نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل عدداً من القيادات    القبض على مقيمين من الجنسية البنجلاديشية في تبوك لترويجهما «الشبو»    فعاليات (عيدنا فرحتكم ) ثاني أيام عيد بالمركز الحضاري برأس تنوره    نجم ضمك لاعب رومانيا يسجل أجمل أهداف يورو 2024    الأمن الصناعي بشركة المياه الوطنية عينُُ ساهرة لاتنام لحراسة اكثر من 3 مليار لتر من المياه    الفلبين: سفن تابعة للصين اصطدمت بمراكب فلبينية وألحقت أضرارا بها    خادم الحرمين يتكفل بنفقات الهدي ل 3322 حاجاً وحاجة من برنامج الضيوف    الحجاج يكملون رمي الجمرات الثلاث لليوم الأول من أيام التشريق    ضبط 6 مخالفين لأنظمة الحج لنقلهم 52 مخالفا ليس لديهم تصريح    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يقيم حفل الاستقبال السنوي في قصر منى    مدرب البرتغال: رونالدو ليس مثلما كان    حل مجلس الحرب يفضح انقسامات حكومة نتنياهو    فيلم "ولاد رزق 3" يحطم الأرقام القياسية في السينما المصرية بأكثر من 18 مليون جنيه في يوم واحد    «الناتو» يبحث نشر أسلحة نووية جاهزة للإطلاق    "الأونروا": الأعمال القتالية مستمرة في غزة رغم إعلان الجيش الإسرائيلي    تراجع أسعار النفط والذهب    عروض الدرعية تجذب الزوار بالعيد    هيئة الاتصالات: وصول مكالمات الحجاج إلى 44.8 مليون مكالمة في مكة والمشاعر خلال يوم العيد    51.8 درجة حرارة المنطقة المركزية بالمسجد الحرام    "الصحة" للحجاج: تجنبوا الجمرات حتى ال4 عصراً    إنقاذ حياة حاجة عراقية من جلطة دماغية    نائب أمير مكة يستقبل مدير عام الدفاع المدني المكلف وقائد قوات أمن المنشآت    عيد الأضحى بمخيمات ضيوف الملك ملتقى للثقافات والأعراق والألوان الدولية    الرئيس المصري يُغادر جدة بعد أدائه مناسك الحج    نائب أمير مكة يستقبل وزير الحج ووزير النقل والخدمات اللوجستية وقائد قوات أمن الحج    «الصحة»: 2764 حالة إجهاد حراري بين الحجاج أول أيام العيد.. تجنبوا الخروج وقت الذروة    انخفاض سعر الروبل أمام العملات الرئيسية    كاليفورنيا ..حرائق تلتهم الغابات وتتسبب بعمليات إجلاء    الحكومة الهندية تدرس خفض الضرائب لزيادة الطلب    «الأرصاد»: «49 درجة مئوية» الحرارة العظمى المتوقعة في منى ومكة.. اليوم    مصرع 5 أشخاص في حادث تصادم قطارين في الهند    الاحتلال الإسرائيلي يحرق صالة المسافرين بمعبر رفح البري    1 من كل 7 بالغين مهدد بالابتزاز الجنسي    رئيس "سبل" يهنئ القيادة بمناسبة حلول عيد الأضحى    أمير جازان يستقبل المهنئين بعيد الأضحى المبارك    الرئيس التنفيذي للهيئة السعودية للبحر الأحمر يهنئ القيادة بمناسبة عيد الأضحى المبارك    محافظ الطائف يهنئ القيادة بمناسبة عيد الأضحى المبارك    «السراب» يجمع يسرا اللوزي وخالد النبوي    «الداخلية» للحجاج: تقيّدوا بالمواعيد والمسارات والاتجاهات المحددة    40 نيابة لمباشرة القضايا في الحج    في أمنٍ واطمئنان.. الحجاج يستقرون في منى    استثمار منصات التواصل في تجديد الخطاب والرد على شُبُهاتِ أهل الإلحاد    قتل تمساح ابتلع امرأة !    مصادر «عكاظ»: هتان يحدد مصيره «الاحترافي» عقب رحلة أمريكا    «الإحصاء»: التضخم يواصل استقراره.. وصعود طفيف للأسعار    1 من 6 مصابون به.. هذه المشكلات وراء العقم في العالم    5 فوائد صحية لماء البامية للرجال    بيلينغهام يهدي إنجلترا فوزاً صعباً على صربيا.. وفيخهورست ينقذ هولندا    العيد.. فرصة للتجديد!    ردة الفعل تجاه مستيقظي العقل    تين هاج: إدارة مانشستر يونايتد أبلغتني بالاستمرار مدربا للفريق    العيال لم تكبر !    في فمي ماء !    نستثمر في مستقبل المملكة والعالم    الأمير خالد الفيصل يهنئ خادم الحرمين وولي العهد بحلول عيد الأضحى المبارك    أمير منطقة تبوك يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك مع جموع المصلين    عروض مسرحية وفلكلور شعبي في احتفالات الشرقية بعيد الأضحى    «الكانفاس» نجمة الموضة النسائية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جيل صنعته الحروب ثم هدمته . مغامرات أيريش ماريا ريمارك
نشر في الحياة يوم 30 - 07 - 2003

لم يكره النازيون عملاً أدبياً في حياتهم، أكثر من كرههم رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" التي صدرت أولاً في عام 1929، ولم يكرهوا شخصاً أكثر من كرههم مؤلفها أيريش ماريا ريمارك. في رواية الكاتب الألماني المولود في 22 تموز يوليو 1898 والمتوفى عام 1970 في مدينة لوكارنو السويسرية، وجد كل جنود المُشاة الأوروبيون المجهولون الذين أُلقوا في محرقة الحرب العالمية الأولى - والذين كان المؤلف نفسه واحداً منهم - صوتهم. ولكن قبل أن يشير النازيون الى الرواية بالبنان، ويحرقوها ضمن حرقهم كتباً أخرى، اعتبر النقاد اليمينيون الرواية مجرد عملٍ "منحط" يسخر من الجنود الألمان "الذين كانوا يكافحون" على جبهات القتال.
ليس من المبالغة أن يؤرخ البعض نهاية جمهورية فايمار الديموقراطية في ألمانيا، في 12 كانون الأول ديسمبر 1930، اليوم الذي مُنع فيه عرض الفيلم الأميركي المأخوذ عن الرواية في ألمانيا. في حينه صرح غوبلز، وزير الدعاية الألماني لاحقاً، وقبل ثلاث سنوات من تسلم النازيين السلطة من طريق فوزهم بالانتخابات "الديموقراطية": "من طريق هذا المنع انتصرت الحركة القومية الاشتراكية ضد هذا العمل اليهودي المأجور على كل المستويات".
المليونير الأنيق
بالنسبة الى ريمارك كان ذلك "الانتصار" مجرد وهم من أوهام القوميين الاشتراكيين، ولكي يسخر منهم، قرر مغادرة ألمانيا في عام 1931، ليعيش أولاً في منفاه السويسري، في زيوراخ، قبل عامين من صعود هتلر وحزبه الى السلطة. الرواية التي لاقت نجاحاً أوروبياً وعالمياً منقطع النظير، تُرجمت إلى معظم اللغات العالمية وبيعت بملايين النسخ، وصورت مباشرة في هوليوود، فجعلت ريمارك يستقل اقتصادياً، ويعيش على ما درته عليه من ربح. في المقابل، أثار نجاحه الكبير، الكثير من الحسد والغيرة والكراهية بين زملائه: توماس مان لم يشأ في أحد أيام عام 1933 أن يراه أحد معه في شوارع مدينة أسكونا، "لأنه يخاف أن يفقد جمهوره في ألمانيا" كما كتب مان في مذكراته. الكثير من المهاجرين والمنفيين، لم يريدوا إقامة أية علاقة مع "هذا المليونير، الأنيق، الذي غادر ألمانيا فقط لكرهه النازيين وهرب الى المنفى مبكراً، قبل توماس مان وبريشت وغيرهما، من دون أن يكون يهودياً أو شيوعياً كما جرت العادة في موجات الهجرة الأولى. معاشرته لنجوم السينما، وثروته، جعلت الآخرين ينظرون إليه بريبة، خصوصاً جماعة اليسار المنفيين.
كان ريمارك وحيداً، وأحب أمر الى نفسه أن يكون بصحبة النساء، والكثير من النساء إن أمكن. هناك صورة واحدة من صور مشهورة كثيرة، تصوره في عام 1940، في إحدى الحفلات، جالساً بين بيتي ديفيز والممثلة والمغنية الألمانية المشهورة مارلين ديتريش، المنفية هي الأخرى، التي كانت في قمة نجوميتها في هوليوود، والتي كانت لا تزال عشيقته، يتحدثون مع اوليفيادي هافيلاند، بينما يعزف الموسيقي المشهور روبين شتاين على البيانو موسيقى شوبان، وشقراء هنغارية جميلة تغازله، من دون أن تعرف شخصيته. في تلك الليلة أيضاً، وفي الساعة الرابعة صباحاً، يوصل ريمارك مارلين ديتريش إلى غرفتها، تخلع ملابسها، ثم نقرأ في دفتر يومياته: "كنت متعباً، عندي صداع، لم تكن عندي رغبة بعمل أي شيء: لا أطيق شيئاً، لست جاهزاً للمداعبة" قبلت يدها ببرودة وغادرت. شعرت بهواء بارد خلفي...".
بعدها بوقت قليل، يدخل بعلاقة مع شقراء هوليوود الأسطورية، الممثلة السويدية الأصل غريتا غاربو، ثم مع الموديل ناتاشا بالاي، والممثلة لوبه بيليز وغيرهن من نجمات هوليوود. لكنه كان يدخل إلى كل تلك العلاقات ويخرج منها بسرعة وبصورة خاطفة، كما لو كان غريباً في حياته ذاتها. كانت الحرب تطحن أوروبا، وكان الجيش الألماني يقترب من موسكو، وفي ما يخص "انتصارات" النازيين يكتب ريمارك: "كلما ابتعدت الأمور أكثر، كلما بدا الأفق دائماً اكثر عتمة وتصبح الحياة أكثر اضطراباً" تمتع بكل شيء بسرعة، قبل أن يطبق الظلام على كل شيء".
كان ريمارك رجل ليل، يزور كل ليلة على الأقل أربع حانات إلى خمس، لكي يُسكر مخاوفه الوجودية، حتى انه يغادر كزبون أخير، يقوده في الصباح الباكر عامل الحانة الى البيت. وهناك ما إن يصل مكان إقامته "الفندق"، حتى يتملكه خوف كبير من جناحه الفارغ ومن الأوراق البيض الساكنة فوق الطاولة، التي تنتظر منه أن يملأها" وفي مرات كثيرة يغادر الفندق بسرعة، الى محل عند الناصية لشراء الزهور.
كان يكره حفلات هوليوود والمحادثات الفارغة التي تدور بين أهل السينما. على رغم ذلك، فإن المرء لا يراه إلا بصحبة هؤلاء النجوم اللامعين، لأنه يحاول الهروب من كآبته: كان يصر أن يراه المرء هناك، متصنعاً الفرحة، لكي يُثبت لنفسه، وللنازيين أولاً، انهم لم يربحوا المعركة ضده "على كل المستويات"، كما ادعى المتحدث باسمهم، غوبلز: "فقط عندما يتنازل المرء عن شخصيته ويستسلم، سينتصرون عليه بالفعل".
أدوار في هوليوود
حياة ريمارك كانت حياة رفاهية حائرة وموزعة بين "كراسٍ عدة". لعبة مؤلمة على طول الخط. كل يوم في دور آخر: بلباس العاشق، بلباس الزوج - تزوج مرة واحدة من ممثلة هوليوود المشهورة باوليتا غودار في عام 1958 - وبلباس المؤلف الناجح الذي تُصور رواياته في هوليوود مباشرة. المقتطفات المنشورة قبل أيام من دفاتر يومياته، والتي نعتمد هنا عليها، تكشف الوجه الآخر من حياته: عذابات حب عانى ريمارك ذيولها وبصورة خاصة مع مارلين ديتريش وكانت تصل بعض الأحيان إلى "حرب مع الشر"، وإدمان على شرب الكحول وعناء مع كل كتاب جديد. سنوات احتاج ريمارك، من 1935 وحتى 1945، لكي ينتهي من كتابة روايته "قوس النصر"، النجاح العالمي الثاني، الذي حرره في النهاية من كابوس انه ما زال يعيش تحت ظلال حياة روايات الحرب العالمية الأولى.
فقط في زمن ما بعد الحرب بقي ريمارك كاتباً غير محبوب في ألمانيا، لأن الألمان كانوا يفضلون دفن الماضي، وليس نبشه كما كان يفعل ريمارك، ليذكرهم بما فعلوه من جرائم. روايته عن معسكر الاعتقال النازي: "الحياة المشعة" 1952، رُفضت من جانب النقاد الألمان على رغم رؤيتها الباردة بعض الشيء بالمقارنة مع ما كان يجرى حقيقة من وحشية في معسكرات الاعتقال وأفران الغاز. أما روايته "للحب وقت وللموت وقت"، الصادرة في عام 1954، والتي تتحدث عن جرائم النازيين في روسيا، فقد رُفضت حتى من جريدة "الزمن" التي تُعتبر واحدة من الجرائد الأسبوعية القليلة المحترمة في ألمانيا: "الكتاب لا يملك شرعية كافية في التعبير"، تكتب الجريدة، وهي تحاول الانتقاص منه بالحجة الغبية البسيطة التي تقول، لا يُمكن أحداً أن يكتب عن شيء لم يعشه هو بلحمه ودمه. حجة تفقد كل أساس - يستخدمها البعض في العالم العربي وفي العراق بصورة خاصة، ضد الكتاب الذين يكتبون عن الحرب من دون مشاركتهم بها - فمن يقرأ الرواية لا يستطيع أن يصدق، أن مؤلفها، لم يكن مع شخوصه هناك، لأن الرواية كُتبت بأسلوب مشوق، وأتذكر كيف أنها عندما نُشرت بترجمتها العربية في السبعينات، قرأناها بلذة واندهاش مؤثرين: مكانها إلى جانب مكان "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، في الأدب الإنساني العالمي المضاد للحرب والمدافع عن الإنسان.
لكن ظل النقد الألماني ينظر الى ريمارك، ضمن اللعبة القديمة ذاتها: كان يُعتبر "كاتباً مشاغباً"، وروائياً بأسلوب أدبي غير رقيق. لأنه لم يبحث عن البلاغة العالية والجمل الطنانة: كان يكتب عن الجنود بلغتهم "السوقية". ليست هناك لغة مثقفين يضعها المؤلف على لسان جنوده: انهم يتحدثون، بما عليهم أن يتحدثوا به وسط الخراب والدمار والوحدة. ربما لم تنقل الترجمات العربية لرواياته هذه الميزة الأساسية لروايات ريمارك عن الجنود، لأنها محملة بلغة عربية صافية، عالية النبرة: لغة مثقفين. وهذا ما تأكد لي، عند قراءتي لها بالألمانية: ريمارك كاتب جنود قبل أن يكون أي كاتب آخر.
على العموم لم يتغير الموقف من ريمارك، إلا في السنوات العشر الأخيرة. ففي عام 1989 تأسس في مدينة أوسنبروك، مدينة ولادته، "أرشيف ريمارك"، الذي بدأ بتزويد الباحثين معلومات ومساعدتهم بالحصول على طبعات أمينة من رواياته، وبكل ما يتعلق بشخصية الكاتب المشهور عالمياً وغير المعروف للكثيرين في ألمانيا. بلا مساعدة الأرشيف لم يستطع المؤلف ويليم فون شتيرن بيرغ، أن يُكمل كتابه عن حياة ريمارك، الذي عمل عليه منذ سنوات طويلة. فللمرة الأولى نقرأ سيرة حياة الكاتب، تعتمد على رسائله ودفاتر يومياته وعلى كل ما يخص المجالات الحساسة من حياة اللامنتمي الأبدي ريمارك.
...كما في العراق الآن
انه ليس من الغريب، أن تكتسب رواياته السياسية بالذات، معنى معاصراً من جديد: محلياً في ألمانيا بعد الوحدة الألمانية، وعالمياً بعد الانهيارات السياسية التي حدثت والحروب التي اندلعت في معظم بلدان العالم: انها تُذكر المرء، بأن الجلادين في الكثير من بلدان الديكتاتوريات السابقة كما يحدث في العراق في هذه الأيام استبدلوا جلودهم ولبسوا أقنعة لأدوارهم الجديدة ولا أحد يريد الحديث عن الضحايا، بل تصل الوقاحة والكوميديا السوداء، أن يجلس جلادو الأمس ذاتهم على رقاب الضحايا، ويخنقوا أصواتهم. لذلك تستعيد جملة ريمارك التي كتبها في دفتر يومياته، مجدها: "مهما حاول المرء، فإنه لن يستطيع دفن القذارة القديمة. انها دائماً تفوح بالنتانة من جديد".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.