على مهل أصعد رابية في الجبل. لقد ثقلت خطاي وتمادى القلب في كسله ونومه القلق المضطرب بين الضلوع، أُحفّزه على النشاط وأُداري حيرته وسيرته معي في آفاق عصيبة ارتدناها معاً ومجاهل ارتشفنا مسافاتها في الريح والمطر، في الهاجرات والمنافي وشقاء الليالي البعيدة... هذا القلب تقبل مني العناد وخوض المغامرات وتناول معي الملذات والشهوات والعذابات والانكسارات على حد سواء... أصعد الرابية وأتوكأ على ما تبقى من انفاس، يسندني شهيق صائت ولهاث موقّع. في صعودي أرى صباح الحجّارين الذين يكسّرون الأحجار بمعاول تجرح بياض لدونته، أحجار جبلية، اشم روائحها عن كثب، وأرى هؤلاء الحجّارين بصباحهم هذا وهم يبدون لي مادة خام لقصيدة قادمة... أشفق على الأحجار حين تقطّع أوصالها وأشفق اكثر على أيديهم وسواعدهم وأذرعتهم الخشناء وأصابعهم المبيضّة بغبار الصخور والتي أخذت تقاطيع الحجر... أحدهم يفتح صرة في فيء شجرة قصيرة ونحيلة... تتكشف الصرّة عن زيتون وخبز وبصل وأشياء أخرى يحجبها ظل صخرة... هذا الحجر المرفوع من هذا الخلاء ينقل الى خلاء آخر هو الوسط التجاري المهجور إلا من خطى قليلة جاءت لتزيّن موقعاً ميتاً كان في يوم ما شريان بيروت الباهر. أصل الى الشارع الذي ينقلني من الجبل الى بيروت بوسائط نقل شعبية، لكن في صباح الحجّارين هذا تتوقف سيارة تقودها امرأة، تنادي علينا أنا وزوجتي، عارضة علينا الصعود في سيارتها الذاهبة الى بيروت. إنها سيدة بيروتية انيقة، نحدثها عن "الأوتوستوب" ومخاطره في البلاد الأوروبية... كان زمناً ذاك الذي كانت تسري فيه هذه العادة، اما الآن فالأمر مختلف، وتكاد تنقرض عادة "الأوتوستوب" وعمل الإحسان والمعروف، بل الإنسان مهمته الآن في أوروبا الحفاظ على جلده من مطواة عابرة ومتربصة. نصل الى بيروت لتلفحنا الرطوبة ويصفعنا ضجيج ابواق السيارات وأصوات باعة اليانصيب والجرائد ومواد ومعدات للسيارات والمنازل لذلك أشتري جريدة الصباح دائماً من الباعة الجائلين وأنا في السيارة. الخبر هنا طيار وتنقله مئات المحطات المرئية والمسموعة والمقروءة، ولهذا نرى الشارع اللبناني مسيّساً على نحو لا يُضارع. اكثر من بائع بطاقات يانصيب يعرض عليّ آمالها، فأقول للبائعين ان حظي قليل. وكما يقول الشاعر عمر الخيام: "إن حظي كدقيق فوق شوكٍ نثروه وقالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه" فيضحك بائع اليانصيب من اقوالي ولكنه يصرّ بشتى الطرق والأساليب على شراء هذا الداء الذي لا أمل فيه، لا هنا ولا هناك. مغارة جعيتا ندخل الى فيء الأبدية، لنجد الحلم وقد جفّ... لنجد الماضي وقد تكلّس الى ثريات وتهاليل... فثمة ما يشدّنا في المغاور وهي تستطيل وتتطاول على هيئة اشكال ونصب ومنحوتات وتماثيل قُدّت بأصابع الطبيعة وخيال خلاّق جعل من اعماق الأرض وأحشائها شموعاً وأيقونات كلّسها الأبد والدهور المعتقة المرمية في امعاء الأرض، في هذه المغاور السحيقة، ولكن الأليفة، النازعة الى أبهاء مجبولة بأريج الزمان وأشذاء تاريخية تكمن في حفايا مغارة جعيتا... لكأن المتواري في هذا الزمن يستعيده على شكل متحف مصنوع من الفيء والكلس والماء، انه الخرير يتواصل ايقاعه ويبهج السريرة ويثير الخيال على تأمل الحياة وتقلّباتها وتأمل مسيرة الإنسان وحيرته الوجودية في دهاليزها اللانهائية... وجعيتا هذه حقاً هي قصيدة ابدية، قصيدة لا نهاية لها... قطعة من السحر والإثارة تركها الزمن للإنسان كملاذ أمان وملجأ للروح والقلب ومكان لإرسال البصيرة في الأبد والمرايا الخالدة لهذا الكوكب الذي تثقله الغازات والسموم والكيمياويات. وأنا سارح في هذا البهو المندلع من فوهة التاريخ، أسرح في الإنسان الذي طوته البارحات، كيف كان يعيش، أتملى زهده وبساطته وتقشّفه الروحي، حيث كان انساناً بكراً... الإنسان الخام، المفعم بالبراءة والدهشة والحلم... هنا في هذا المكان المشبّع بالماء والرطوبة والظل البليل، استعيده، اتمثله وأودّ لو كنت مثله، هنا فوق هذه الوسادة الحجرية، نائماً فوق هذا السرير المائي، مخترقاً بالخرير والهدأة الربانية. * كاتب عراقي.