لا يحتاج الكاتب أن يكتب رواية مطولة أو أن يقدم لنا عرائض من السرد الطويل لكي يقدم لنا معنىً عميقا وفكرة متقنة ومحكمة. يقدم لنا الروائي الأمريكي هنري ميلر أبرز مثال على ذلك عبر قصته -التي لا تتجاوز خمسين صفحة تقريبا من القطع الصغير- "ابتسامة عند قدم السلم"، والتي قال عنها:" من بين جميع القصص التي كتبتها ربما كانت هذه القصة أكثر تفردا". تروي هذه القصة حكاية المهرج "أوغوست" الشهير الذي مل من السيرك ومن التمثيل وإضحاك الجمهور الذي صار يزعجه ولم يعد قادرا على احتماله، فوجد نفسه يقذف بالقبعات وصيحات الاستهجان ليعود هاجرا السيرك على الواقع "السيرك الأكبر" بلا جدران ولا سقف وبلا صفوف لمقاعد الجمهور، يتساءل عن نفسه عن شخصيته الحقيقية، أيهما "أوغوست" هل هو نفسه أم أنه المهرج الذي يبحث عن إضحاك الجمهور وإسعادهم. في رحلة نفسية عميقة يأخذنا بها هنري ميلر؛ لمعرفة جوهر الشخصية. يعود "أوغوست" من جديد إلى السيرك لكنه ليس بصفة الممثل هذه المرة وإنما بصفته هو. يقوم بأعمال بسيطة يساعد في نصب الخيمة ويفرش السجادات الكبيرة ويسقي الأحصنة وغيرها من هذه الأعمال التي لا يتلقى عليها من ابتسامة شكر كانت تشعره بالارتياح أكثر من نظرات الانبهار والإعجاب التي كانت تلاحقه في السيرك. ولكن "أنطون" زميله الممثل المغمور في السيرك مرض ذات ليلة فوجد "أوغوست" نفسه يعود إلى السيرك من جديد لكن ليس لأجله هذه المرة وإنما من أجل "أنطون". زاعما أنه بهذا يقدم خدمة جليلة لأنطون ليدله على نفسه. قدم في ذلك العرض أجمل ما يمكن تقديمه وكان الجمهور يصيح باسم "أنطون" وكان "أوغوست" حينها على المسرح ثلاثة أشخاص مختلفين "أوغوست المعلم" و"أوغوست كأنطون" و"أنطون كأوغوست"، وفي ذهنه شخصية رابعة تتبلور وستولد عما قليل وهي "أنطون كأنطون". الحدث الذي تنقلب في الحكاية وينقلب به توقع القارئ وتنتقل الحكاية من عقدة شارفت على الحل إلى عقدة أكبر، وذلك بموت "أنطون". يخرج بعدها "أوغوست" يائساً من السيرك يفكر في الرحيل إلى أمريكا الجنوبية ويقلب هذه في رأسه يحسب مكاسبه منها وخسائره، قبل أن يقلبه عابران على ظهره فيجدانه باسما ابتسامة عريضة ملائكية وعيناه تحدقان بالقمر. ومات "أوغوست" الرجل الذي عاش صراعا نفسيا قال أثناءه :"المهرج لا يكون عادة سعيدا إلا إذا كان شخصا آخر. لا أريد أن أكون سوى نفسي". كما تحدث هنري ميلر عن هذه القصة طويلا فقال :"الجزء الوحيد من قصتي الذي واجهت فيه صعوبة كان الصفحات الأخيرة القليلة، التي أعدت كتابتها عدة مرات". ومبررا موت "أوغوست في نهايتها بقوله :" أردت لبطلي أن يغادر كضوء لكن ليس في الموت، أردت أن يضيء موته الطريق. لم أره كنهاية وإنما كبداية. حين يصبح "أوغوست" نفسه تبدأ الحياة وليس له فحسب وإنما للبشرية كلها في الوقت نفسه". وتحدث عن هذه القصة قائلا:"لا أريد أن يفكر أحد بأنني اخترعت القصة من فكري! لقد رويتها كما شعرت بها، كما كشفت لي نفسها قطعة قطعة. إنها لي وليست لي وهي أغرب قصة كتبتها حتى الآن". مضيفا :"إن هذه القصة حقيقية أكثر من جميع القصص التي بنيتها على الحقيقة والتجربة. كان هدفي في الكتابة هو أن أقول الحقيقة كما أعرفها. حتى الآن، جميع شخصياتي حقيقية، ومأخوذة من الحياة."أوغوست" فريد لأنه جاء من الزرقة. ولكن ما هذه الزرقة التي تحيطنا وتغلفنا إن لم يكن الواقع نفسه؟ نحن لا نبتكر أي شيء في الحقيقة، وإنما نستعير ونعيد الخلق . ننزع الغطاء ونكتشف. كل شيء منح كما يقول المتصوفون. علينا فقط أن نفتح أعيننا وقلوبنا ونتوحد مع ذلك الذي هو كائن" . وعن اختياره السيرك كمكان لأحداث هذه القصة قال :" السيرك هو ساحة صغيرة من النسيان. مغلقة. يساعدنا لفترة على أن نفقد أنفسنا ونتلاشى في الدهشة والبركة على أن يخطفنا اللغز. نخرج منه بدوار حزانى ومرعوبين من وجه العالم اليومي. ولكن العالم اليومي القديم، العالم الذي نتصور أننا نعرفه جيدا فحسب، هو العالم الوحيد، وهو عالم سحر، سحر لا ينتهي. مثل المهرج نمر عبر الحركات نحاكي إلى الأبد، وإلى الأبد نؤجل الحدث المهيب. ذلك أننا نموت ونحن نصارع كي نولد. لم نكن أبدا، ولن نكون. نحن دوما في صيرورة ، دوما منفصلون ومبعدون. إلى الأبد في الخارج". الجدير بالذكر أن هذه الرواية من إصدارات دار نينوى ومن ترجمة أسامة أسبر.