هذه قصة طويلة كتبها هنري ميلر في ظروف خاصة، وهو يعتقد انها الاكثر تفرداً بين كل قصصه، ربما لأن وراءها قصة واقعية، لها علاقة وثيقة، وحميمة، بعوالم الرسم والسيرك. في سنوات الحرب العالمية الثانية كان الفنان التكعيبي الفرنسي فرنان ليجيه يعيش في الولاياتالمتحدة الاميركية ويعمل، وكان رواد الفن الحديث في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين اعتادوا ان يرسموا تنويعات او سلسلة من اللوحات عن عناوين محددة، او مشتركة، كالطواحين، والمقاهي، والحفلات الموسيقية والراقصات، والطبيعة الصامتة، وراكبي الخيول، ونساء الحمامات، والمهرجين، ولاعبي السيرك، وحين قرر فرنان ليجيه ان ينشر كتاباً عن السيرك يضم اربعين لوحة من رسومه طلب من هنري ميلر كتابة النصوص المرافقة لهذه اللوحات، وراح يعطيه التخطيطات الاولية التي تمثل نماذج من هذه اللوحات، ولكن ميلر لم يكن مهتماً بتفاصيل كل لوحة، فكتب قصة طويلة عن عالم السيرك، من الداخل، وليس من خلال اضوائه وقشوره، وقدمها الى ليجيه، الذي رفض نشرها في الكتاب، وكتب بنفسه التعليقات التي رافقت لوحاته، بينما نشر ميلر قصته منفصلة بعنوان "ابتسامة عند قدم السلّم"، وكتب اعترافاً خاصاً عن علاقته بهذه القصة ترجمة اسامة اسبر - دار نينوى. استوحى ميلر قصته من علاقته الشخصية بالسيرك، وتذكر انه رسم مرة مهرجاً له فمان: فم للمتعة، وفم آخر للألم، وتذكر ايضاً انه تأثر بقراءة كتاب نشره والاس فاولي - مؤلف كتاب "عصر السريالية" - وكان بعنوان "مهرجون وملائكة"، واستعاد قراءة لوحات لبعض رواد الفن الحديث، وهم، تحديداً، جورج رووه، سورا، خوان ميرو، مارك شاغال... وحمل المشهد الاول من القصة ايحاءات من لوحة رسمها خوان ميرو عام 1926، بعنوان "كلب ينبح القمر"، فالى جانب الكلب على الارض وفوقه القمر البعيد في السماء، في الطرف الايمن من اللوحة، يمتد سلم طويل، في الجانب الايسر، تختفي اطرافه العليا في الفضاء. اما اوغست، المهرج العبقري، المحبوب العظيم الذي يحتفظ بابتسامته المنقوشة على وجهه، وكثير من الخدع التي لا تضاهى، فإنه يجلس، في حلبة السيرك عند قدم سلّم يرتفع الى القمر، كان اوغست حزيناً، ولكن ابتسامته ثابتة، وأفكاره تحلق بعيداً، وهو يتظاهر بالنشوة التي ترفعه الى حد الكمال، ولم يكن اوغست مهرجاً، او بهلواناً عادياً، لأنه لا يتوقف عند حد في طرح الاسئلة الصعبة على نفسه، انه يريد "ان يتحلى بقوة كائن فريد وموهبة خاصة، وينبغي عليه ان يضحك البشر، ولم يكن من الصعب جعلهم يبكون او يضحكون، كما اكتشف ذلك منذ مدة طويلة، قبل ان يحلم حتى بالانضمام الى السيرك". كانت هواجسه تدفعه في كل مرة الى الجلوس عند قدم السلم - نقطة الانطلاق - يتخيل انه يستطيع ان يعطي مشاهديه متعة خالدة، وكان هذا الهاجس ينسيه ما يمكن ان يفعله، وحين يصحو كان التصفيق العاصف يداهمه، ومن التصفيق الى الضحك المتصاعد الذي لم يعد اوغست قادراً على احتماله، بعد ان اضيفت الى التصفيق التعليقات الساخرة، وتعرض اوغست لحال غيبوبة سبقتها جروح وكدمات. وفجأة انهي عقد عمل اوغست فهرب من مناخات السيرك، وراح يتجول مجهولاً بين الناس الذين علمهم الضحك، ولم يكن مستاء، وانما كان حزيناً، ومر زمن كان يبدو له طويلاً، قبل ان ينتفض ويركب سيارة اجرة تقوده الى ضواحي المدينة، حيث كان وحيداً يتذكر ويتخيل، ويغفو فيحلم بأنه عاد الى السيرك وانه تسلق السلم الذي يصل الى القمر. لا يعرف اوغست كيف قادته خطواته الى السيرك الذي تغيرت ملامحه، ولكنه اصر هذه المرة على ان يكون عمله بعيداً من الاضواء، محصوراً في العناية بالخيول وتحريك الدعامات وفرش السجادات الكبيرة، وغير ذلك من المهمات الرتيبة المألوفة، التي لا تجد من يصفق لها او يسخر منها، وبقي اوغست هادئاً في الظل يداعب الخيول والفقمات، متصالحاً مع الحياة ومع نفسه، حتى حدث ما لم يكن محسوباً، حيث مرض المهرج المغمور انطوان ولزم الفراش، ولم يكن ثمة بديل جاهز ليأخذ مكانه، واتجهت الانظار الى اوغست الذي شعر بأنه امام خيار صعب. كان من الممكن ان يؤدي دور انطوان مثل انطوان، وينتهي العرض في تلك الليلة كما كان ينتهي في كل ليلة، حيث يكرر انطوان نفسه ويحصد ضحكات باهتة وتصفيقاً فاتراً، لكن اوغست الذي اختار العزلة بسبب شهرته فإنه مسكون بالابداع، تقوده المغامرة الفنية الى نهاياتها القصوى، وكان على اوغست ان يتنكر، ويتلبس شخصية انطوان ويقلد حركاته، ولكن ما الذي حدث؟ في لحظة الصفر انفجرت كل مواهب اوغست وخيالاته وأحلامه بتحقيق ما لم يصل اليه بهلوان آخر، فانطلق في رقصات وحشية ارتجالية وجنونية، ألهبت مشاعر المشاهدين هتافاً وتصفيقاً، وكأن نجماً عالمياً اسمه انطوان ولد للمرة الاولى، ليمحو اسطورة اوغست، وهذا ما يريده اوغست نفسه، بينما تصاعد صراخ المشاهدين مطالبين بعودة انطوان عند نهاية الفقرة. لا احد يستطيع ايقاف هذا الطوفان الابداعي المنفلت، فبعد فاصل قصير، وبعد ان رفض اوغست احتجاج المدير على عدم التزامه بأداء دور انطوان كما هو، في الفقرة الاولى، انطلق اوغست في الفقرة الثانية، مدمراً كل الحدود التي يعرفها المشاهدون، كان يقفز كثلاثة اشخاص مختلفين في الوقت نفسه: اوغست المعلم، وأوغست كأنطوان، وأنطوان كأوغست... "في الصباح التالي ضجت الصحف بمدائح لأنطوان، وشرح اوغست للمدير، طبعاً، مشروعه، قبل ان يستقيل في تلك الليلة" وكان قد اتخذ الاحتياطات كافة للحفاظ على سرية الخطة، فلا احد يعرف سوى اعضاء الفرقة - بمرض انطوان الذي كان يريد ان يصبح مشهوراً، وها هو الآن الاكثر شهرة، وهو يغادر فراش المرض ميتاً.