4.2% نموا بتوزيعات أرباح أرامكو    تعافي أسواق الأسهم بعد تقلبات أزمة رسوم الجمارك    22.6 مليون ريال تعويضات عام لانقطاعات الكهرباء    الاتحاد يتغلب على الفيحاء بثلاثية ويقترب من لقب دوري روشن للمحترفين    جدة تستضيف بطولتي العالم للبلياردو والماسترز للسنوكر يوليو وأغسطس 2025    زيلينسكي يرحب بعرض بوتين ويشترط وقفا شاملا للنار    بنزيمة يهدي الاتحاد الفوز على الفيحاء ويقربه من دوري روشن    ميزانية الموازنة بين النمو والإصلاحات    «الفنتانيل» كلمة السر في تسوية الحرب التجارية بين واشنطن وبكين    الحصار الإسرائيلي يحرم مستشفيات غزة من توفير الغذاء للمرضى    الرائد يخسر أمام ضمك بهدف ويودّع دوري روشن للمحترفين    الأمير سعود بن نهار يطلع على الخدمات المقدمة للحجاج في مطار الطائف    شيطان أخرس    أمير منطقة تبوك يرعى بعد غد حفل تخريج متدربي ومتدربات المنشات التدريبية    الحج بتصريح.. نظام يحفظ الأرواح ويعظم الشعائر    40 مليون عملية لأبشر في أبريل    172 ألف مستفيد من مركز دعم القرار بالمظالم    السعودية تقود جهود السلام كأول دولة ترسل مبعوثا إلى الهند وباكستان    احتفاء باليوم العالمي للمتاحف    ليفربول يفرط في تقدمه ويكتفي بالتعادل مع أرسنال في الدوري الإنجليزي    سحب سامة تحاصر 160 ألف شخص في منازلهم    عاصفة غضب على Tiktok بسبب فيديو    أمير القصيم يواسي أسرة الثنيان في وفاة الشيخ حجاج الثنيان - رحمه الله -    ولي العهد والرئيس السوري يبحثان مستجدات الأحداث في سوريا    أمير الشرقية: المملكة ملتزمة بدعم الشباب وتمكينهم من أجل صياغة المستقبل    ريمونتادا من برشلونة في الكلاسيكو تقربه من لقب الدوري الإسباني    جوازات مطار المدينة تستقبل أولى رحلات الحجاج القادمين من نيجيريا    "دوري يلو 33".. 9 مواجهات في توقيت واحد    أمير الشرقية يستقبل مجلس إدارة غرفة الأحساء والرئيس التنفيذي للشركة الوطنية لإمدادات الحبوب    الانتهاء من تطوير واجهات مبنى بلدية الظهران بطراز الساحل الشرقي    محافظ عنيزة يرعى توقيع مذكرة تفاهم بين جمعيتي السياحية والصالحية    مستشفى الرس ينقذ طفلا تعرض لاختناق قاتل    ‫دعم مستشفى عفيف العام بأجهزة طبية حديثة وكوادر تخصصية    الأمير ناصر بن محمد يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تعيينه نائبًا لأمير منطقة جازان بالمرتبة الممتازة    "فرع الإفتاء بعسير"يكرم القصادي و الخرد    "التخصصي" توظيف رائد للجراحة الروبوتية تنقذ طفل مصاب بفشل كبدي ويمنحه حياة جديدة    أمير حائل يشهد أكبر حفل تخرج في تاريخ جامعة حائل .. الثلاثاء    أمطار غزيرة وسيول متوقعة على عسير والباحة ومكة    جامعة الإمام عبد الرحمن تكرم الفائزين ب"جائزة تاج" للتميز في تطوير التعليم الجامعي    "التعاون الإسلامي" يرحّب بوقف إطلاق النار بين باكستان والهند    استكمال مشروع مدينة الملك عبد الله الطبية في البحرين    زيارة ترمب الخارجية الأولى (الثانية)    أوامر ملكية: إعفاء أمير جازان وتعيين نائب لوزير التعليم    الرياض تُصدّر العمارة النجدية للعالم في بينالي البندقية 2025    عرض 3 أفلام سعودية في مهرجان "شورت شورتس"    50 % الانخفاض في وفيات الحوادث المرورية بالسعودية    ضبط 1203 حالات في المنافذ الجمركية خلال أسبوع    "الداخلية": ضبط 16 ألف مخالف في أسبوع    "الشؤون الدينية" تكلف 2000 كادر سعودي لخدمة ضيوف الرحمن.. 120 مبادرة ومسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية للحجاج    مكتب إقليمي ل (يونيدو) في الرياض    سمو ولي العهد يجري اتصالًا هاتفيًا بسمو أمير دولة الكويت    أكد بحثه ملفات إستراتيجية.. البيت الأبيض: ترامب يزور السعودية ويلتقي قادة الخليج بالرياض    انقسام سياسي يعمّق الأزمة.. ليبيا على حافة الانفجار.. اشتباكات دامية وغضب شعبي    انقطاع النفس أثناء النوم يهدد بالزهايمر    باكستان تؤكد «استمرار التزامها» بوقف إطلاق النار    تعزيز الأمن الدوائي    «تعليم الرياض» يفتقد «بادي المطيري».. مدير ثانوية الأمير سلطان بن عبدالعزيز    الفرق بين «ولد» و«ابن» في الشريعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو حركة شعبية وسطية عقلانية راشدة
نشر في الحياة يوم 22 - 12 - 2003

هذه رسالة، بل صرخة، موجّهة إلى الأمّة، فرداً فرداً" خصوصاً إليكم أنتمْ مَعْشَر المفكّرين والمثقّفين وأصحابَ اليَراعِ والقِرْطاسِ والقِسْطاس، الذين بفكركم وخبرتكم تجسرونَ الفجوةَ بيْن الفكر والفعل" بيْن الحاكمِ والرّعيّة" بيْن الخطاب الفهميّ العربيّ والخطاب الإنسانيّ العالميّ، بموْضوعيّةٍ ودون انحياز إلاّ للصّالح العام. فأنتم روحُ هذه الأُمّة وضَميرُها ووِجْدانُها. أنتم واجِهةٌ ناصعة مِنْ واجِهاتها: تعملونَ بدأبٍ وتَفَانٍ وتراكُم مَعَ الأغلبيّة العاقلة، ولا أقولُ الصّامتة، على إبْرازِ الهُويّةِ الوسَطيّةِ للأُمّة، كما أرادَها لها سبُحانَه في مُحْكمِ تَنزيله:
}وكذلك جَعَلناكُمْ أُمّةً وسَطا لِتَكُونوا شهداءَ على النّاس، ويَكونَ الرّسولُ عليْكم شهيداً{ ]سورة البقرة 2: الآية 143[
وهذا هو بيْتُ القصيد: المنهجُ الوسَطيُّ العَقْلانيُّ الرّاشِد. فهو سبيلُنا الوحيد لتجميعِ صفوفِنا بتفاعلِ طاقاتِنا وشحْذِ هِمَمِنا. وهو مِنْبَرُنا للإعْلاء من شأنِ الشّورى والدّيمقراطيّة والتّعدّديّة، والحيْلولةِ دونَ الشّرْذمةِ الطّائفيّةِ والمذهبيّةِ والإقليميّةِ، من خلال احترام الآخر، والاختلاف الواعي الذي يرسّخُ الصّالح العام، ونبذِ الأجندات الخاصة. وهو نَهْجُنا للانضواء تحت خيْمةِ القواسمِ المشترَكة الإقليميّةِ والعالميّةِ، وللتّلاقي مَعَ القِيَمِ الإنسانيّة التي بقيتْ على مَرِّ العصور جُزْءاً من الوعْي الإنسانيّ الجماعيّ" أعني: احترامَ الحياة" المسؤوليّةَ تجاهَ الأجيالِ القادمة" حِمايةَ البيئةِ الطّبيعيّةِ للإنسان" الإيثارَ والغيْريّةَ والخيْريّة. مَبدأُنا في ذلك مقولةُ الإمامِ الشّاطبي: تَعظيمُ الجوامع واحترامُ الفروق"" ليس فقط بيْن العربيّ والآخَر وبيْن المسلمِ والآخر، وإنما أيضاً بيْن العربيّ والعربيّ وبيْن المسلمِ والمسلم.
المِنْبَرُ الوسَطيّ الرّاشد يَدْعو بالقوْلِ والفِعْل إلى نبْذِ الخِلافات وفضِّ النّزاعات" بل إلى تجنُّبها أصْلاً. وهو يدعو إلى بناء الإنسان واحترامِ كرامتِه وحقوقِه وقيمتِه ومصلحتِه ورفاهِه وقُدْرتِهِ على تحقيقِ ذاتِه. ويَحُثّ على الأخْذِ بيَدِ المجتمعِ الأهليّ أو المدنيّ ومؤسّساتِه" وعلى ترتيبِ البَيْتِ الدّاخليّ، وتعزيزِ وحْدَةِ الأُمّةِ وتكاتُفِها. والأُمّةُ مفهومٌ عبْرُ قُطْريّ.
المِنْبَرُ الوسَطيّ العَقْلانيّ الرّاشد يَنْأى بنا عن الفُرقةِ والاغتراب. وهو يستنهضُ الهِمَم كي تتصدّى للتّحدّياتِ والأزَمات التي تُواجِهُ الأمّة: التّخلُّف، والتّشرذم، والبطالة، والفقرِ بكلّ أنواعِهِ وأشكالِه، والجهْل، والأُمّيّةِ الحَرْفيّةِ والرّقميّةِ والحاسُوبيّة، وسوءِ توْزيع المواردِ البشريّةِ والطّبيعيّة، سيّما المياه والطّاقة، وغِيابِ المرْجِعيّة، وتعدّدِ أهل الإفتاء، واستلابِ فلسْطين وتهجيرِ أهْلها، ونكبةِ العراقِ والعراقيّين، وتغوُّلِ التّطرُّف.
الإحصاءاتُ المُفْزعة أبلغُ من أيّ كلام. يَصْفعُنا مثلاً تقريرُ التّنميةِ الإنسانيّةِ العربيّةِ الثّاني عن مجتمع المعرفة، الذي صدرَ قبل بضعةِ أسابيع1، بأنّنا نحن العربَ الذين نشكّلُ خمسةً بالمئة 5$ من سكّان المعمورة لا نُنْتجُ إلاّ أكثرَ بقليل من واحدٍ بالمئة 1.1$ من كتبِ العالَم" أي أقلّ ممّا تُنْتجُهُ تركيا وَحْدَها! ونحن نطبعُ يوْميًّا 53 نسخةً من الصُّحف لكلّ ألفِ نسمة، مقابل 285 نسخةً لكلّ ألفِ إنسان في "العالَم المتقدّم"! على صعيدٍ آخَر، أربعون بالمئة 40$ من المسلمين يَعيشون تحت خَطّ الفَقْر، مَعَ أنّ هنالك مبلغَ 1.3 تريليون دولار مُوْدعٌ في البنوك الأمريكيّة باسْم ثلاثمئةِ ألفٍ من أثريائنا! خمسةٌ وسبعون بالمئة 75$ من أهِلنا في فِلَسطين يترنّحون تحت خطّ الفقر. وأحسبُ أنّ النّسبةَ المقابِلة لأهلِنا في العراق لا تختلِفُ كثيراً عن تلك. خمسةٌ وسبعون بالمئة 75$ من المسلمين هم دونَ سِنّ الخامسةِ والعشرين" وسبعون بالمئة 07$ من لاجئي العالَم هم مسلمون! وقيسوا على ذلك ما نراهُ فوْقَ السّطور وتحتَها وما بينَها.
والأهمُّ مِنْ هذا وذاك ما يعيشُهُ المواطنُ العربيّ والمسلم، إلى جانبِ شعوبِ العالم الثّالث عالَمِنا الأوّل، وما نَعيشُهُ بكلّ جوارحِنا، مِنْ شعورٍ بالقَهْرِ والإحْباط ومِنْ مَذلّةٍ وانكسار ومِنْ انهزامٍ جوّانيّ. هذه واحدةٌ من آلاف "المُحبِطات" اليْوميّة التي تقهرُنا حتّى النّخاع2. السّيّدة تغريد خيري السيوري، زوجة محمود سيّد أحمد، من دُورا/ قضاء الخليل، أنجبتْ طفلَها عند حاجز سميراميس، داخلَ سيّارةٍ كانتْ متوجّهةً نحْوَ مستشفى القدس. وبقيتْ تحملُ وليدَها والحَبْلُ السُّرِّيّ لمْ يُقطعْ بعد! ... إلى ما هنالك من قصص المذّلةِ والهَوان.
الملايين من أبناء جلدتِنا يَئنّون. فهم بحاجةٍ إلى التّربيةِ والتّعليم من أجل فُرص العمل" وإلى الخِدمات الصّحّيّة، الوقائيّةِ قبل العلاجيّة" وإلى "نوعيّة الحياة"، أي الشّعور ببهجةِ الحياة وحلاوةِ العيْش ونُورِ المعرفة. وهم - قبْلَ كلّ ذلك وبعْدَه - بحاجةٍ إلى الشّعور باحترامِ إنسانيّتهم، وإلى التّمتّع بحقوق الإنسان. ولا تنسَوْا الشّباب الذين تَرزَحُ نسبةٌ كبيرةٌ منهم تحْتَ نيرِ البطالةِ والفراغ وخواءِ النّفسِ واستبدادِ المجتمع والخوْفِ من المجهول، مَعَ أنّهم هُمُ الأملُ وهُمُ المستقبَل، إذا تربَّوْا على ثقافة المشاركة والحرّيّة المسؤولة. فالحرّيّةُ غيْرُ المسؤولة تولِّد الفردانيّةَ والأثَرة والاستحواذيّة.
لكنْ مَعَ تفاقُمِ الأزَمات واشتدادِ حِدّتِها، يَبزغُ التّحدّي الأكبر: أنْ نأمُلَ ونعمل في أسوأ الظّروف وأردأ الأزمان. ذلك أنّ الأملَ والعملَ ميْسوران وقْتَ الرّغد والرّخاء والعِزّ" فماذا عن وقْت الضّيقِ والضّنك والهَوان؟ أفَلَنْ نستشعرَ تحتَ السّطحِ اليائسِ الآسِن انتفاضةَ الرّوحِ وغَليانَ الإرادة؟ أفَلَنْ نُبلورَ ونَعْتنقَ فكراً وسَطيًّا راشداً يَنْهَلُ من ثقافتِنا العربيّةِ الإسْلاميّة ويُعظّمُ القواسمَ المشترَكة ليس فقط بيْنَها وبيْن الثّقافاتِ الأخرى، وإنّما أيضاً فيما بيْننا؟ أفَلَنْ نُرسيَ أركانَ ذلك الفكْرِ الوسَطيّ" فنبنيَ مجتمعاتِنا بموجبِه، ويَكبُرَ إيمانُنا بجدوى الحوار وإحياء فنونِ التّحادُثِ والتّفاهُم، بما فيها من وسائلَ وآليّات لاجتنابِ النّزاعات، ونعتمدَ القِيمَ التي تُغني ثقافتَنا وتَقْفزُ بها من مفهومِ ثقافةِ البقاء إلى مفهومِ ثقافةِ المشاركةِ والعطاء؟
ما دوْرُ المجتمعِ الأهليّ/المدنيّ في ذلك كُلّه؟ المجتمعِ الأهليّ المُتغلغلِ في وِجْدانِنا والمُتجذِّر في إرْثِنا. نعودُ إلى دستور المدينة ]المنوّرة[، فإذْ هو في أساسِه مجموعةٌ من القوانينِ المدنيّة وخُطّةٌُ مفصّلةٌ متكاملة للتّعدُّديّةِ الإسلاميّة. نظامُ المِلّةِ لغيْرِ المسلمين، في فتَراتٍ لاحقة، تضمّن لائحةَ حقوقٍ واضحة مكّنتْهم من تسييرِ شؤونِهم العامّة وأهّلتْهم لتبوُّء أيّ منصب عدا أعلى المناصبِ التّنفيذيّة" إضافةً إلى امتلاكِهم الحقوقَ والواجباتِ الدّنيويّةَ كالمسلمين تماماً. أهلُ الحَلّ والعَقْد تشكّلوا من مجموعاتٍ متنوّعة شَمِلت العلماءَ والتّجّار والقبائلَ والنّقابات والطّوائفَ المسلمةَ وغيْرَ المسلمة. بعضُ هذه المجموعات تمتّعتْ بدرجةٍ لا يُستهانُ بها من الاتّحاديّة الطّوْعيّة والاستقلاليّةِ عن الحكومةِ المَرْكزيّة فيما يتعلّقُ بالسُّلطةِ والموارد وبناء المؤسّسات المدنيّة. فأدارت الشّؤونَ الدّاخليّةَ للمجتمع، وعالجت النّزاعاتِ بيْن الأفراد، ومثّلتْ مصالحَ النّاس أمامَ السّلطةِ المرْكَزيّة. ولا ننسى "غرفَ التّجارة" التي حافظتْ على حقوقِ التّاجر ومِلكيّتِه. وماذا أيضاً عن "مؤسّسة" الزّكاةِ والأوْقاف، بكلّ ما تعنيه من غيْريّةٍ وخَيْريّةٍ ومعانٍ سامية؟ ألمْ يَحِنِ الأوان لاستلهامِ هذا الإرثِ العظيمِ الحيّ للخروج بدستورٍ مدنيّ عربيّ إسْلاميّ؟
أستذكِرُ في هذا السّياق رسالةَ الإمام عليّ زين العابدين بن الحُسيْن رضيَ اللهُ عنه في الحقوق3، وهي خمسون حقّاً هذه الرّسالةُ النّاصعة تُلقي الضّوْء على مصفوفةِ القِيَمِ في الإسْلام. ومنها: حقُّ الله، وحقُّ النّفْس، وحقُّ اللّسان، وحقّ السّمْعِ والبصَر، وحقُّ الصّدَقة، وحقُّ الرّعيّةِ بالعِلْم، وحقُّها بالسُّلطان، وحقُّ الأُمِّ والأب، وحقٌُّ الرّحْمِ من الأبِ والأًُمّ والولدِ والأخ، وحقُّ النّاس، وحقُّ العبْد، وحقُّ الجَليس، وحقُّ الجار، وحقُّ المال، وحقُّ الخَصْم، وحقُّ المشاهدةِ والنّصيحة، وحقُّ النّاصح، وحقُّ الكبير، وحقُّ الصّغير، وحقُّ القضاء ، وحقُّ أهْلِ الذّمّة. وهي تشكِّلُ قاعدةً غنيّةً لفقهائنا وعلمائنا لتِبيانِ حقوقِ الفَرْد وحقوقِ الجماعة. ومن تلك تنبُعُ دوْلةُ القانون المبنيّة على العدْل والإنصاف ديناً ودُنيا، وتَنْبُعُ الحقوقُ السّياسيّة، واحترامُ الحُرّيّةِ السّياسيّة على قاعدةِ الحُرّيّةِ الملتزمة بالمصلحة العامّة.
كذلك أستذكرُ محاولاتِ مُصْلحينا الكِبار في كلّ زمانٍ ومكان. أستذكرُ روّادَ النّهضةِ العربيّة في العقودِ الأخيرة من القرْنِ التّاسعَ عَشَر والعقودِ الأُولى من القَرْن العشرين: روّادَ التّكامُلِ العربيّ الإسْلاميّ في التّفكيرِ والتّطبيق" روّادَ الفكرِ التّنويريّ: رفاعة رافع الطّهْطاوي" الكواكبي" الأفغاني" محمّد عبده" محمّد رشيد رضا" أبو شعيب التّقاني" ... . أستذكرُ فيصل بن الحسين بن علي، مُلهمَ جمعيّة العهْد ومهندسَ القانونِ الأساسيّ الذي حقّقَهُ بعْدَ مفاوضاتٍ مريرةٍ مَعَ المحتلّ" وهو ما عُرِفَ بدستور 19254. أستذكرُ الجَدَّ المؤسّس حين وجّهَ بعفْويّةٍ أخّاذة وبساطةٍ آسِرَة "رسالةً للنّشء العربيّ سهلةَ التّناول، يُعرفِّ بها من هو وما دينُه ومنْ هم قوْمُه" فيعتزُّ بذلك ويُباهي به وينشأ عليه..."5.
الفكرُ النّهضويُّ العربيّ يمورُ حياةً ودِيناميّةً وتعدُّديّة" فهو ليس مقيّداً متقَوْقِعاً، وليس على نسَقٍ واحد. وهو كالدّوْحِ المتعدّدِ الأفنانِِ والأغصان. والمهمّ أنّه مَعَ النُّور والتّنويرِ والإنارة، ومَعَ التّقدُّمِ، ومَعَ الإصلاح. هو مستقبَليّ وليس ماضَوِيًّا: الماضي والحاضر يَرْفِدانِ المستقبَل ويصبّانِ فيه.
هذا نِداءٌ أُطلقُ به - مِنْ على هذا المِنْبرِ - تيّاراً شَعبيًّا وسَطيًّا يَنتظمُ في عِقْدِه كلَّ مؤمنٍ بالفكْرِ الوسَطيّ العَقْلانيّ الرّاشد. هو حِزْبُ فُضُولٍ جديد وليس بحِزْب" بلْ هوَ أكثرُ من تيّار، لأنّ الأمرَ تجاوزَ التّطوير إلى التّنويرِ والتّثْوير: تثْويرِ الطّاقات الفَرْديّة والجماعيّة، وتثْويرِ الإراداتِ والذّهنيّات. بَلى! هو أكثرُ مِنْ تيّار. هو حركةٌ شعبيّةٌ دائمةُ الاخضرار تبدأ وتنتهي ب "نحن الشّعب"، وتُخاطِبُ الضّميرَ العربيّ والإسْلاميّ، وتؤكّدُ أنّ المصلحةَ العامّة هي غايةُ الحُكْم وغايةُ الحاكميّةِ الصّالحة. هو، إنْ شِئتُمْ، هيئةٌ عموميّةٌ للمواطنين تنهضُ بأعمالِها عن طريقِ فروعٍ محلّيّة تموِّلُ نفسَها بنفسِها وتحْتضِنُ مُتَطوِّعينَ كثيرين. هيئةٌ كُبرى تحدّثُ المواطنين من خلالِ مؤتمراتٍ للمواطنين، وتتكوّنُ مِنْ شبكةٍ مِنَ الأفرادِ والمنظّماتِ الأهليّة، وتعملُ على بناء مجتمعِنا المدنيّ من القاعدة، بعدالةٍ وإنصافٍ ومساواة" غيْرَ آبهةٍ بتعدُّدِ الهُوِيّات على السّاحة ما دامتْ هذهِ ملتزمةً بالأنظمةِ والقوانين. هيئةٌ تَرْمي إلى أكثرَ مِنْ بناءِ المجتمعِ المدنيّ" إلى تعبئةٍ سياسيّة حوْل بديلٍ للسّياساتِ الفئويّةِ الجِهويّة، في جوٍّ من الأُخوّةِ والزّمالةِ الحَقّة.
أقول: حَرَكةٌ شَعْبيّةٌ وسَطيّةٌ عقْلانيّةٌ راشِدة، وهيئةٌ عموميّة للمواطنين، هذي هي أركانُها:
- التّعدُّديّة، بمعنى "تعظيم الجوامع واحترام الفروق""
- ثقافةُ المُشارَكة من المهدِ إلى الّلحد"
- سيادةُ المواطنين وتمكينُهم، بإعطائهِم أسْهُماً وأصوْاتاً ونفوذاً"
- دستورٌ للواجباتِ والحقوق للمواطنِ العربيّ، والتّلاقي مع القوْميّات الأخرى ضمن مفهوم الأمّة الإسْلاميّة"
- استنهاضُ المجتمع الأهليّ المدنيّ"
- الغَيْريّةُ والخيْريّة ونبذُ الاستحواذيّة، والمُشاركةُ في المُساعداتِ الإنسانيّة للعالَمِين، مثلاً عن طريقِ صُندوقٍ عالَميّ للزّكاة والصّدَقات، يُفعّل التّضامن والتّكافلَ بيْن شرائح المجتمع المدنيّ العالَميّ"
- إحياءُ الدّساتيرِ والمواثيقِ الإقليميّةِ والعالَميّة، واستحداثها متى لزِمَ الأمر"
- لا للعُنف ولا للتّطرُّف!
- الانتقالُ من دائرة التّأثر إلى دائرة التّأثير، ضمنَ إطار الأسرة العالَميّة والشّرعيّة الدّوليّة"
- الرُّنُوُّ الدّائمُ نحْوَ المستقبَل، برؤيا تستندُ إلى "سيناريوهات ماذا لو؟".
لقد ناديْتُ غيْرَ مرّة بحركةٍ عالميّةٍ تنحازُ إلى السّلام وثقافةِ السّلام. نعم! كنّا مَعَ عدم الانْحياز إلى هذه القوّة العظمى أو تلك، وتعلّمْنا الكثيرَ من الدّروسِ والعِبَر من خلال نهْجِنا هذا. لكن ألمْ يَحِنِ الأوان لكي نعملَ على سلامِ الشّعوب، السّلامِ العادل الشّامل، بإطْلاق "خريطةِ طريق" موازيةٍ ل خريطة الطّريق" خريطةِ طريق اقتصاديّةٍ اجتماعيّة محورُها كرامةُ الإنسان واحْتياجاتُه، وغايتُها صنعُ السّلام المُتجذّر في الأفئدةِ والعقول؟
مِثْلُ هذه الحركةِ العالميّة لنْ تنجحَ إلاّ إذا لازَمَتْها حركةٌ وسَطيّة تنأى عن هذا التّطرُّفِ أو ذاك. وحركَتُنا الوسَطيّة ستكونُ بإذْن الله جُزْءاً من الحركةِ الوسَطيّة العالميّة.
حَيّ على العمل، إذاً، حَيّ على العمل! فالوقتُ يكادُ يُدْركُنا.
* رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه. رئيس نادي روما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.