تنوع أحيائي    د. رائد الحارثي: الذكاء الاصطناعي هو الحل للجدولة    "منشآت" تختتم أسبوع التمويل بمناقشة الفرص والحلول التمويلية لروّاد الأعمال    الهلال «العالمي» يهزم الطائي بثلاثية ويقترب من «الدوري الذهبي»    الهلال يتفنن بثلاثية أمام الطائي    السودان.. ستة أسابيع قبل موسم العجاف    مشروعات عصرية    ماذا بعد طلب «الجنائية» توقيف قادة في إسرائيل وحماس؟    مجدٌ يعانق النجوم    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    يونايتد المتعثر يقف أمام سيتي الطامح لكتابة المزيد من التاريخ    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    الراجحي يتحدى مرتفعات «باها اليونان» في كأس العالم    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    إثراء يختتم قمة الاتزان الرقمي "سينك" بنسختها الثانية    جهاز HUAWEI MateBook X Pro.. الجهاز القوي بتصميم أنيق ووزن خفيف    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    موعد احتفال الهلال بلقب دوري روشن    انطلاق الهايكنج في الحريق    السعودية تدعم «الإنزال الجوي الأردني» لإغاثة الفلسطينيين في غزة    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    مستشفى الحرجة يُنظّم فعالية "التوعية عن ارتفاع ضغط الدم"    عرض ضخم من الهلال لجوهرة البرتغال    وزير الخارجية يستقبل وزير خارجية النمسا    «البيئة»: السعودية تستهدف إنتاج 16.2 مليون متر مكعب من المياه المحلاة يوميًا    علامة HONOR تكشف عن بنية الذكاء الاصطناعي المكونة من 4 مستويات وتمضي قدماً مع Google Cloud من أجل مزيد من تجارب الذكاء الاصطناعي في VivaTech 2024    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    الداخلية: دخول مكة والبقاء فيها ممنوعان للزائرين    إصدار 54 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال مارس 2024    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    تخريج 700 مجند من دورة «الفرد»    مغني الراب.. راح ضحية استعراض مسدسه    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    جنة الأطفال منازلهم    لقاء علمي يستعرض تجربة بدر بن عبدالمحسن    فواز.. أكتب له ويكتب لي    لا فيك ولا في الحديد    واتساب يتيح قفل المحادثات على الأجهزة المتصلة    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    د. خوقير يجمع رجال الإعلام والمال.. «جمعة الجيران» تستعرض تحديات الصحافة الورقية    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    229 مشروعاً تنموياً للبرنامج السعودي في اليمن    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    ثلاثي روشن يدعمون منتخب البحارة و رونالدو: فخور بتواجدي مع البرتغال في يورو 2024    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحدث خطة سلام : خريطة طريق الى ماذا والى أين ؟
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 2003

في اوائل ايار مايو، بينما كان كولن باول يقوم زيارته الى اسرائيل والاراضي المحتلة، اجتمع مع محمود عباس، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، وبشكل منفصل مع مجموعة من نشطاء المجتمع المدني، من ضمنهم حنان عشراوي ومصطفى البرغوثي. وحسب البرغوثي فإن باول عبّر عن دهشته وامتعاضه الى حد ما من الخرائط المعدة بالكومبيوتر للمستوطنات والجدار الذي يبلغ ارتفاعه 8 امتار، والعشرات من نقاط التفتيش التابعة للجيش الاسرائيلي التي تجعل الحياة بالغة الصعوبة والمستقبل قاتماً للغاية بالنسبة الى الفلسطينيين. تبدو رؤية باول للواقع الفلسطيني، في احسن الاحوال، ناقصة على رغم موقعه المهيب، لكنه طلب بالفعل تزويده وثائق ليأخذها معه، والأهم من ذلك انه طمأن الفلسطينيين الى ان جهداً يماثل ما بذله بوش على صعيد العراق سيكرّس الآن لتطبيق خريطة الطريق. وجرى تأكيد النقطة ذاتها في الايام الاخيرة من ايار مايو من جانب بوش ذاته في سياق مقابلات أجرتها معه وسائل الاعلام العربية، ولو أنه أكد كعادته على عموميات بدلاً من أي شيء محدد. واجتمع بوش مع القادة الفلسطينيين والاسرائيليين في الاردن، وقبل ذلك مع ابرز الزعماء العرب، باستثناء الرئيس السوري بشار الاسد، بالطبع. هذا كله هو جزء مما يبدو الآن اشبه باندفاعة اميركية كبيرة الى امام. وكون ارييل شارون قبل خريطة الطريق مع تحفظات تكفي لنسف موافقته يبدو نذيراً لدولة فلسطينية لا تملك مقومات البقاء.
يُفترض ان تتحقق رؤية بوش لهذه الكلمة نبرة حالمة غريبة في ما يفترض ان يكون خطة سلام عملية ومحددة بوضوح وذات مراحل ثلاث عبر سلطة يعاد هيكلتها، وازالة كل اشكال العنف والتحريض ضد الاسرائيليين، وتنصيب حكومة تلبي احتياجات اسرائيل و"الرباعية" الولايات المتحدة والامم المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا التي أعدت الخطة. وتتعهد اسرائيل من جانبها بتحسين الوضع الانساني، وتخفيف القيود ورفع حظر التجول، على رغم عدم وجود تحديد للمكان والزمان. وبحلول حزيران يونيو 2003، يفترض ان تتضمن "المرحلة الاولى" ايضاً تفكيك نقاط الاستيطان غير الشرعية التي اقيمت منذ آذار مارس 2001، على رغم ان لا شيء يذكر عن ازالة بقية المستوطنات، التي تضم 200 الف مستوطن على الضفة الغربية وغزة، ناهيك عن ال200 الف مستوطن اضافي في القدس الشرقية المحتلة. "المرحلة الثانية"، التي توصف بأنها مرحلة انتقالية تمتد من حزيران يونيو الى كانون الاول ديسمبر 2003، ستركز الاهتمام، على نحو غريب نوعاً ما، على "خيار اقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود موقتة ورموز سيادية" - من دون تحديد أي شيء من ذلك - لتتوّج بمؤتمر دولي يصادق ثم "ينشىء" دولة فلسطينية، تكون مرة اخرى ذات "حدود موقتة". "المرحلة الثالثة" يفترض ان تنهي النزاع كلياً، ايضاً عبر مؤتمر دولي ستكون مهمته تسوية القضايا الاكثر تعقيداً: اللاجئين، المستوطنات، القدس، الحدود. ودور اسرائيل في هذا كله هو ان تتعاون، فيما يُلقى العبء الفعلي على الفلسطينيين، الذين يتعيّن عليهم ان يواصلوا تنفيذ التزاماتهم بتعاقب سريع، بينما يبقى الاحتلال العسكري في مكانه تقريباً، على رغم تخفيفه في المناطق الرئيسية التي تعرضت الى الغزو خلال ربيع 2002. ولا تتضمن الخطة اي عنصر مراقبة، ويترك التماثل المضلل لهيكليتها لاسرائيل الى حد كبير السيطرة على ما سيحدث. اما بالنسبة الى حقوق الانسان للفلسطينيين، التي تعاني حالياً القمع اكثر من التجاهل، فإن الخطة لا تحتوي على أي معالجة محددة: يعود الى اسرائيل، كما يبدو، استمرار الوضع مثل السابق أم لا.
للمرة الاولى، كما يقول جميع المعلقين المعتادين، يعرض بوش أملاً حقيقياً لتسوية في الشرق الاوسط. ولمحت تسريبات محسوبة من البيت الابيض الى لائحة عقوبات محتملة ضد اسرائيل اذا بالغ شارون في تعنته، لكن ذلك نُفي بسرعة ثم اختفى. وهناك اجماع متزايد في وسائل الاعلام تُعرض بموجبه محتويات الوثيقة - الكثير منها مأخوذ من خطط سلام سابقة - باعتبارها نتيجة للثقة التي يشعر بها بوش إثر انتصاره في العراق. وكما هي حال معظم النقاشات ذات الصلة بالنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، فان الكليشيهات المتلاعب بها والافتراضات المبالغ بها، وليس حقائق النفوذ والتاريخ الحي، هي التي تصوغ نسق الخطاب. ويُنحّى المشككون والنقاد جانباً باعتبارهم مناهضين لاميركا، في الوقت الذي دان فيه جزء كبير من القيادة المنظمة لليهود خريطة الطريق باعتبار انها بحاجة الى كثرة كثيرة من التنازلات الاسرائيلية. لكن الصحافة السائدة تواصل تذكيرنا بأن شارون تحدث عن "احتلال"، وهو ما لم يعترف به اطلاقاً حتى الآن، واعلن في الواقع نيته ان ينهي حكم اسرائيل المفروض على 5،3 مليون فلسطيني. لكن هل هو مكترث حقاً بما ينوي انهاءه؟ كتب جدعون ليفي المعلق في "هآرتس" في 1 حزيران يونيو ان شارون، مثل معظم الاسرائيليين، لا يعرف شيئاً "عن الحياة في ظل حظر التجول في تجمعات السكان التي تخضع للحصار منذ سنوات. ماذا يعرف عن الاذلال عند نقاط التفتيش، او عن إجبار اشخاص على السفر على دروب الحصى والطين، معرضين حياتهم للخطر، كي يوصلوا امرأة توشك ان تلد الى مستشفى؟ عن الحياة على حافة مجاعة؟ عن بيت مهدّم؟ عن اطفال يرون آباءهم وامهاتهم يتعرضون للضرب والاذلال في منتصف الليل؟".
ومن القضايا الاخرى التي اُغفلت بشكل مثبّط من خريطة الطريق "الجدار العازل" الضخم الذي يجري تشييده الآن في الضفة الغربية من قبل اسرائيل: 347 كيلومتراً من الكونكريت الذي يمتد من الشمال الى الجنوب، نُصب منه بالفعل 120 كيلومتراً. ويبلغ ارتفاعه 25 قدماً وسمكه عشرة اقدام، وتقدّر كلفته ب6،1 مليون دولار لكل كيلومتر. والجدار لا يفصل فحسب اسرائيل عن دولة فلسطينية مفترضة على اساس حدود 1967: انه يضم في الواقع مساحات جديدة من اراضي فلسطين، تمتد احياناً خمسة او ستة كيلومترات. والجدار محاط بخنادق واسلاك كهرباء وخنادق مائية، وهناك ابراج مراقبة على مسافات منتظمة. وبعد عقد تقريباً على انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، يرتفع هذا الجدار العنصري البشع من دون ان يرتفع صوت يذكر من غالبية الاسرائيليين او حلفائهم الاميركيين الذين سيدفعون، شاؤوا أو أبوا، معظم كلفته. ويعيش سكان بلدة قلقيلية الفلسطينيون البالغ عددهم 40 ألف شخص في منازلهم على جانب من الجدار، بينما تقع الارض التي يزرعونها ويعيشون منها على الجانب الآخر منه. ويقدّر انه عندما يُنجز الجدار - فيما تواصل الولايات المتحدة واسرائيل والفلسطينيون على الارجح الجدل بشأن قضايا اجرائية على مدى شهور من غير انقطاع - سيكون حوالي 300 الف فلسطيني قد فُصلوا عن اراضيهم. تلزم خريطة الطريق الصمت عن هذا كله، كما هي الحال ايضاً بشأن موافقة شارون اخيراً على جدار على الجانب الشرقي للضفة الغربية، الذي سيقلّص، في حال انشائه، من حجم الاراضي المتاحة للدولة التي يحلم بها بوش الى حوالي 40 في المئة من المنطقة. وهذا هو ما كان يخطط له شارون طوال الوقت.
يكمن تفسير غير معلن وراء موافقة اسرائيل المقترنة بتعديلات كثيفة على الخطة والتزام الولايات المتحدة الواضح بها: النجاح النسبي للمقاومة الفلسطينية. ويصح هذا بغض النظر عن الموقف من بعض وسائلها وشجبها، وكلفتها الباهظة، والخسائر الجسيمة التي ألحقتها بجيل آخر من الفلسطينيين الذين لم يستسلموا كلياً في وجه التفوق الساحق للقوة الاسرائيلية - الاميركية. وقُدمت انواع الاسباب شتى لظهور خريطة الطريق: ان 56 في المئة من الاسرائيليين يؤيدونها، وأن شارون رضخ أخيراً للواقع الدولي، وأن بوش يحتاج الى غطاء عربي - اسرائيلي لمغامراته العسكرية في اماكن اخرى، وان الفلسطينيين ثابوا اخيراً الى رشدهم وقدّموا ابو مازن الاسم الاكثر شيوعاً لمحمود عباس، وهلم جراً. بعض هذا صحيح، لكنني ما زلت اجادل انه لولا حقيقة رفض الفلسطينيين العنيد القبول بأنهم "شعب مهزوم"، كما وصفهم اخيراً رئيس الاركان الاسرائيلي، لما كانت هناك خطة سلام. مع ذلك، يخطىء كل من يعتقد ان خريطة الطريق تطرح اي شيء يقرب من تسوية او يعالج القضايا الاساسية. فهي، مثل الكثير من خطاب السلام السائد، تلقي الحاجة الى ضبط النفس والتخلي عن العنف والتضحية بالكامل على اكتاف الفلسطينيين، وتتجاهل بذلك ثقل تاريخ الفلسطينيين واهميته المطلقة. فقراءة خريطة الطريق تعني ان يصطدم المرء بوثيقة تقع خارج سياق الزمان والمكان وتتغافل عنهما.
خريطة الطريق، بمعنى آخر، ليست خطة للسلام بمقدار ما هي خطة للتهدئة: انها تدور حول وضع حد لفلسطين كمشكلة. من هنا تكرار تعبير "الاداء" في خطاب الوثيقة الجاف. أي، بكلمة اخرى، كيف يُتوقع ان يتصرف الفلسطينيون، بالمعنى الاجتماعي تقريباً للكلمة. لا عنف، ولا احتجاج، ومزيداً من الديموقراطية، وزعماء ومؤسسات افضل، وكل ذلك بالاستناد على فكرة ان المشكلة في الاساس تتمثل في ضراوة المقاومة الفلسطينية، وليس الاحتلال الذي تسبب في نشوئها. ولا يتوقع اي شيء مماثل اطلاقاً من اسرائيل باستثناء ان المستوطنات الصغيرة التي أشرت اليها أعلاه، التي تعرف ب"نقاط استيطان غير شرعية" وهو تصنيف جديد كلياً يلمح الى ان بعض الكيانات المزروعة في اراضي فلسطين هي شرعية، يجب ان يجري التخلي عنها، وان "تُجمّد" المستوطنات الكبيرة، نعم، لكن لن يجري ازالتها او تفكيكها. ولا ترد أي كلمة عما عاناه الفلسطينيون منذ 1948، ومرة اخرى منذ 1967، على ايدي اسرائيل والولايات المتحدة. ولا شيء عن الغاء تنمية الاقتصاد الفلسطيني كما تصف ذلك الباحثة الاميركية سارة روي في كتاب يصدر قريباً "العلم والسياسة: مختارات من اعمال سارة روي عن التجربة الفلسطينية الاسرائيلية 1985-2003". هدم المنازل، واقتلاع الاشجار، وخمسة آلاف سجين او اكثر، وسياسة الاغتيالات المستهدفة، وعمليات الاغلاق منذ 1993، ودمار البنى التحتية بالجملة، والعدد المروع للقتلى والمشوهين - هذا كله واكثر، يمر من دون كلمة.
ان العدوان الوحشي والموقف الاحادي المتغطرس للفريقين الاميركي والاسرائيلي معروفان بالفعل. أما الفريق الفلسطيني فإنه لا يبعث أي ثقة تُذكر، اذ يتألف من عناصر مستهلكة وهرِمة من اعوان عرفات. وبالفعل، يبدو ان خريطة الطريق منحت ياسر عرفات فرصة اخرى للحياة، على رغم كل المساعي المدروسة من جانب باول ومساعديه لتجنب زيارته. فهو لا يزال متحكماً بمجريات الامور على رغم سياسة اسرائيل الغبية بالسعي الى اذلاله بمحاصرته في مقر قُصف بقوة. وهو ما يزال الرئيس المنتخب لفلسطين، ويمسك بيديه الخيوط التي تتحكم بكيس المال الفلسطيني لم يعد الكيس منتفخاً. اما بالنسبة الى مكانته، فلا أحد من فريق "الاصلاح" الحالي الذي يتألف من اعضاء الفريق القديم بعد تغيير مواقعهم، باستثناء اضافتين او ثلاث اضافات جديدة مهمة يمكن ان يضاهي شخصية الرجل الكهل الجذابة ونفوذه.
لنأخذ اولاً أبو مازن. التقيته للمرة الاولى في آذار مارس 1977 في اول اجتماع احضره للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة. كانت كلمته الأطول، والقاها بالاسلوب الوعظي الذي لا بد انه اتقنه اولاً كمعلم مدرسة ثانوية في قطر، وبيّن للنواب الفلسطينيين المجتمعين الفروقات بين الصهيونية والمعارضة الصهيونية. وكانت مداخلة جديرة بالانتباه لأن معظم الفلسطينيين لم تكن لديهم اي فكرة في تلك الايام بأن اسرائيل لم تكن تتألف من صهاينة اصوليين كان كل عربي يبغضهم، بل تضم ايضاً صنوفاً شتى من دعاة السلام والنشطاء. واذا تأملنا في احداث الماضي، سنرى ان خطاب ابو مازن اطلق حملة منظمة التحرير الفلسطينية لتنظيم اجتماعات، كان معظمها سرياً، بين فلسطينيين واسرائيليين اجروا حوارات طويلة في اوروبا حول السلام ومارسوا تأثيراً كبيراً الى حد ما في مجتمعاتهم بخلق قاعدة التأييد التي جعلت اتفاق اوسلو ممكناً.
مع ذلك، لم يشك احد في ان عرفات كان اعطى موافقته على كلمة أبو مازن والحملة اللاحقة، التي كلفت رجالاً شجعاناً مثل عصام السرطاوي وسعيد حمامي حياتهم. وبينما جاء المشاركون الفلسطينيون من قلب المشهد السياسي الفلسطيني أي "فتح"، كان الاسرائيليون مجموعة مهمّشة صغيرة من مؤيدي السلام المنبوذين الذين كانت شجاعتهم موضع تقدير لهذا السبب بالذات. وخلال السنوات التي امضتها منظمة التحرير في بيروت بين عامي 1971 و1982، كان ابو مازن موجوداً في دمشق، لكنه انضم الى عرفات المنفي وموظفيه في تونس على امتداد العقد التالي. وقد رأيته هناك مرات عدة ولفت انتباهي مكتبه الحسن التنظيم، واسلوبه البيروقراطي الهادىء، واهتمامه الواضح بأوروبا والولايات المتحدة كمجالين يمكن للفلسطينيين فيهما ان ينجزوا عملاً مفيداً بالترويج للسلام مع الاسرائيليين. وبعد مؤتمر مدريد في 1991، قيل انه جمع بين موظفين تابعين لمنظمة التحرير ومثقفين مستقلين في اوروبا وحوّلهم الى فرق لإعداد ملفات تفاوض حول مواضيع مثل المياه واللاجئين والديموغرافيا والحدود، قبل ما اصبح يُعرف لاحقاً بلقاءات اوسلو السرية في 1992 و1993، على رغم انه، على حد علمي، لم يُستخدم اي من الملفات، ولم يشارك اي من الخبراء الفلسطينيين بشكل مباشر في المحادثات، ولم يؤثر اي من نتائج هذا البحث في الوثائق النهائية التي صدرت.
في اوسلو، حشد الاسرائيليون مجموعة من الخبراء المدعومين بخرائط ووثائق واحصاءات وما لا يقل عن 17 مسودة مسبقة لما سيوقع عليه الفلسطينيون في النهاية، بينما قصر الفلسطينيون للأسف مفاوضيهم على ثلاثة رجال مختلفين كلياً من منظمة التحرير، لا أحد منهم يعرف الانكليزية او يملك خلفية في التفاوض الدولي او اي نوع آخر سواه. ويبدو ان عرفات كان يهدف من ارسال فريق بشكل اساسي الى ان يُبقي نفسه في العملية، خصوصاً بعد خروجه من بيروت وقراره الكارثي بالوقوف الى جانب العراق خلال حرب الخليج في 1991. واذا كانت هناك اهداف اخرى في باله، فإنه لم يُعدّ لها بشكل فاعل، كما كانت حاله دائماً. وفي مذكرات ابو مازن "عبر القنوات السرية: الطريق الى اوسلو"، 1995، وفي تقارير محكية اخرى عن محادثات اوسلو، يشار الى مساعد عرفات باعتباره "مهندس" الاتفاق، على رغم انه لم يغادر تونس اطلاقاً. ويذهب ابو مازن الى حد القول بانه احتاج الى سنة بعد احتفالات واشنطن حيث ظهر الى جانب عرفات ورابين وبيريز وكلينتون كي يقنع عرفات بأنه لم يحصل على منزلة او مكسب من اوسلو! مع ذلك، يؤكد معظم التقارير عن محادثات السلام حقيقة ان عرفات كان يحرّك كل الخيوط. لا عجب اذاً ان تؤدي مفاوضات اوسلو الى جعل الوضع الاجمالي للفلسطينيين اكثر سوءاً بكثير. ودأب الفريق الاميركي بقيادة دنيس روس، الموظف السابق في اللوبي الاسرائيلي - وهي وظيفة عاد اليها الآن - على تأييد الموقف الاسرائيلي الذي انطوى، بعد عقد كامل من المفاوضات، على إعادة 18 في المئة من الاراضي المحتلة للفلسطينيين وفق شروط غير مؤاتية الى حد كبير، بترك الجيش الاسرائيلي مسؤولاً عن الأمن والحدود والمياه. لذا كان من الطبيعي ان يرتفع عدد المستوطنات الى اكثر من الضعف.
ومنذ عودة منظمة التحرير الفلسطينية الى الاراضي المحتلة في 1994، بقي ابو مازن شخصية من الصف الثاني، يُعرف عالمياً ب"مرونته" مع اسرائيل، وتبعيته لعرفات، وافتقاره التام لأي قاعدة سياسية منظمة، على رغم انه احد مؤسسي "فتح" وعضو في لجنتها المركزية وامينها العام منذ وقت طويل. وهو على حد علمي لم يُنتخب ابداً الى اي شيء، وبالتأكيد لم يُنتخب الى المجلس التشريعي الفلسطيني. وتفتقر منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بقيادة عرفات الى الشفافية. فلا يُعرف شيء يذكر عن الطريقة التي اُتخذت بها القرارات، او كيف تُنفق الاموال، واين هي، ومن يتمتع الى جانب عرفات بدور في اتخاذ القرار. لكن الجميع يتفقون بأن عرفات لا يزال الشخصية المحورية على كل المستويات. ولهذا السبب يرى معظم الفلسطينيين ان ترقية ابو مازن الى مكانة رئيس الوزراء المسؤول عن الاصلاح، التي تُسعد كثيراً الاميركيين والاسرائيليين، هي اشبه بنكتة، وانها الوسيلة التي يلجأ اليها الرجل الهرم للتمسك بالسلطة بابتكار اداة تحايل جديدة. وينظر الى ابو مازن عموماً على انه شخصية باهتة ولا يحمل اي افكار واضحة خاصة به، سوى انه يريد ان يرضي الرجل الابيض.
ومثل عرفات، لم يُقم ابو مازن ابداً في اي مكان خارج منطقة الخليج وسورية ولبنان وتونس، والآن فلسطين المحتلة. وهو لا يعرف أي لغات عدا العربية، ولا يُعد متحدثاً يجيد الخطابة او يفرض حضوره في مناسبات عامة. وبالمقارنة معه، يبدو محمد دحلان، المسؤول الجديد للأمن من غزة - الشخصية الاخرى التي جرى الترويج لها كثيراً ويبني الاسرائيليون والاميركيون عليها آمالاً عريضة - اكثر شباباً وذكاءً وقاسياً تماماً. وخلال السنوات الثماني التي ادار خلالها احدى منظمات الامن ال14 او 15 التابعة لعرفات، كانت غزة تُعرف ب"دحلانستان". وقد استقال العام الماضي، لكن سرعان ما اُوكلت اليه مهمة "رئيس الامن الموحد" من جانب الاوروبيين والاميركيين والاسرائيليين، على رغم انه هو ايضاً كان دائماً احد رجال عرفات. ويُتوقع منه في الوقت الحاضر ان يتخذ اجراءات صارمة ضد "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، وهي احد المطالب الاسرائيلية المتكررة التي يكمن وراءها الأمل في ان يكون هناك ما يشبه حرب اهلية فلسطينية، ويتوق اليها العسكريون الاسرائيليون.
في كل الاحوال، يبدو واضحاً لي انه مهما كان "اداء" ابو مازن مثابراً ومرناً، فإنه سيكون مقيداً بثلاثة عوامل. احدها بالطبع هو عرفات ذاته، الذي لا يزال يسيطر على "فتح" التي هي ايضاً، نظرياً، قاعدة نفوذ ابو مازن. العامل الآخر هو شارون الذي يُفترض ان تقف الولايات المتحدة وراءه الى نهاية الشوط، وفي لائحة من 14 "ملاحظة" حول خريطة الطريق نُشرت في صحيفة "هآرتس" في 27 ايار مايو الماضي، كشف شارون القيود الصارمة جداً على اي شيء يمكن اعتباره مرونة من جانب اسرائيل. العامل الثالث هو بوش وبطانته. فانطلاقاً من الطريقة التي تعاملوا بها مع افغانستان والعراق ما بعد الحرب، لا يملك هؤلاء الرغبة او الجدارة لعملية بناء الأمة التي ستكون مطلوبة بالتأكيد. وقد شرعت قاعدة بوش المسيحية اليمينية في الجنوب بالفعل في الاحتجاج بصخب على تسليط ضغوط على اسرائيل، وانطلق اللوبي الاميركي الموالي لاسرائيل ذو النفوذ الكبير، مع تابعه الطيّع المتمثل بالكونغرس الاميركي الذي تحتله اسرائيل، متحركاً ضد اي تلميح باستخدام القسر ضد اسرائيل، على رغم ان ذلك سيكون حاسماً الآن مع بدء مرحلة نهائية.
قد أبدو متفائلاً على نحو مفرط اذا قلت ان الآفاق ليست قاتمة اطلاقاً، حتى اذا كانت الآفاق القريبة كالحة من منظور فلسطيني. اعود الى العناد الذي اشرت اليه اعلاه، وحقيقة ان المجتمع الفلسطيني - المدمّر، والمهدم تقريباً، والبائس من نواحٍ كثيرة - يشبه طائر الدجّ في رواية هاردي، نافشاً ريشه بعد اطلاق النار عليه، اذ لا يزال قادراً على ان يبسط روحه الوثابة على الكآبة المتزايدة. لا يوجد مجتمع عربي آخر يماثله في عناده وجموحه، ولا نظير لما يحفل به من مبادرات مدنية واجتماعية ومؤسسات فاعلة بما في ذلك معهد موسيقي نابض بالحيوية على نحو رائع. وعلى رغم ان فلسطينيي الشتات غير منظمين في الغالب ويعيشون في بعض الحالات حياة بائسة من النفي وعدم الانتماء الى دولة، فإن المشاكل المتعلقة بمصيرهم الجماعي لا تزال تحرّكهم بقوة، وكل من اعرفه يحاول دائماً بطريقة ما ان يخدم القضية. ولم يجد سوى جزء ضئيل جداً من هذه الطاقة سبيله الى السلطة الفلسطينية، التي بقيت باستثناء شخصية عرفات المتناقضة الى حد كبير ذات تأثير هامشي بالنسبة الى المصير المشترك. وبحسب استطلاعات للرأي اُجريت اخيراً فإن "فتح" و"حماس" يتقاسمان بينهما تأييد حوالي 54 في المئة من الناخبين الفلسطينيين، فيما تتوزع ال55 في المئة المتبقية على تشكيلات سياسية مختلفة تماماً ذات آفاق مشجعة اكثر بكثير.
ولفت احدى هذه التشكيلات انتباهي بشكل خاص لأهميتها وربطتُ نفسي بها نظراً الى انها الوحيدة ذات القاعدة الشعبية وتنأى بنفسها بعيداً عن الاحزاب الدينية وسياساتها الطائفية، وعن النزعة القومية التقليدية التي يمثلها نشطاء "فتح" القدامى وليس الشباب التابعين لعرفات. وقد اُطلق عليها اسم "المبادرة السياسية الوطنية"، والشخصية الرئيسية فيها هو مصطفى البرغوثي، الطبيب الذي تلقى تعليمه في موسكو وكان عمله الاساسي مدير "لجنة القرى للاغاثة الطبية" المثيرة للاعجاب، التي وفرت الرعاية الطبية لأكثر من 100 الف فلسطيني في المناطق الريفية. والبرغوثي، الناشط السابق في الحزب الشيوعي، منظم وقائد يتحدث بنبرة خافتة، اجتاز مئات العقبات المادية التي تعترض حركة الفلسطينيين او سفرهم ليحشد تقريباً كل فرد ومنظمة مستقلة ذات شأن وراء برنامج سياسي يعد بالاصلاح الاجتماعي بالاضافة الى التحرر متجاوزاً الانتماءات العقائدية. وعمل البرغوثي، متحرراً على نحو فريد من اللغة الطنانة التقليدية، مع اسرائيليين واوروبيين واميركيين وافارقة واسيويين وعرب لبناء حركة تضامن كفوءة تمارس التعددية والتعايش اللذين تبشر بهما. ولا ترفع "المبادرة السياسية الوطنية" يديها بوجه نزعة العسكرة السائبة للانتفاضة. انها تعرض برامج تدريب للعاطلين عن العمل وخدمات اجتماعية للمحرومين انطلاقاً من ان ذلك يستجيب للظروف الحالية والضغوط الاسرائيلية. وقبل كل شيء تسعى "المبادرة السياسية الوطنية"، التي توشك ان تصبح حزباً سياسياً منظماً، الى تعبئة المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي المنفى من اجل انتخابات حرة: انتخابات اصيلة تمثل مصالح الفلسطينيين، بدلاً من مصالح اسرائيل او الولايات المتحدة. هذا الاحساس بالاصالة هو ما يبدو مفقوداً في الطريق الذي اُختطّ لأبو مازن.
الرؤية هنا ليست دولة موقتة مصطنعة على 40 في المئة من الارض، مع التخلي عن اللاجئين واحتفاظ اسرائيل بالقدس، بل ارض ذات سيادة تُحرّر من الاحتلال العسكري عبر تحرك جماهيري يشمل العرب واليهود حيثما امكن ذلك. ولأن "المبادرة السياسية الوطنية" حركة فلسطينية اصيلة، اصبح الاصلاح والديموقراطية جزءاً من ممارستها اليومية. وقد انتمى اليها بالفعل المئات من ابرز النشطاء والمستقلين في فلسطين، وعقدت اجتماعات تنظيمية، وفي النية عقد المزيد منها في الخارج وفي فلسطين، على رغم الصعوبات الفظيعة التي تسببها قيود اسرائيل على حرية الحركة. ويشعر المرء ببعض العزاء اذ يرى، في الوقت الذي تتواصل فيه المفاوضات والمحادثات الرسمية، ان هناك مجموعة بدائل غير رسمية لم يتم احتواءها، وتمثل "المبادرة السياسية الوطنية" وحركة تضامن عالمية متنامية في الوقت الحاضر المكونات الرئيسية لهذه البدائل.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.