التاريخ يعيد نفسه. أيام قليلة وتتفتح زهرة جديدة في البيت. وتضاف أنثى لسلالة آل ماهر عبدالجليل المذيوب. اخترت لها من الأسماء آمنة، طلباً للسكينة والهدوء، بعد سنوات التعب والشقاء وتيمناً بعميدة العائلة الراحلة جدتها من الأم. يكتب الناس لأبنائهم بعد القدوم ولآبائهم بعد الرحيل. وأكتب لك عشية إطلالتك المنشودة فرحاً بك وبالبشائر التي تضمينها. أكتب تحسباً من غيرتك المقبلة، بعدما تكتشفين، بأنني كتبت لأختك السابقة تحية في "الحياة" عنونتها "كرة وأحلام أميمة..."، وأكتب لأعلن للناس وعلى الملأ، ما يتهامسون به في المجالس. نعم أصبحت "أبو البنات". أحب ذلك وأعشق هذا اللقب. ستكونين ابنتي الثانية، وبؤبؤ عيني اليسرى بعدما احتلت أميمة مساحة اليمنى. لا تهتمي كثيراً بالترتيب، ولكنك أصبحت المرأة الرابعة في حياتي. والدتي "لطيفة"، أمك الحنون وأختك الكبرى أميمة. أعلم كم هو قاس تعدد الزوجات ولكن قلبي المنفطر في حبّكن يعشق تعدد الخليلات، وما أجملكن من حبيبات. ربما بدا الأمر مفارقاً، يا ابنتي، ولكن عائلتك الكبرى التي قطعت حبال الفقر والأمية بعد شقاء عقود وتتباهى بمفردات الحداثة واكسسواراتها في البيت والمكتب والشركة، ما زالت في بنيتها العقلية ومخيلتها الجمعية محافظة على "الجاهلية". تحتفل بالفتى ويصبح وجهها مسوداً اذا بشرت بأنثى. فما بالك بمن يبشر بابنتين. لم أعجب ولم أغضب من جدتك التي لا تزال تدعو لي بالولد حتى بعدما علمت طبياً بقدومك. قائلة: "لا أحد يعلم علم الله"... تفهمت رغبة والدتك في التغيير وتخوفها من حمل ثالث تنشد فيه الولد، مع ما يحمله ذلك من متاعب ومخاطر. ولكنني صعقت بالاستقبال الباهت والتفاعل الفاتر، لاطلالتك البهية لدى الأهل والأحباب ونحن في بداية الألفية الثالثة... بعضهم هوّن عليّ بقوله "البنية سعدها كبير ورزقها معها"... في حين شددت الغالبية على أهمية الفتى الذي سيحمل اسمي من بعدي... وأصر آخرون على المحصلة التقليدية "البنت شقاء من المهد الى اللحد...". لا أخفيك أنني اضطربت بعض الشيء وساورتني حمية الجاهلية. ولكن كان يكفي أن أراجع لحظات السعادة الكبرى في مرح أختك وشقاوتها، تربيتها على كتفي ضد الشدائد، لأستفيق على معاني النعمة بأن أكون أبو البنات... صرختك الأولى ستقطع سكون الليل. وإشراقتك الباسمة ستنير صباح مدينة الأحلام والضباب. لا أحد يعلم هل ستقرأين حروفك الأولى هنا. ولا شك في انك لن تصبحي يوماً إماراتية. ولكنك ستعرفين بعد حين كم أنت محظوظة هنا. الحرارة هنا قاتلة والرطوبة عالية، ولكن كم هو جميل يا ابنتي، أن تفتحي عينيك في بيت واسع وديكور أنيق، على الاخضرار الذي يحيلك الى أفق اللانهاية ما بين الشوارع والحدائق العامة... وعلى الاختيارات المفتوحة بلا عدد لمدائن الترفيه وفضاءات اللعب وجنات الطفولة السعيدة المنتشرة هنا وهناك في المدينة... فكم هو قاس يا ابنتي أن يسرق الفقر والتلوث والخواء أجمل أيام عمرك. فلحظات السعادة الطفولية هي آخر ما يبقى في المخيلة بعدما تدمر دولة الاستقلال كل شيء. أدرك معاني غياب الأطفال والأقران والجيران من حولك. فهذه مدينة كوزموبوليتية لا أحد يعرف أحداً ولا يرغب في معرفة أحد. ينتابني خوف حقيقي من الفارق الصارخ ما بين أرض الميلاد وبلاد الأجداد. ولكن الأيام علمتني أن لكل شيء ثمناً وذلك ثمن الغربة. لا أخفيك يا ابنتي أن دمعتي أصبحت سهلة، منذ اتخذت القرار الصعب بالمغادرة. فوالدك وعائلته بطبعهما محافظان... ولا نرجو في الدنيا إلا الستر، لا بهرجاً زائفاً ولا غنى فاحشاً... قاومت كثيراً تلك الرغبة في الهجرة وتحايلت على ساعات اليوم ووصلت الليل بالنهار لأحافظ على معاني الاحترام. ولكنك بمرور الأيام وتوالي المعوقات تشعر بأن بلدك الذي علمك وربّاك وحقق خطوات عملاقة على درب التحديث الاقتصادي والحداثة المجتمعية، سرق منك الأمل في المستقبل وتركك عارياً أمام الاختيارات سوى الصعود لقمة الجبل أو قارب النجاة في بحر الظلمات والهجرة السرية، وتدرك كم أنت محظوظ بأن يفتح لك باب جديد. جاءت أختك في الفاتح من آب أغسطس، وتحلين في العشر الأواخر من تموز يوليو شهر الثورات وأعياد الاستقلال. كنت أضحك في العلن عندما تنطق أختك بأسماء بوش وشارون وبن لادن وصدام بسهولة تحسد عليها، ولكنني أبكي في سري لابنة لم تتجاوز زهرتها الرابعة وقد شهدت حروب أفغانستان والعراق والإرهاب... أعلم بأن هنالك حروباً أخرى مقبلة ومن جديد في ليل الأمة، ولكنني أشعر بتفاؤل أحسد عليه. يكفي أن تعلمي بأن النسبة الأعلى في نجاحات الجامعات العربية هي للنساء، وبأنهن قطعن خطوات مهمة على درب المعرفة والعلم في تخصصات دقيقة من الرياضيات الى الهندسة. وبأن بعضهن صرن أسماء علم في دنيا المال والأعمال، وأخريات توشحن بالذهب في المحافل الرياضية الدولية والأولمبية. يمتلكن الفضاء الأوسع في دنيا الإعلام وساحات الثقافة والطرب، ويخضن معارك الحريات في جميع المستويات... أضحك كثيراً من جهلهم وأسعد أكثر بلقب "أبي البنات".