المغرب. الفرقة المدرعة العاشرة بقيادة حماد شهاب كانت قريبة وموجودة في ابوغريب فتحركت سريعاً لضمان عدم حدوث اي ردود فعل وسيطرت على الاماكن الحساسة.
كان البكر وصدام يعتقدان ان لعبدالرزاق النايف علاقة بدولة عربية مجاورة وكذلك باجهزة امن غربية. والواقع ان النايف وبحكم منصبه كان قادراً على الاتصال بالسفارات وحكي كثيرا انه نسج علاقات من هذا النوع. واتضح لاحقاً انه كان يملك علاقات واسعة فالاردن استقبله ووفر له الحماية وزار ايران وكان مشاركاً في ما عرف ب"مؤامرة عبدالغني الراوي" قبل ان ينسحب منها.
دخلت الحكومة في 31 تموز 1968 اي غداة اطاحة النايف والداود؟
نعم. حاول البكر اشراك عناصر قومية لكن الذين فوتحوا اعتذروا اذ شعروا ان البعث يريد استخدامهم لبعض الوقت ثم التخلي عنهم. عينت وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية.
هنا سأروي مسألة طريفة. بعد ابعاد النايف الى المغرب وارغام الداود على البقاء خارج البلاد بدأت القيادة السعي الى تشكيل حكومة. وخلال التداول تكرر اقتراح اسمي لوزارة الخارجية وظهر اتفاق عليه. كنا في مكتب البكر وكان حاضرا صدام حسين وحردان التكريتي وصالح مهدي عماش وعبدالكريم الشيخلي. طلب مني الشيخلي، وهو صديق لي، ان نذهب الى المكتب المجاور. ذهبنا واذ به يطلب مني بحكم الصداقة ويلح ان اتخلى له عن حقيبة الخارجية. بعد الحاحه وافقت وعدنا الى مكتب الرئيس. قال الشيخلي للبكر: "سيادة الرئيس وافق رفيقنا ان يتنازل عن الخارجية". فرد الرئيس: "طيب اذاً يأتي الاخ حامد الجبوري وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية".
اضحك اليوم لأن المرء في شبابه قد لايتنبه لبعض الاشياء. اغلب الظن ان الشيخلي كان عرض الموضوع مع البكر واقترحوا عليه اخراجاً من هذا النوع. وهكذا انتقلت من موقع حزبي في مكتب الثقافة والاعلام والمكتب المهني المركزي الى موقع رسمي قرب رئيس الجمهورية.
الرئيس والنائب
الآن انت في القصر في 1968 كيف بدت العلاقة بين البكر وصدام؟
كانت العلاقة حميمة فهما من عشيرة واحدة هي البوناصر. جاءا من خلفية فقيرة. بيوتهما الاصلية اكواخ رأيتها بنفسي. العوجة قرية فقيرة وبسيطة. كان لدى كل واحد منهما شعور بأنه بحتاج الى الآخر. كان المقصود ان يمسك البكر الجيش بصفته رئيس الجمهورية والقائد الاعلى للقوات المسلحة اضافة الى موقعه الحزبي. ومن جهة اخرى القيت على صدام مسؤولية امن الثورة وضمان عدم تكرار تجربة 1963 حين سقط حزب البعث بعد تسعة اشهر من تسلمه السلطة. كان البكر يريد من صدام ان يمسك الماكينة الامنية كي لا تنقلب على الحكم الجديد. وكان صدام يحتاج الى البكر كغطاء في الدولة والجيش. صدام شاب وغير معروف وغير مجرب. صورته صورة القبضاي او الشجاع. وحتى بعدما تولى "مكتب العلاقات العامة" ترسخت صورة صدام كشخص عنيف لا يتردد في القيام بتصفيات. لذا كان صدام يحتاج الى غطاء اسمه احمد حسن البكر. اظهرت لي معايشتي للرجلين ان صدام صاحب طموح لا حدود له لكنه قادر على الانتظار والعمل من وراء الستار. رجل متكتم. كانت مداخيل سباق الخيل توضع في تصرف رئاسة الجمهورية. وكان البكر يقتطع جزءا منها ويطلب مني ان اعطيه لصدام كي لا يأخذ من موازنة الدولة.
يمكنني القول ان صدام صاحب نفس طويل وانه قرر باكرا الامساك بكل مفاصل السلطة معداً نفسه للامساك ذات يوم بالموقع الاول. هذا الطموح احدث شيئاً من الحذر في العلاقة بين الرجلين تحول شرخا لاحقا. لكن صدام كان يعالج كل مرحلة بما تقتضيه. في النهاية شعر البكر ان صدام يأكل من صلاحياته.
الرجل القوي
هل قال لك البكر شيئاً؟
سأروي حادثة كانت سبباً للجفاء بيني وبين صدام. عام 1974 توليت وزارة الثقافة والاعلام للمرة الثانية. في ذلك الوقت كان صدام مهتماً بتلميع صورته في الداخل وفي المنطقة والعالم. شكل لجنة ضمتني شخصياً الى جانب طارق عزيز رئيس تحرير "الثورة" وبرزان التكريتي الاخ غير الشقيق لصدام وكان رئيساً للستخبارات. انا لم اكن اعتبر المنصب الوزاري شيئاً مهماً لانه عابر يمكن ان تخسرة لأصغر الاسباب. لا أريد ان اقول انني اكبر من المنصب انما أريد ان اقول انني لست اصغر منه. شعرت ان صدام يريد استغلال وزارة الاعلام لتلميع صورته ولم أشعر بالارتياح على رغم علاقتي الوطيدة معه. كان يعرف انني غير متحمس لمشروعه. والحقيقة انني كنت اطرح في مجلس الوزراء ان وزارة الاعلام يجب ان تتحلى بالصدقية وان لا تكون مجرد بوق للسلطة. هذا الكلام كان يتعارض تماماً مع العقلية الفردية والتسلطية التي كانت سائدة حتى لدى البكر. الحقيقة ان صدام كان راغبا في ازاحتي من وزارة الاعلام لاسنادها الى طارق عزيز. كان باستطاعته ان يطلب من البكر اصدار مرسوم من هذا النوع وتنتهي المشكلة. لم يفعل ذلك ربما بسبب الاحترام لشخصي فأنا صريح وغير متورط ولا شيء لدي اخفيه، وكان صدام يحرص على مناداتي بالاستاذ حتى حين يحقر آخرين في القيادة. وربما لان ابناء عشيرتي الجبور كانوا يحيطون به كما الاساور بالمعصم. كان كثيرون من القادة والضباط والجنود من عشيرة الجبور سواء في الحرس الخاص او في اجهزة الامن. في هذا الوقت كنت الجبوري الوحيد في السلطة. ربما كان يراعي هذه الناحية.
ايحاءات ومحاكمات
هذا لا يعني ان صدام يستسلم امام هذه المعطيات. كان يحرض اعضاء مكتب الثقافة والاعلام لشن حملة ضدي ووصفي بأنني وزير مقصر. ولاستقطاب المزيد من الناس وسع مكتب الاعلام من 12 شخصاً الى 70 شخصاً. هذا في 1974. كنا نجتمع كل خميس فتتحول الجلسة الى ما يشبه المحاكمة لي. شعرت بضيق كبير وفي الشهر الخامس من تلك السنة اجتمع مكتب الثقافة والاعلام المركزي وحضره برزان التكريتي. ساورني شعور بأن الاجتماع حاسم وبدا الجو مكهرباً.
طلب صدام من كل من الحاضرين ان يتحدث. تحدث رؤساء تحرير الصحف والاذاعة والتلفزيون ثم ممثلو العمال والفلاحين، واجمع المتحدثون على فشل وزير الاعلام على رغم ان صداقة عمر كانت تربطني ببعضهم. برزان لم يتحدث في الاجتماع وكنت المس لديه قدرا من التعاطف معي اذ كان يعرف ان صدام وراء حملة التحريض هذه. طارق عزيز كان رئيساً لتحرير "الثورة" وشارك في انتقادي لكن بدرجة اقل من الآخرين.
التفت صدام في النهاية الي بشيء من العصبية وقال: "وما هو رأي وزير الاعلام؟". فاجيته: "كلهم كذابون وقد طلب منهم ان يقولوا ما قالوه". فوجئ صدام ولم يتوقع ان اتفوه بهذا الكلام امام 70 شخصاً. انا اعرف صدام جيدا. حين يهتز موقفه يقوم بحركة في رقبته. لم يقل اي كلمه وراح يدخن سيجاره ثم رمى الكبريتة بقوة على الطاولة وغادر الاجتماع.
وماذا جرى بعد ذلك؟
عدت الى وزارة الاعلام. استخدمت الهاتف الخاص للاتصال بالقصر. تحدثت الى العميد شفيق الدراجي امين سر مجلس قيادة الثورة مدير مكتب الرئيس البكر. قلت له انني اريد رؤية الرئيس البكر فوراً فقال: "تفضل". ذهبت الى القصر وقلت للدراجي ان يدخلني الى مكتب الرئيس فقال: "آسف لان السيد النائب صدام في طريقه الى القصر ويريد رؤية الرئيس في امر عاجل. انه يوشك ان يصل ولا استطيع جعله ينتظر".
بعد قليل وصل صدام مكفهراً وألقى تحية جافة ودخل مكتب الرئيس. بعد وقت قصير سمعنا، من مكتب الدراجي الملاصق، اصوات شجار عنيف بين الرجلين. ثم خرج صدام حانقاً وصفق باب مكتب الرئيس وراءه بعنف.
دخلت الى مكتب البكر الذي كان جالساً الى مكتبه يدخن. كان مدخنا شرها لسجائر "كنت". حييته وجلست. سألني عن سبب مجيئي فقلت: "أتيت لأقدم استقالتي". استفسر عن السبب فأجبت: "لانني اشعر ان كرامتي غير محفوظة وانا وزير عند احمد حسن البكر".
نهض البكر القصير القامة نسبياً ووقف وراء الكرسي الذي كان يجلس عليه واشار الى الكرسي وقال: "ابول على هذه الكرسي، كرسي رئاسة الجمهورية التي لا تحفظ حتى كرامة الرئيس". وراح يوجه كلامه الى نفسه: "آخ ابو هيثم، شلون تقبل تصير رئيس جمهورية، شلون تقبل تدخل بحزبهم".
اقسم بالله العظيم انني اقول حرفياً ما جرى. عاد البكر الى كرسيه وظهرت الدموع في عينيه. انا لم اتمالك نفسي ايضاً. قال: "الاستقالة شيلها من ذهنك. ليس باستطاعتي قبول استقالتك، من يقبل استقالتي انا. نحن اسرى ولا نملك حق الاستقالة".
صعقني المشهد تماماً. رئيس الجمهورية احمد حسن البكر جامع الالقاب الرسمية والحزبية والعسكرية يبكي ويقول نحن اسرى. اي انه اسير صدام حسين ولا يجرؤ على الاستقالة. اقترح علي ان اذهب سفيراً. اجبته انني مصر على الخروج من الحكومة. قال: "هذا غير ممكن". سألته عن الحل فقال: "اعفيك من وزارة الاعلام وتبقى وزير دولة بلا حقيبة"، وهذا ما حدث.
هل كان البكر يروي لك بعض خصوصياته؟
كان البكر يحاول الايحاء بأنه غير راض عن اتجاه الامور. الوجود في السلطة يحتاج الى حصانة داخلية كبيرة. هذه لم تكن متوافرة دائما. ليس بسيطاً ان يأتي شبان من الريف ثم يجدون انفسهم في موقع القرار المالي والامني والسياسي. يضاف الى ذلك هذا الاسلوب في الاتهام والمعاقبة في غياب المؤسسات والضمانات. تتحول المسألة برمتها الى لعبة قوة. والقوة بلا رادع خطيرة خصوصاً اذا كان غرضها الوحيد ضمان الاستمرار في السلطة.
كيف وجدت شخصية البكر؟
بحكم المعايشة اليومية شعرت ان البكر ليس ميالا الى الحلول العنيفة والدموية. اسلوبه في هذه المسائل يختلف عن اسلوب صدّام. هذا لا يلغي شجاعته فلولاها لما كرر محاولاته للاستيلاء على السلطة على رغم السجن والاحالة على التقاعد. يمكنني القول ان البكر ثعلب، انه سياسي ماكر يملك طاقة الصبر والقدرة على الانتظار والتظاهر بأنه ليس على علم. هناك نقطة مهمة في شخصيته وهي انه لم يكن طائفياً. اقول هذا ليس استنادا الى اقواله بل في ضوء تعامله مع الملفات. على سبيل المثال كل سنة يرشح طلاب للكلية العسكرية. كانت العادة الجارية من ايام العهد الملكي ان يستحوذ السنة على معظم المقاعد. طبعا لهذه القصة اسباب كثيرة بينها ما يتعلق بالشيعة انفسهم ونظرتهم الى السلطة. ذات يوم قال لي: "خذ لوائح الترشيحات وادرسها". واضاف: "المحافظات الشيعية ترشح اعداداً قليلة او موازية للمقاعد. في الغربلة تستبعد بعض الاسماء فيتعزز الخلل. من اجل ان يكون هناك توازن في الجيش العراقي اتصل بالمحافظين ومسؤولي الحزب في المناطق الشيعية وقل لهم المطلوب بأمر من الرئيس اعادة النظر في هذه القوائم.
وصدّام نظرته طائفية؟
لم اسمع منه يوما أي كلام طائفي. في قرارة نفسه اعتقد ان لديه مخاوف من ولاء الطائفة الشيعية وعلاقة بعضها بايران. عدد من المحيطين بصدام كانت نظرتهم طائفية وضيقة. انا لا ادافع عن البكر واحمله مسؤوليات كبيرة في ما وصل اليه الوضع في العراق. كان عليه ان يتحرك باكرا ضد النهج الدموي لصدّام.
كنت وزيرا اثناء ايلول سبتمبر 1970 ولم يتدخل الجيش العراقي المرابط في الاردن لمنع ضرب المنظمات الفلسطينية. ماذا جرى؟
كاد حكم حزب البعث يهتز بسبب ذلك الموقف. كثيرون اعتبروا انه خذل الفلسطينيين. كانت المسألة محرجة للحزب داخل صفوفه وتجاه الناس خارجه. لكن الموضوع كان معقداً. لو تدخل الجيش العراقي لاتسع اطار المواجهات. ويجب الا ننسى ان المسألة تدور على حدود اسرائيل وهناك الدور الاميركي. اعتقد ان اصحاب القرار خافوا من ان تؤدي مغامرة من هذا النوع الى خسارتهم السلطة خصوصاً انه لم يمض على وصولهم اليها اكثر من عامين.
حصلت اعدامات في تلك الفترة، هل كان البكر على اطلاع دائما على مجرياتها؟
منذ البداية امسك صدام بالماكينة الامنية. استفاد من الخوف الذي كان قائماً في قيادة الحزب من تكرار تجربة 1963 اي سقوط الحزب على يد العسكريين. قرر ان يضرب بلا رحمة. في المراحل اللاحقة نجح في جعل البكر يعيش في هاجس المؤامرة. كان صدّام يقدم ممارساته على انها خطوات للدفاع عن الثورة والحزب في وجه الاعداء والمتآمرين. لم يتنبه البكر باكراً لخطورة هذه اللعبة ووقع تحت تأثير هاجس المؤامرة الذي تعمد صدّام اشاعته لضمان اطلاق يده.
هنا سأروي حادثة كثيرة الدلالات. كنت كل صباح ادخل على رئيس الجمهورية للحصول على توجيهاته. ذات يوم وجدته مستاء واذ به يشكو لي بمرارة. قال لي: "في ساعة متأخرة من ليل امس فوجئت بزيارة مجموعة من مشايخ بغداد. خلال اللقاء سألوني عن سبب مقتل الشيخ عبدالعزيز البدري. سألتهم عما تعرض له فقالوا قتل اليوم. البدري صديق لي واستقبله في صورة شبه اسبوعية. كان الموقف حرجاً. من الصعب عليهم ان يصدقوا ان رئيس الجمهورية ليس على علم بمقتل احد المشايخ وهو صديق له. قل لهذا صدّام الجالس مع ربعه في آخر الممر ان يعطوني خبرا على الاقل".
في نهاية الممر خصصت آنذاك غرفتان لما كان يسمى "مكتب العلاقات العامة" برئاسة صدّام ويضم ناظم كزار وسعدون شاكر وعلي رضا باوه ومحمد فاضل. وهذا المكتب تحول لاحقاً الى جهاز الاستخبارات. جدد البكر طلبه مني ان ابلغ صدّام بما قاله وقال: "انا رئيس جمهورية كيف اقول لا اعرف". لم يكن باستطاعتي رفض الطلب. توجهت الى حيث يجلس صدّام وقلت له ان السيد الرئيس يطلب على الاقل ابلاغه، فحدّق بي ولم يجب ولم يعلّق.
طبعاً لموقف صدّام هذا دلالات كثيرة. البكر رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة. كان يفترض بصدّام ان يفسّر او يبرر، فالرسالة من الرئيس وبناء على طلبه. لم يعلّق. هذا لا يعني انه كان يريد استفزاز البكر فهو كان يهتم ب"الاب القائد" وصوره. لكنه في الوقت نفسه يريد حرية التصرف في بعض الدوائر.
وصدرت جملة اعدامات في مؤامرة الراوي؟
مؤامرة الراوي كانت المؤامرة الجدية الوحيدة في تلك المرحلة. بعض المؤامرات الاخرى كان صدّام يخترعها ويعلن احباطها لاقناع البكر انه الضمانة لحمايته. نجحت الاستخبارات العراقية في اختراق المجموعة التي تعد المؤامرة. ارسلت ضابطا عرض عليهم التعاون فانطلى الامر واستدرج عدداً منهم وسجل لهم احاديث. بلغ الامر حد استدراج بعضهم الى القصر بعد ايهامهم انه صار في قبضتهم واذ بهم يكتشفون ان صورة البكر لا تزال معلقة. وقعوا في الفخ.
هل قال لك صدام شيئاً عن البكر؟
يجب عدم الاستخفاف بذكاء صدام. انه رجل لا يحب الثرثرة وقادر على الاحتفاظ بمشاعره وآرائه لنفسه. يسيطر على اعصابه ولسانه. كان لديه شعور ان البكر عقبة امامه لكنه لم يكن يجاهر بذلك.
أذكر ذات يوم كنت في مكتبه تلقى اتصالاً من ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز. حاولت الخروج فأصر على ان أبقى. بعدما أنهى الاتصال الهاتفي قال: "ماذا عسانا نفعل، نحن نبقى في الصف الثاني، رجال الصف الثاني يتحدثون الى بعضهم". قالها من باب المداعبة لكنها عبرت عن ضيقه من طول الاقامة في موقع الرجل الثاني.
من ابرز الذين اعدموا في ظل النظام الحالي؟
عبدالخالق السامرائي. لا اقول ذلك لانه من الجبور. الرجل قمة في الصفاء والنقاء والاخلاص.
هناك من يقول ان مقتل محمد نجل البكر في حادث سيارة لم يكن وليد الصدفة؟
محمد كان الولد الاقرب الى قلب البكر. في بداية النظام الحالي جرت مؤامرة عرفت بمؤامرة عبدالغني الراوي وهو كان ضابطاً متقاعداً خطط لاطاحة النظام. جاء شباب من حزب البعث وانتشروا في القصر لحمايته وكنت هناك. في اليوم التالي قال البكر: "لو حاول الانقلابيون الاستيلاء على القصر لما دخلوه الاّ على جثتي لكنهم لو خطفوا محمد ابني لاعطيتهم القصر".
هذا الكلام كان امام صدّام. قتل محمد هدّ البكر. ثم ان محمداً لم يكن متخفظاً وكان يتحدث علناً عن رغبته في قتل صدّام. دبروا له حادث السيارة.
في 1971 قتل حردان التكريتي في الكويت فماذا عرفتم؟
طبعاً حردان التكريتي وزير دفاع وعسكري معروف وصاحب دور في 1963 وكذلك في 1968. وبديهي ان لا يحب صدّام شخصاً بمثل هذه المواصفات خصوصاً انه تكريتي. تعرض حردان لمؤامرة كلاسيكية. كلف مهمة في الخارج وخلال غيابه ابلغ بأن عليه عدم العودة الى بغداد. اعتقد انه ابلغ خلال توقفه في بيروت انه سيعتقل اذا عاد. رفض وأصر على العودة فكانوا في انتظاره. طلب منه عبدالكريم الشيخلي مغادرة البلاد فوراً فغادر الى الجزائر.
غادر حردان الجزائر لاحقاً وتوجه لاداء مناسك العمرة. ويقال هنا ان لقاء حصل في السعودية بينه وبين خيرالله طلفاح خال صدام ووالد زوجته. وقيل ايضاً ان اللقاء لم يكن ناجحاً وان حردان قال لخيرالله انه مصمم على تصفية حسابه مع صدّام. بعدها انتقل حردان الى الكويت على امل ان تساعده اقامته في مكان قريب على اجراء اتصالات للقيام بعمل ما.
هنا صار التخلص من حردان ضرورياً بالسنبة الى خصومه. الغريب ان القائد الفعلي للمجموعة التي كلفت هذه المهمة كان وزير الخارجية عبدالكريم الشيخلي. طبعاً لم يشارك الشيخلي في تنفيذ عملية الاغتيال في الكويت لكنه اعاد المنفذين بطائرته الى بغداد وكان بينهم محمد فاضل. أما السفير مدحت ابراهيم جمعة الذي قتل لاحقاً فيقال انه كان على علم بالخطة واصطحب حردان الى مكان اعتقد انه مستشفى لاجراء فحوصات. لدى وصول حردان والسفير كانت المجموعة في الانتظار، فتح احدهم باب السيارة وامطر حردان بالرصاص.
الغريب ان الشيخلي نفسه، وهو رفيق صدّام في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، قتل بدوره في شارع الاعظمية وعلى مرأى من زوجته.
في مؤامرة 1979 كنت وزير دولة للشؤون الخارجية هل كنت حاضراً في لقاء قاعة الخلد الذي ترأسه صدام؟
الحمد لله انني كنت مكلفاً بعمل ولم اشهد ذلك اللقاء. منذ 1973 قال صدام في لقاء ضمن مدنيين وعسكريين ان بعض المتآمرين يشبهون نوعا من الاعشاب التي تنمو في الحدائق ولا مجال للتخلص منها الاّ باقتلاعها من جذورها. هنا اريد ان اسجّل ما قاله لي صدام فقد اعتبر المؤامرة سوفياتية وسورية وسوفياتية بالاساس.
هل كان يكرة السوفيات؟
جدا. وكان يحملهم مسؤولية أي محاولة لاطاحته.
غداً حلقة ثالثة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.