طالما أن أميركا تقر قانونياً بأنها في وضع احتلال العراق، فإن المقابل الموضوعي لرفض الاحتلال هو المقاومة، أكانت منظمة وذات أهداف محددة، أم مجرد أعمال انتقامية ضد تصرفات غير مقبولة. فالاحتجاج على غياب الأمن وانعدام الاستقرار وعدم احراز التقدم في إقامة حكومة شرعية تستند إلى إرادة العراقيين نوع من المقاومة. وفي مقابل ذلك، فإن قتل الرعايا واعتقالهم بدعوى أنهم من جيوب النظام المخلوع يظل نوعاً من الاعتداء. إلا أن حال العراق قبل الحرب وبعدها لا تكاد تخضع للمنطق المتعارف عليه في الأوضاع الدولية، وتحديداً مفهوم السيادة وحق تقرير المصير والتزام الأوفاق الدولية. وبالارتباط مع ذلك، في الإمكان القول ان مفهوم المقاومة يبقى بدوره خاضعاً للالتباس، وما يزيده تعقيداً هو صعوبة تقبّل أن يقود الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين أي نوع من المقاومة. إلا أن حال العراق، كتجربة غير مسبوقة في العلاقات الدولية، تدفع إلى خلط الأوراق والمفاهيم. فما كان محرماً قبل الحرب الأميركية - البريطانية على العراق من رفض شن الحرب إلا بقرار صادر عن مجلس الأمن، أصبح واقعاً مسلماً به وفق منطق القوة والسيطرة، إلى درجة تراجع معها البحث عن ذرائع شن الحرب ما دام أنها نفذت. وبالتالي فإن انتهاك المتعارف عليه في القوانين والتجارب الإنسانية حين يصبح مقبولاً من التحالف، فلا شيىء يحول دون أن يصبح واقعاً في الطرف الآخر، وهنا بعض من اشكالية الحال العراقية. سيتراجع الكلام عن عراق ما بعد صدام إلى الخلف وتعطى الأسبقية ل"استئصال" عراق المقاومة. وستغيب مقولة معاودة إعمار العراق وتنصيب حكومة شرعية واحلال الديموقراطية وتمكين الشعب من حكم نفسه، وتحل مكانها مقولات جديدة عن تصفية جيوب المقاومة واجراء المزيد من العمليات الجراحية القسرية على الجسد العراقي المنهك. وقد يكون الشيء الوحيد الذي تركه الأميركيون لمحض الصدفة هو اندلاع الحرائق التي لا يمكن إلا أن تزيد في عمر الاحتلال. ألم يقل الرئيس الأميركي جورج بوش إن جيوشه لن تظل في العراق لحظة واحدة أكثر مما يجب أو مما هو مطلوب؟ لكن هذا المطلوب والجواب عنه يُصاغان دائماً بأكبر درجات الغموض. وإذا كان المطلوب هو استتباب الأمن والاستقرار، فإن هذه المعادلة غائبة أمام تزايد أشكال المقاومة. وإذا كان المطلوب تشكيل الحكومة التي يقبل بها العراقيون، فهذا أصعب من أن تشكل في مربع سيطرة الدبابات واطلاق يد الجنود يفعلون ما يشاؤون. وإذا كان تثبيت عراق ما بعد صدام، فإن مجرد نقل شريط صوتي إلى محطة فضائية سيضرب الهدف في العمق. ففي المحصلة، كانت إطاحة نظام صدام أسهل من المتوقع. تماماً كما كان انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً مدهشاً في تسلسله وتداعياته إلى درجة المفاجأة. لكن الأصعب هو ماذا بعد؟ فالأميركيون يمكن أن ينشغلوا الآن بهاجس الأشرطة أكثر من انشغالهم بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل المزعوم. والعراقيون الذين استبشروا بسقوط نظام بغداد قد يزيدون في أحقادهم ضد الفلول المتبقية منه - إن كانت موجودة فعلاً - بدل طرح الأسئلة الحقيقية بشأن مستقبل البلاد. كل حرب تراد في النهاية للوصول إلى سلام. لكن الحرب الأميركية - البريطانية على العراق كانت مختلفة. وما يحدث اليوم داخل العراق وفي جواره جزء من تداعيات حرب مدهشة بدأت وانتهت، إلا أن مأساتها غير مرجحة للنهاية.