يروي الشاعر السوري ممدوح عدوان، بأسلوبه الطريف والساخر، انه التقى بمحمود درويش قبل اكثر من عقدين من الزمن حيث بادره الأخير بالسؤال: "ماذا تكتب الآن؟" وحين اجابه ممدوح انه يعمل على قصيدة طويلة لا يستطيع إكمالها، علق درويش ممازحاً: "يبدو انك بحاجة الى شهيد اضافي لكي تكمل قصيدتك". وكما صرخ ارخميدس "وجدتها!" لدى اكتشافه قانون قياس حجم جسم ما في الماء فعل ممدوح الشيء ذاته بعد ان استوقفه التعليق اللماح لصديقه الشاعر وسارع الى إنهاء قصيدته الطويلة عن حصار بيروت واضعاً لها العنوان التالي "قصيدة ينقصها شهيد". يمكن هذه الحادثة التي تضافر على صوغها شاعران مرموقان ان تصنف في باب الطرائف الأدبية لكنها تنفتح في الوقت ذاته على دلالات مأسوية لا تتصل بالحدث العراقي وحده بل بكل ما سبق هذا الحدث منذ اكثر من نصف قرن. فغالبية شعرائنا وكتّابنا العرب يتبرأون على المستوى النظري من القصيدة "الوطنية" المفعمة بالرثاء او الوعيد او الحماسة الانفعالية، كما ينفضون ايديهم من كل ما يربطهم بالأرض او يصلهم بالواقع او يدمغ كتابتهم بشبهة التأريخ والتسجيل وردود الأفعال. لكنهم ما ان تشتعل الحروب وتذر الأحداث قرنها حتى تأخذ منهم الحماسة كل مأخذ ويعمدوا الى الخروج من "بياتهم الشتوي" مدبجين على ضوء الصدمة المباغتة عشرات القصائد والخطب والمقالات. ليس ادل على ما اقوله مما هو قائم الآن على صفحات الجرائد والمجلات والملاحق الأدبية التي تغص بالقصائد والمقالات والتعليقات الأدبية المختلفة. فما أن انفتحت فوهة الجحيم العراقي المثقل بالرعب والدمار ورائحة الموت حتى انفتحت هوة مماثلة من الحبر السيال والصخب الكلامي الجياش. كذلك كان الأمر عند النكبة وحرب السويس وثورة الجزائر وهزيمة حزيران يونيو وانتفاضة فلسطين واحتلال الجنوب اللبناني وتحريره. كأن الحبر عندنا يستسقي الدم المراق وحده ويحول البيوت المهدمة والجثث المبقورة الى منصات للكتابة او كأننا نحتاج الى مذبحة بحجم ما يدور في العراق الآن لكي نعثر على ما يدفع القصيدة الى السطح بعد رقاد طويل. ليست قصيدة الحرب والتحريض واستنهاض المشاعر الوطنية مقتصرة بالطبع على العرب وحدهم من بين سائر الشعوب والأمم. فديوان الشعر العالمي يغص بهذا النوع من القصائد الذي يرافق في العادة الأحداث الجلل سواء تمثلت هذه الأحداث بحروب التحرير ودفع الغزاة والمحتلين او الحروب الأهلية الدامية. يكفي ان نذكّر في هذا السياق بالقصائد المدججة بالغضب التي كتبها شعراء عالميون من امثال نيرودا ولوركا وأراغون وايلوار وناظم حكمت ويانيس ريتسوس وغيرهم. لكن ما بقي من نتاج هؤلاء الشعراء، باعتراف معظمهم في ما بعد، لم يكن القصائد التي كتبت على عجل تحت وطأة الانفعال العارم وضجيج المعارك المحتدمة بل القصائد التي تنفذ الى اعماق الإنسان وتميط اللثام عن تشققات الروح وعذابات الأسئلة الوجودية المقلقة والرعب الذي يتهدد الحيوات والمصائر وينخرها في العمق. على ان مأزق الشعر العربي يتجاوز مثيله عند الشعوب الأخرى لأنه يتعلق بنظرة الجماعة الى الشعر وبالمفهوم الوظيفي للكتابة. فطالما كان الشاعر صناجة القوم ومغنيهم وحادي احزانهم وأفراحهم ومؤرخ هزائمهم وانتصاراتهم. وقد ذهب الكثير من الرواة الى ان القبائل العربية في العصور المبكرة كانت تفرح بنبوغ الشاعر اكثر مما تفرح بتألق الفارس واشتداد عوده. فالثاني تمكن صناعته بالتمرس والمثابرة في اي وقت بينما تنهض الفطرة وحدها باختيار الأول وتتويجه قبل ان تعهد إليه الجماعة بإعلاء شأنها وتغذية مخيلتها وسرد ما تجترحه من بطولات. لكن الشعر الذي حرمته التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة وتبدل المفاهيم من دوره السابق ما يزال الكثيرون ينظرون إليه بالطريقة القديمة نفسها وما يزال الشاعر العربي مطالباً، كما من قبل، بأن يكون الخطيب والداعية والمحرّض في الأحداث والملمات. وإذا كانت هذه الرؤية المتعسفة للشعر والشعراء تنسحب على كافة الحقب والظروف فإنها اكثر ما تشتد في الكوارث والحروب والمفاصل الكبرى. ففي حالات كهذه، كما هو حاصل الآن، يضطر الشعراء الى تقديم ما يشبه كشف الحساب اليومي عما يفعلونه ويكتبونه لئلا يتهموا بالكسل والعجز والتقصير. والأمة التي تجلس برمتها اليوم امام شاشات الفرجة العاجزة هي نفسها التي تريد من الشعراء ان يرفدوها لحظة بلحظة بقصائد الرثاء والتفجع او بأمصال الغضب والأمل. فلا يكاد الشاعر يخرج من بيته حتى يجد نفسه مصفوعاً بعشرات الأسئلة الملحة من مثل: ما الذي كتبته عن مأساة العراق وترويع نسائه وأطفاله وعن المذابح التي يرتكبها الغزاة او عن الملاحم التي تسطرها ام القصر وقصر الشيوخ والناصرية والبصرة وبغداد؟ يسأل السائل ذلك وهو لا ينتظر من الشاعر سوى جواب بديهي بالإيجاب، حتى اذا كان الأمر خلاف ذلك بدا المجيب للسائل وكأنه متخاذل او متواطئ او مقصر في احسن الحالات. والحقيقة ان الكثير من قصائد الحرب الأخيرة الدامية يبدو وكأنه انجز بدافع القيام بالواجب او الإحساس بالذنب ودرء التهمة عن النفس. كما ان الوطأة الثقيلة لمثل هذه الأسئلة لا تنسحب على شعراء المناسبات الذين يعتاشون على الحروب والكوارث فحسب بل على الكثير من الشعراء الحقيقيين والكبار الذين يضطرون تحت وطأة الجماعة وضغوطها الى كتابة القصائد المرتجلة والمتسرعة التي لا تتناسب مع انجازاتهم السابقة او مستوى كتابتهم الإجمالي. لا يعني ذلك بالطبع دعوة ملحة الى الخرس والصمت الشاملين ولا حكماً مبرماً بالفشل على كل ما تتمخض عنه الحروب من كتابات سريعة، ولكنها دعوة الى مقاومة الابتزاز العاطفي والهشاشة الإنشائية وضغوط الحماسة الموقتة. فالشاعر ليس موظفاً في خدمة الانفعالات العابرة ولا مراسلاً، بالوزن او بغيره، لوسائل الإعلام ووكالات الأنباء ولا مصرّفاً بيانياً لفائض الأحزان الجماعية بقدر ما هو راءٍ وكاشف وسابر اغوار. ان له ، كسواه من عباد الله، الحق في ان يتمزق بصمته وأن يجهش بآلامه وأحزانه وأن يختار الوقت المناسب لذرف حبره على الورق، خصوصاً اذا كان الهول الذي يحاصره يستعصي على اللغة ويصعب على التوصيف. وإذا كان له ان يصرخ، كسواه من عباد الله، فعلى صرخته ان تجانب الفجاجة المنفرة والكلام المستهلك لتصل بالصوت الى نهاياته وبالمعنى الى ذراه الأخيرة. ثمة داء يقال له بلغة الطب "داء المفاصل". وهذا المرض هو المعادل الجسدي الرمزي لما نعاني منه نحن الشعراء عند كل مفصل تاريخي او منعطف مفجع او استحقاق داهم. وما يحدث الآن في عراق المرارات والألم الكارثي لا يتسع له الكلام ولا الصمت، الشعر او النثر، الصراخ او الذهول. ولعلنا الآن وأكثر من اي وقت آخر ندرك السبب الذي دفع بخليل حاوي لأن يصوب مسدسه نحو شياطين رأسه قبل ان يرى بأم عينيه اشتعال النار في ثياب بيروت.