لا يقتصر تطور الأداء الجماهيري لرئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري ورئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على الوسائط الرقمية «تيلي برومبتر» teleprompter التي استعانا بها قبيل إطلالتين جماهيرتين خلال الأشهر الماضية. قوة الخطابين، وحجم تأثيرهما، كانا أبلغ من سائر الخطابات السابقة، ويشيران من حيث الشكل الى تعمّق مارسه السياسيان في علم النفس الإعلامي وما يسمى «سيكولوجيا الجماهير». قد لا يكون تراكم الخبرة السياسية دليلاً كافياً على تطوّر أداء السياسيين اللبنانيين نحو الأفضل خلال الإطلالات الشعبية والمناظرات التلفزيونية والمؤتمرات الصحافية. فالتغيير الذي طرأ على أداء معظم القادة اللبنانيين لا يفسَّر بخبرة أو تجربة أو وسائط رقمية فحسب، بل يشي بأن ثمّة قواعد ومناهج تساهم في تحقيق ذلك التحوّل. تلك التي تنقل خطاب السياسي من المضمون الانفعالي، إلى المضمون المدروس، وتحوّل المتكلّم من شخصية عفوية أمام الجمهور، إلى أخرى مؤثرة تتقن الأداء الفيزيولوجي. ويتحقق ذلك بفعل دورات تدريبية متخصصة، لتأهيل السياسيين وتحسين أدائهم، بدأت تلقى رواجاً واعترافاً بأهميتها في لبنان قبل نحو أربع سنوات. ويعود انتشار الدورات التدريبية تمهيداً للظهور العلني للسياسيين، إلى المناظرة الشهيرة بين مرشحي الرئاسة الأميركية ريتشارد نيكسون وجون كينيدي عام 1960. يومها، أثمر التدريب نجاح كينيدي الذي ظهر على الناخبين الأميركيين بصورة الواثق والهادئ الذي لم تخنه لغة جسده، على رغم أن حزمة المعلومات والحجج التي امتلكها كانت أقل مما في حوزة غريمه، ومنطقه كان أضعف من براهين منافسه على المقعد الرئاسي. تعرّق نيكسون بفعل حرارة الضوء، فبدا أمام الجمهور مرتبكاً وغير واثق. وإذا كانت تلك المناظرة بمثابة فاتحة استعراض لنقاط القوة الشخصية أمام الجمهور، فقد كانت أيضاً نقطة تحول في مسار الإطلالة السياسية على الجمهور، وأسست للاهتمام بتمكين السياسيين من الظهور بفاعلية عبر وسائل الإعلام، بغية قياس مدى تأثيرهم في الرأي العام. وفيما تنتشر مئات الشركات المتخصصة في تأهيل السياسيين للظهور أمام الجمهور في الغرب، ما زالت الشركات من هذا النوع قليلة في العالم العربي ولبنان، وقد تقتصر أحياناً على شخص واحد. ويعرف من بين المدرّبين في لبنان الإعلاميان جوزيف الحسيني وسنا اسكندر اللذان يؤهلان السياسيين في شركة «برايت آي»، إضافة إلى الإعلامي رفيق نصر الله الذي يعلن تباعاً انطلاق دورات في «مركز الاتحاد للتدريب الإعلامي» عبر موقعه الإلكتروني. كما يُعرف عن الإعلامية بولا يعقوبيان تدريبها شخصيات سياسية وديبلوماسية، ويُقال إنها أشرفت على تدريب سعد الحريري. ويستند التدريب، في معظمه، إلى علم النفس السلوكي. وإزاء هذه الخلفية، لا عجب إذا كان شعراء أيضاً قادرين على شدّ انتباه الجمهور بقصائدهم باعتماد طريقة «الصدمة في مطلع القصيدة»، والتي اشتهر بها الشاعر جوزيف حرب. السمة البارزة لهذه الحرفة في لبنان هي «الكتمان الشديد» الذي يحيط بأسماء المدرّبين. ويعد هذا الأمر «سريّاً وشخصياً». لكن سلوكيات السياسيين وتطور أدائهم من الدلائل الملموسة على أن عدداً لا يُستهان به منهم خضع، أو يخضع، للتدريب. تقول اسكندر إن الفكرة كانت «وليدة حاجة ملحّة»، إذ «يؤكد السياسيون حاجتهم إلى متابعة دورات كهذه بغية تحسين أدائهم»، مشيرة إلى أن الجمهور «يستطيع أن يميز أداء السياسي عبر المقارنة بين إطلالاته الأخيرة والإطلالات السابقة». في «برايت آي»، نقل الحسيني واسكندر أجواء الاستديو التلفزيوني إلى الشركة. كاميرات ومقاعد شبيهة بالاستديو، ومنصات، بالاضافة إلى شاشات تنقل مباشرة صورة السياسي ليرى نقاط ضعفه وسلوكياته الخاطئة بأمّ العين، سواء في طريقة الجلوس أو في اختيار الملابس، أو حركات اليدين وتعابير الوجه. تُسجَّل الجلسة التقويمية الأولى، بما تتضمنه من «تمارين» قراءة النصوص خلال مؤتمر صحافي، وإلقاء الخطاب «الارتجالي»، والمُضي في حديث تلفزيوني، لتُحدّد من بعدها الثغرات، فيعمل السياسي مع مدرّبيه على معالجتها. يقول الحسيني: «لا يقتصر التدريب على الجلسات داخل الاستديو، فالسياسي يحمل دروسه معه، وأقصد فروضاً منزلية كما في أيام المدرسة، ويتابع التدريبات العملية في المنزل أيضاً، لتحدد جلسة تقويم ثانية بعد يومين أو ثلاثة، مدى تحسنه في تفادي الأخطاء التي يفترض أن يكون قد لمسها بنفسه». ويقوم مبدأ التواصل مع الرأي العام على ثلاثة عوامل، تُقسّم، وفق علماء النفس السلوكي، إلى لغة الجسد المسؤولة عن إيصال الرسالة بنسبة 55 في المئة، وطبقات الصوت وطريقة الكلام بنسبة 30 في المئة، فيما لا يؤثر محتوى الخطاب في الجمهور سوى بنسبة 10 في المئة. انطلاقاً من تلك الدراسات، تقسم دروس دورات التأهيل الشاملة إلى فصول في لغة الجسد، وأخرى تعمل على تحسين إلقاء الخطاب، وأخرى متخصصة في فحوى الخطاب الذي «يجب ألا يكون طويلاً، بل مكثفاً ومباشراً»، وفق الحسيني. أولوية التدريب، وفقاً لاسكندر، «تكمن في رسم ملامح شخصية السياسي التي سيطل بها على الرأي العام»، إذ «يجب الفصل بين شخصيته الطبيعية في منزله، وشخصيته السياسية نظراً إلى دوره ومهماته وموقعه الاجتماعي». لذلك «نعمل على إظهاره في صورة الشخص الرصين، الواثق بنفسه، ونعمل معاً على إبراز نقاط القوة التي يتمتع بها، كي يزداد ثقة بنفسه، ما ينعكس إيجاباً على إطلالته». وتشير إلى أن معدل الجلسات قد يصل إلى 16 جلسة، تمتد كل منها ساعتين ونصف الساعة، وتقام مرتين في الأسبوع، فيما تبدأ النتائج بالتبلور ابتداء من الجلسة السابعة. وتترافق الدروس، وفق الحسيني واسكندر، مع نصائح مهمة، منها «اعتماد الملابس ذات الألوان القاتمة، للإطلالات التلفزيونية، وتجنب احتساء القهوة التي تتسبب بجفاف الشفتين، إضافة إلى اقتراح كتب تعزّز قراءتها حضور السياسي وتغني معلوماته وتوثّق براهينه». كما تتضمن الجلسات دروساً في طريقة الجلوس، والردّ على الأسئلة، واختيار نبرة الصوت المناسبة، وهي دروس تضفي على دورات الشركة طابع الشمولية. إنها صناعة، صورة القائد، الملهم الذي يستقطب المؤيدين والمعجبين، صناعة سياسية لا تقل أهمية عن الحملات الانتخابية، وصناديق اقتراع هي امتحان شبه يومي.