هل كان ممكناً لحادثة ارجاء القمة المغاربية للمرة الخامسة أو السادسة أن تحصل في أوروبا؟ وهل تسمح المجالس النيابية الأوروبية للماسكين بالسلطات التنفيذية أن يتوافقوا يوماً على عقد قمة ويهيئوا لها كل شيء، ثم يتراجعوا في اليوم التالي ويلغوا كل ما اتفقوا عليه؟ انشئ الاتحاد المغاربي، مثل غالبية الهيئات العربية، على أساس "البناء من فوق"، أي باعتماد التوافق بين القيادات السياسية من دون منح أي دور للمؤسسات أو اشراك الرأي العام في عملية البناء. وعليه باتت أي خطوة إلى الأمام الأصح أن نقول إلى الوراء، تتوقف على حصول توافق بين الرؤساء. ولو لم يكن القرار في الاتحاد محصوراً بخمسة أفراد فقط، لما تقرر الإرجاء بالسهولة التي اتخذ بها. فالرأي العام يجهل تماماً الأسباب التي أدت إلى الاتفاق على عقد القمة بعد شلل استمر ثمانية أعوام، مثلما أنه لا يعلم كيف انفرط الوفاق، ولماذا اختلف الرؤساء وعلى ماذا اختلفوا؟ فمجلس الرئاسة المغاربي لا يحاسبه أحد، وهو لا يحترم دورية اجتماعاته، مما أدى إلى سيطرة الخلافات المزاجية على سير عمله. هكذا بقيت الهيئات المغاربية على مدى ثلاثة عشر عاماً هياكل خاوية لا تملك أي سلطة وظلت اتفاقات التكامل التي جرى التوقيع عليها في حفلات مشهودة وصدّقت عليها البرلمانات لاحقاً، حبراً على ورق ولم ينفذ منها حتى النزر القليل، لا بل إن ما نُفذ من خيارات الادماج والتكامل هو... غلق الحدود وفرض التأشيرة على مواطني البلد الجار وأبناء الأسرة الواحدة الموزعين هنا وهناك على جانبي الحدود. كل الأهداف التي صاغتها القمم الست السابقة تم التخلي عنها وإلقاؤها في الأدراج، وفي مقدمها إقامة اتحاد جمركي وسوق زراعية وإلغاء الحدود الداخلية بين بلدان الاتحاد والتنقل ببطاقة الهوية بدل الجوازات بين البلدان المغاربية. هل يمكن أن تتخذ هكذا قرارات مصيرية في أوروبا، أو حتى في أميركا اللاتينية ثم تُلغى بلا تفسير أو سبب مقنع؟ الأدهى من ذلك أن مجلس الشورى المغاربي، الذي يصنف على أنه تجسيد للسلطة الاشتراعية، لا حول له ولا قوة، لا بل هو لا يستطيع أن يعقد اجتماعاً إلا بعد حصول توافق بين السلطات التنفيذية في البلدان الخمسة... وبالاجماع، أي عندما تأذن له السلطة التي يُفترض أن يراقبها ويحاسبها! وبغض الطرف عن المعايير الأوروبية التي تنتمي لعصر ما زال بعيداً عنّا، يشكل الاتحاد المغاربي حتى بالمعايير العربية حالاً شاذة، فهو لم يمت مثلما انهار الاتحاد العربي مصر والعراق والأردن واليمن، ولم يتوخ طريق البناء المرحلي مثل مجلس التعاون الخليجي، وإنما بات نوعاً من الورطة التي لم يتجرأ أصحابها على نفض الأيدي منها. إنه عبء لا يريد أحد حمله على أكتافه، ولذا تهرب الليبيون من تلقي الجيفة حتى لا تعطل حركتهم المندفعة نحو القارة الافريقية. والثابت أن الاتحاد المغاربي وصل إلى مرحلة الموت السريري، لكنه سيبقى في غرفة العناية المركزية فترة أخرى. وإذا ما شوهد أطباء وممرضون يترددون على الغرفة، فليس معنى ذلك أن هناك أملاً بتعافيه لأن "الذبحة الصحراوية" أوقفت قلبه عن الخفقان. فبعدما وصلت الأزمة بين الجزائر والمغرب إلى مستوى القطيعة وأخفقت جميع المحاولات لفصل المسار المغاربي عن تداعيات قضية الصحراء، فإن الاتحاد صار في حكم التاريخ ولا أمل من انعاشه. وعندما تتهيأ الظروف لمعاودة البناء الاقليمي ستكون المنطقة بحاجة لإطار جديد غير إطار "الاتحاد المغاربي". لكن بات واضحاً اليوم أنه من الصعب تفكيك العُقد المغاربية ما لم تُحل قضية الصحراء، خصوصاً بعد افشال صيغة الحكم الذاتي الموسع في إطار السيادة المغربية والتي كانت الأكثر عدلاً وواقعية بين الحلول المطروحة. وطالما ان "كل واقف في تأخر"، فإن المغرب العربي يتقهقر يوماً بعد يوم وأزماته تستفحل وتزيد استعصاء بسبب خيارات سياسية أنانية ورؤية تتجاهل أن قطار التنمية لا ينتظر المتخاصمين حتى يحلوا خصوماتهم. مع ذلك أمكن حلحلة العقدة الصحراوية ووضعها على سكة الحل السياسي بعد القمة التي جمعت الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد والملك الراحل الحسن الثاني في قرية العقيد لطفي العام 1983. وكان التقارب بين المغرب والجزائر هو الشرط الأساسي الذي أتاح للقمة المغاربية الأولى أن تُعقد في زيرالدا الجزائر العام 1988 ومهد لقمة مراكش العام 1989 التي أبصر فيها الاتحاد النور. والواضح اليوم أن العصر تغير، فصار الأوروبيون والأميركيون، الذين كانوا يُصنفون على أنهم من أشد أعداء الوحدة العربية واستطراداً وحدة المغرب العربي، في مقدم المطالبين بانشاء سوق اقليمية وتكريس التكامل الاقتصادي في إطار تجمع يضم بلدان المنطقة. لا بل انهم باتوا يشترطون صراحة قطع خطوات حقيقية في طريق إقامة سوق مغاربية لإرسال الاستثمارات وترفيع مستوى التبادل التجاري مع بلدان شمال افريقيا، فهل ننتظر أن تُعلن الوحدة المغاربية من بروكسيل أو واشنطن؟