مطلع هذا الصيف رفضت المؤسسة المهتمة بالشؤون الثقافية العربية في الخارج، "معهد العالم العربي" في باريس، وهو بلا شك المؤسسة الأكثر اعتدالاً وانفتاحاً على العالم بين المؤسسات الناطقة بالضاد، عرض فيلم المخرج العراقي سعد سلمان Baghdad on/off، لتجنيب العرب وغير العرب رؤية دموع العراقيين. فالفيلم الذي يصوّر ضحايا صدام حسين والعذابات التي تعرضوا لها والتي سبق ل"تيارات" أن تناولته مطولاً، ذهب ضحية رقابة عربية. أما اليوم فإن هناك فيلماً آخراً لن تطاله الرقابات العربية، بما فيها الذاتية، لأنه فرنسي الصنع، وسيبدأ عرضه في الولاياتالمتحدة في الأسابيع المقبلة. فإذا كانت الدول العربية نجحت في حجب دموع العراقيين عن العالم، فإنها هذه المرة لن تنجح في منع الملايين من المشاهدين العالميين من الضحك والسخرية من "العم صدام"، إسم الفيلم المتوسط يناهز الساعة الذي قام بإخراجه الصحافي الفرنسي الشاب جويل سولير. فالفيلم الذي كان قد صوّر في نهاية التسعينات في بغداد، وقد جازف سولير مراراً وهو يصوّر ما كان ممنوعاً عليه، ثم عُرض في عدد من المهرجانات الدولية للفيلم الوثائقي، لم ينزل الى أسواق صالات العرض الا مؤخراً، وفي الولاياتالمتحدة تحديداً. وهذا بالطبع ليس من قبيل الصدف. فعلى الولاياتالمتحدة خوض حرب إعلامية مكثفة لاقناع رأيها العام، خصوصاً الرأي العام لدى حلفائها في أوروبا وفي الشرق الأوسط، بجدوى إزاحة صدام حسين والقضاء على نظامه قبل الشروع في الحرب الفعلية على أرض العراق. الفيلم الفرنسي يدخل تماماً في سياق الأفلام الهوليوودية التي ظهرت خلال الحرب الباردة لتكرّس صورة الشر، وفي الآن ذاته صورة الحماقة، لدى قادة المعسكر الاشتراكي. وهو تماماً النهج الذي كان قد اتبعه تشارلي شابلن في تصويره أدولف هتلر في "الديكتاتور". بيد أن ما يختلف في فيلم سولير، كما ذكرنا، هو بالطبع اختلاف موازنة الفيلم التي لا علاقة لها قطعاً بهوليوود، خصوصاً أننا أمام فيلم وثائقي، وليس مجرد قصة تسمح للمخرج بتقديم المشاهد التي يرغب بها. وقد لا يشكل فيلم جويل سولير حدثاً للشعب العراقي أو حتى "خبطة" Scoop. فالمشاهد العراقي كان قد رأى صدام على الشاشة الصغيرة يعطي نصائحه في كيفية تنظيف المرحاض وتلميعه، أو يقدم وصفة الفوصوليا وكيفية طهيها. غير أن المشاهد العالمي سيتعلم الكثير عن صفات "العم صدام" وعاداته. فهو مولع بالنظافة الجسمانية حتى الهوس: حمام أو حمامين في النهار، تنظيف متقن تحت الابط حيث يحق للزائرين تقبيله. وهو إذ يقبل أن يستحم الرجل مرة في اليوم، فإنه يصر على أن تستحم المرأة مرتين "لأنها فريسة روائح جسدية أكثر من الرجل". كذلك على زائريه العراقيين، أو القلة منهم التي تتمتع بهذا النوع، المرور بقاعة الحمّام قبل الوصول إلى القائد. فصدام الذي يُرعب شعبه والعالم، مرعوب من الجراثيم، وأي جرح طفيف يستدعي لديه التنظيف والتطهير الفوري. أمام عدسة سولير "يُفسّر" كيف أن على المرأة أن تنظف أسنانها بأصبعها، إذا لم تكن هناك لديها فرشاة، ويُدخل الرئيس العراقي إبهامه في فمه ليبرهن على نجاعة نظريته. ولصدام هوس آخر بصورته. فعدد قبعاته قد يزيد على عدد أحذية ايميلدا ماركوس، وهذا ناهيك عن أظافره وشاربه وشعره الذي يلمع من سواد المساحيق، وصوره التي توازي عدد الشعب العراقي... كذلك فصدام لا يخلو من روح المداعبة، إذ أنه ينصح شعبه، في حال حصول عطل في جهازهم التلفزيوني، ان يضعوا صورة القائد على الشاشة الصغيرة ليتابعوا أخبار البلاد. في التسعينات وبينما كان العراق يرزح تحت وطأة العقوبات، طلب الرئيس العراقي من الأممالمتحدة أن تُرسل له في شحنة الأدوات الطبية، آلة لسحب الشحم من الجسم البشري وكذلك مساحيق تزيل التجاعيد وبثور الوجه. ولم تذعن الأممالمتحدة لهذا الطلب، خوفاً من أن يستخدم الرئيس آلة سحب الشحم أداةً لتعذيب معارضيه. فلم تكن المؤسسة الدولية تعرف أن صدام مهووس أيضاً باللياقة البدنية وانه كان قد أمر شعبه بتخفيض وزنه، أو ما عُرف بال"ترشيق" وإلا... وهناك صورة أخرى تُرينا "العم صدام" يصطاد السمك في دجلة. بيد أن أدوات صيده قنابل يرميها لقتل أكبر عدد من الأسماك. وهو يتكلم عن نبيذه المفضل "ماثيوس روزي" وفيلمه المفضل "العرّاب" وتلفزيونه المفضل "سي ان ان". الصحافي الفرنسي سولير أمضى شهرين في بغداد بحجة تصوير آثار العقوبات على الشعب العراقي، الا أنه سرعان ما وجد في صدام "مادة سينمائية غنية" فتحت له أبواباً عدة في العراق، كما حملته على ولوج أبواب أخرى كتصويره خلسةً بعض قصور صدام، على رغم خطر عقوبة الإعدام مقابل "جريمة" لهذه، أو التحدث مع المعماري الفرنسي الذي يشيّد القصور والمباني على حساب الشعب العراقي لإدخال صدام في التاريخ. بيد أن سولير ذاته لم ينج من غيظ الديكتاتور العراقي. فكلما صوّرت سينما هوليوود أساليب التعذيب العلمية في المجتمعات اللاديموقراطية، هُدد سولير في مستشفى عراقي بحقنة دماء إن لم يغادر البلاد فوراً، كما دوهمت شقته في الولاياتالمتحدة وحُطمت محتوياتها مع كتابة عبارات تهديد على الحائط، وكان قد جرى تقديم الفيلم في أحد المهرجانات.