كانت العلاقة مع جماعة "الإخوان المسلمين" هي المعضلة الأكبر أمام ثورة 1952 وقيادتها، مثلما يظل الموقف تجاهها هو المشكلة الأهم بالنسبة الى النظام السياسي المصري الحالي الذي يمثل امتداداً لهذه الثورة. فقد كان لزاماً على جماعتي "الإخوان" والثورة أن تجدا صيغة للعلاقة بينهما. ولأن تعاونهما كان صعباً، لم يكن ثمة مفر من الصدام. بدأت العلاقة بين "الإخوان" وعناصر بارزة في تنظيم "الضباط الأحرار"، الذي استولى على السلطة في 23 تموز يوليو 1952، في أربعينات القرن العشرين. فهناك تباين، في الروايات المختلفة، على تاريخ بدء هذه العلاقة كما على الكثير من تفاصيلها. لكن الثابت هو أن هناك عاملين رئيسيين فرضا إقامة هذه العلاقة: أولهما أن "الإخوان" اخترقوا الجيش واجتذبوا عدداً يعتد به من الضباط، إن كمنتمين أو كمتعاطفين، في الوقت الذي بدأت حركة الضباط الأحرار تأخذ شكلها التنظيمي. وثانيهما أن جماعة "الإخوان" كانت هي الأكبر والأهم من بين قوى التغيير في تلك الفترة. وهي القوى التي شملت أيضاً حركة "مصر الفتاة" والتنظيمات الشيوعية. وثابت أن عدداً من قادة الضباط الأحرار اتصلوا بهذه القوى، بل انضموا الى بعضها في البداية الى أن اتخذوا قراراً بالاستقلال عن أي حركة سياسية. وروى جمال عبدالناصر أنه انضم الى "مصر الفتاة" ثم تركها، وأنه اتصل بعد ذلك بجماعة "الإخوان" من دون أن ينضم إليها. فلم يكن ممكناً إلا أن يحدث اتصال بين الجماعة السياسية الأكبر وسط قوى التغيير وبين التنظيم العسكري الذي يبحث عن وسيلة لهذا التغيير. وعلى رغم وجود خلافات واسعة في الروايات التي تحكي قصة هذا الاتصال في أربعينات وأوائل خمسينات القرن الماضي، يبدو ثمة خيط ممتد فيها أو على الأقل في معظمها، ويقودنا هذا الخيط الى استخلاص أن العلاقة بين جماعتي "الإخوان" والثورة كان محكوماً عليها بأن تمضي نحو الصدام لأنها قامت في أساسها على محاولة كل منهما استخدام الآخر من أجل تحقيق أهدافه. مباراة صفرية وجد "الإخوان" في تنظيم الضباط الأحرار الذراع العسكرية التي يمكن أن تحملهم الى السلطة، بينما رأى أهم قادة هذا التنظيم في جماعة "الإخوان" قاعدة شعبية يمكنهم الاعتماد عليها في الأيام الأولى الى أن تدين لهم السيطرة الكاملة. وهذا النوع من العلاقات يقود بالضرورة الى ما يطلق عليه مباراة صفرية Zero Sum Game، إذ يستحيل أن يحقق كل من الطرفين هدفه، لأن نجاح أحدهما يتوقف على فشل الآخر. إنها تلك العلاقة التي لا بد أن تنتهي الى رابح وخاسر، وأن يكون كل من الربح والخسارة صافياً تقريباً. فكان سعي كل منها الى استخدام الآخر مطية هو جوهر المشكلة بينهما. ولم تكن الخلافات العلنية، التي حدثت خلال الشهور التالية للثورة قبل أن يقع الصدام النهائي، إلا اعراضاً للمشكلة. وكان أهمها خلافان على الحد الأقصى للملكية الزراعية واتفاق جلاء القوات البريطانية عن مصر. فقد قررت جماعة الثورة أن يكون الحد الأقصى للملكية الزراعية مئتي فدان، فيما طالبت جماعة "الإخوان" بزيادة هذا الحد الى خمسمئة فدان. ولا يمكن لمثل هذا الخلاف أن يقود الى صدام كسر عظم إلا إذا كان وراءه نزاع أعمق. أما معارضة "الإخوان" اتفاقية الجلاء فعلى رغم أنها كانت تعبيراً عن رفضهم ما حوته من تنازلات، إلا أنها ما كان متصوراً أن تبلغ ما بلغته من حدة إلا بعد أن أصبح الصدام النهائي قادماً لا محالة، ووقع فعلاً في تشرين الأول أكتوبر 1954 بعد أربعة شهور فقط على اتفاق الجلاء. فكان الخلاف بين "الإخوان" والثورة على شروط جلاء القوات البريطانية عن مصر قائما منذ نهاية العام 2195. لكن هذا الخلاف لم يمنع التشاور بينهما من وقت إلى آخر، خصوصا بعد أن اتجهت السفارة البريطانية لدى القاهرة الى استطلاع رأي "الإخوان" في مستقبل مفاوضات الجلاء اعتباراً من شباط فبراير 1953، فقد التقى عدد من قادة "الإخوان" المستشار الشرقي لهذه السفارة مرات عدة، ولكن بعد أن أبلغوا جمال عبدالناصر وحصلوا على اذن منه. ولذلك كان ضرورياً أن يجرى حوار بين جماعتي الثورة و"الإخوان" في شأن الشروط التي يمكن قبولها في مقابل جلاء القوات البريطانية. وأظهر هذا الحوار خلافات واضحة، لكن أثرها لم يظهر إلا مع بدء العد التنازلي باتجاه الصدام بين الطرفين. والطريف أن جماعة الثورة، التي تبنت موقفاً أقل تشدداً مقارنة ب"الإخوان" تجاه الإنكليز، اتهمتهم بإجراء اتصالات مع السفارة البريطانية على رغم أنها تمت بمعرفة عبدالناصر. فعندما اقتربت العلاقة من لحظة الصدام النهائي، اتجهت قيادة الثورة الى ممارسة أقوى ضغط على "الإخوان" منذ تموز 1952، فقررت في كانون الثاني يناير 1954 حل جماعتهم التي سبق أن استثنتها من قرار حل الأحزاب السياسية في كانون الثاني 1953، وكانت الاتصالات مع السفارة البريطانية أحد أسباب قرار الحل. وقد وضع هذا السبب على نحو يشكك فى وطنية "الإخوان"، وذلك في ممارسة مبكرة لسياسة التخوين أو "التكفير الوطني" التي شاعت بعد ذلك في مصر وانتقلت الى العالم العربي. من يستخدم من؟ غير أن هذه الأسباب المعلنة، وغيرها، للخلاف بين جماعتي الثورة و"الإخوان" كانت بمثابة العرض الظاهر للمشكلة التي نجد جذورها في سعي كل من الطرفين الى استخدام الآخر. وسبقت هذه المشكلة وقوع الثورة ونجاحها، فعلى رغم اختلاف الروايات في كثير من تفاصيل العلاقة بين "الإخوان" وقادة الضباط الأحرار في السنوات السابقة على الثورة، يظل هناك خيط يقودنا الى استخلاص أن عبدالناصر حرص على أن يعطي "الإخوان" الذين كان على اتصال معهم انطباعاً بأن في امكانهم الاعتماد على تنظيمه لتحقيق هدفهم في إقامة دولة إسلامية. كما لم يكن "الإخوان" أقل حرصاً على أن تبلغه رسالة مفادها أن ما يعنيهم هو تطبيق مبادئهم. فكان كل من الطرفين يناور في علاقته مع الآخر. وكان كلاهما يدرك ذلك، ما خلق توتراً من وقت الى آخر، ولكن، لم يكن ثمة خيار أمام أي منهما إلا الحفاظ على هذه العلاقة. وعندما استولى الضباط الأحرار على السلطة، كان طبيعياً أن تزداد الضغوط المتبادلة وأن تتخذ مناورات كل من الطرفين شكلاً جديداً، ولكن طابع العلاقة اختلف بحكم أن أحد طرفيها صار في مركز أقوى، ولأن اللعب أصبح "على المكشوف". فحتى 23 تموز كان كلاهما يريد التغيير. ولكن، اعتباراً من ذلك اليوم، صارت جماعة الثورة في موقع أقوى على رغم أن السلطة لم تكن قد دانت لها في شكل كامل. فعلى رغم أن قيادة الثورة ظلت في حاجة الى دعم "الإخوان"، كانت تعرف أن هذه الحاجة موقتة الى أن يستقر الوضع تحت سيطرتها. وفي المقابل، كانت حاجة "الإخوان" الى جماعة الثورة أطول مدى حتى في حال نجاحهم في اختراقها من داخلها. ولذلك كانت فرصة جماعة الثورة في ادارة العلاقة مع "الإخوان" لمصلحتها أكبر من فرصة هؤلاء في استخدام الثورة لتحقيق أهدافهم. ويبدو أن هذا ما أدركه المرشد العام حسن الهضيبي مبكراً ومعه بعض قادة الصف الأول، فيما لم يكن قادة آخرون وكثير من قواعد الجماعة يدركون ميزان القوى على هذا النحو. ولعل هذا يفسر تردد الهضيبي في إصدار بيان التأييد الذي طلبه عبدالناصر، فلم يصدر إلا في 28 تموز وفي صيغة تنطوي على دعم مشروط. فلم يتضمن البيان تأييداً صريحاً، وإن تحدث عن الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم. وعندما أهاب بالإخوان أن يشدوا أزرها ربط ذلك بأن تبلغ مداها من الإصلاح من دون أن يحدد المقصود به، لكنه أشار في النهاية الى أن الهيئة التأسيسية للإخوان ستجتمع لتقرر ما يجب أن يقترن بهذه النهضة المباركة من خطوات الإصلاح الشامل. والأرجح أن التباين في ادراك حقيقة ميزان القوى أتاح لعبدالناصر أن يخترق الجماعة ويقسم صفوفها ويتلاعب بقيادة جهازها السري، الأمر الذي أضعف مركزها. وفي المقابل لم تفطن قيادة "الإخوان" الى أهمية اختراق التنظيم السياسي للثورة هيئة التحرير فرفضت بإصرار انضمام "الإخوان" إليه على رغم دعوتهم إلى العمل من خلاله. فقد أصدر المرشد العام بياناً رفض فيه انضمام أي عضو في الجماعة الى "هيئة التحرير"، وهدد بأن كل من ينضم إليها يُعد مفصولاً. بل وافق على إعادة تشكيل فريق الجوالة في مواجهة التنظيم الشبابي لهيئة التحرير. وربما خشيت قيادة "الإخوان" أن يذوب أعضاء الجماعة في التنظيم السياسي للثورة بدلاً من أن ينجحوا في اختراقه، وهذا تخوف مشروع ولكن في الظروف العادية. أما في أوقات الأزمات التي تقترن بمراحل تحول، فلا بد من أن يكون القائد الذي يدير الأزمة مستعداً لقبول قدر من المخاطرة إذا كان الهدف المنشود كبيراً. وهذا جزء من مهارات المناورة السياسية التى لم تتوافر لقيادة "الإخوان" في الوقت الذي دبت الخلافات في صفوف الجماعة. فكان أخطر ما عانت منه جماعة "الإخوان" فى تلك الفترة هو الخلاف على كيفية التعاطي مع الثورة. وهذا خلاف أظهر مدى الضرر الذي يصيب أي هيئة سياسية عندما تطغى المصالح الشخصية لبعض قادتها. وأصاب جماعة "الإخوان" هذا الضرر منذ أزمة المشاركة في حكومة محمد نجيب ايلول/ سبتمبر 1952 - حزيران/ يونيو 3195. فقد أظهر عبدالناصر براعته في المناورة عندما عرض على "الإخوان" المشاركة في هذه الحكومة لتحقيق أحد هدفين: إما أن يشتري سكوتها أو أن يخلق أزمة في داخلها. وتحقق له الهدف الثاني الذي كان الأهم بالنسبة اليه، إذ حدث خلاف على الوزيرين اللذين يمثلان "الإخوان". وعندما حاول مكتب الإرشاد الخروج من الأزمة عبر إصدار قرار بعدم المشاركة، كان السيف قد سبق واستجاب الشيخ حسن الباقوري الى نداء السلطة ما أدى الى فصله من الجماعة. وهكذا بدا عبدالناصر أكثر براعة من "الإخوان" وأوفر قدرة على المناورة في لحظة تحول عميق شمل، من بين ما شمل، أساليب ادارة العلاقة بينها وبين جماعة الثورة. فالاتصالات التي كانت سرية صارت في العلن، والمناورات التي كانت في الخفاء غدا معظمها ظاهراً، والمطالب المتبادلة التي كانت ضمنية غالباً أصبحت صريحة في معظم الأحوال. وهنا، أيضاً، تعجل "الإخوان" كشف أوراقهم عندما طالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذ إجراءات لأسلمة المجتمع. فلما لجأت جماعة الثورة الى المناورة بأن هذا التغيير يحتاج الى وقت وإعداد، طلبت جماعة الإخوان تكوين هيئة منهم تعرض عليها القوانين والقرارات قبل إصدارها. فلم يوفر "الإخوان" جهداً في تأكيد مخاوف جماعة الثورة من أنهم يريدون فرض سيطرتهم أو وصايتهم، الأمر الذي دفعها - وعلى رأسها جمال عبدالناصر - الى الاستعداد للصدام والدفع في اتجاهه يوماً بعد يوم. وبدا فى نهاية العام 1953 أن عبدالناصر أكثر سيطرة على رقعة الشطرنج، لأن تحركاته أو نقلاته كانت أوفر دقة وإحكاماً. فما أن حل العام 1954 حتى قام بنقلة هجومية قوية عبر قرار حل جماعة "الإخوان"، التي جاءت نقلتها المضادة خاطئة إذ عمدت الى تدعيم علاقاتها مع محمد نجيب الذي كان الوحيد في مجلس قيادة الثورة الذي اعترض على قرار حل جماعة "الإخوان". وكان نجيب يتجه الى خوض جولة حاسمة في الصراع ضد عبدالناصر، وإذ خسر نجيب تلك الجولة، ظهر مدى خطأ وقوف "الإخوان" وراءه، لكن خطأهم، في الواقع، كان أبعد من الرهان على "الفرس" الخاسرة، لأنهم لم يتمكنوا من نيل ثقته قبل أن يخسر. وهذا ما كشفه نجيب في مذكراته، موضحاً أنه رفض الشروط التي قدموها ورأى فيها محاولة للسيطرة على الحكم من دون أن يتحملوا المسؤولية. فمثلما فعلوا مع عبدالناصر، تعجلوا في كشف أوراقهم أمام نجيب، الأمر الذى يدعم الاعتقاد في ضعف قدرتهم على المناورة في تلك الفترة. وتفاقم أثر هذا الضعف، في ظل العجز عن حل الخلاف الداخلي الذي وصل في أيلول 1954 الى حد انقسام الجماعة الى مجموعتين: اقترحت إحداهما عقد مصالحة مع الثورة، فيما رفضت الأخرى التي أيدها المرشد العام هذا الطرح. وعموماً كان الوقت قد فات، فبخروج عبدالناصر منتصراً على محمد نجيب والضباط الديموقراطيين في أزمة آذار مارس 1954، صار مسيطراً على رقعة الشطرنج. وعندئذ أصبحت نهاية لعبته مع جماعة "الإخوان" وشيكة. ولم تمض شهور عدة حتى جاءت هذه النهاية شديدة الدرامية في 26 تشرين الاول 1954 بعد محاولة اغتياله خلال القائه خطاباً جماهيرياً في ميدان المنشية في الاسكندرية، فيما عرف باسم "المؤامرة الكبرى" التي تم على أثرها حل جماعة "الإخوان" ومثول قادتها أمام محكمة استثنائية نظرت القضية في شهر واحد وأصدرت أحكامها بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة في حق 14 من أبرزهم. * كاتب مصري، نائب مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية.