أصدرت وكالة رويترز العالمية كتاباً في مناسبة مرور 150 سنة على تأسيسها، حصتي منها عقد الستينات، فقد انضممت الى الوكالة في بيروت في مطلع العقد وبقيت معها حتى سنة 1970، عندما تركتها لأتسلم "الديلي ستار" رئيساً للتحرير. دخلت الصحافة في سيارة فولكسواغن "بيتل"، واذا شئنا الدقة فقد دخلت الصحافة بسبب هذه السيارة. كنت طالباً في الجامعة الاميركية في بيروت، وأريد ان اشتري سيارة لأنها تسهل العلاقات مع الطالبات، والتقيت صدفة في احد نوادي الليل في بيروت بصحافي استرالي اسمه كيث ديفز، كنت تعرفت عليه في البحرين قبل سنة، فقال انه يعمل مراسلاً مع وكالة رويتر هكذا كان اسمها في حينه، قبل اضافة الحرف "ز"، وانهم يبحثون عن مترجم. زعمت، بناء على نصح كيث، ان عمري 24 سنة معتقداً ان الانسان في هذا العمر "ختيار"، وعملت مترجماً سنة، ومحرراً سنة، ورئىس نوبة بعد ذلك، حتى تركي العمل. وأريد ان اسجل اليوم بعض ما شاهدت او تابعت مع رويترز في الستينات قبل ان انتقل غداً الى ما سجل المراسلون الآخرون، غير انني اعتذر قبل ذلك عن اختصار الحقيقة احياناً لضيق المكان. فمثلاً كانت "رويترز" في البداية تعمل في بيروت تحت اسم محلي هو وكالة الانباء الاقليمية، ثم اصبح وكالة الانباء العربية، ولم تعمل رويترز باسمها حتى سنة 1969، عندما دربنا على العمل على الكومبيوتر. ودخلت الوكالة الحقل الاقتصادي في شكل جعلها تحقق دخولات عالية بعد ان عاشت اكثر من قرن وموازنتها تدفعها الجرائد الانكليزية. وهي الآن، بفضل جناحها الاقتصادي، شركة ذات ملكية عامة تقدر قيمتها ببلايين الدولارات. على كل حال، كان اسمي في رويترز "الولد"، فقد كنت اصغر الموجودين، وعلى رأسهم الاستاذ الياس نعواس، رئىس التحرير الاقليمي. وخرجت وأنا لا ازال "الولد" حتى ان المرحوم خضر نصّار اعتاد ان يهاتفني في "الديلي ستار" فيقول: "شو عم تعمل يا ولد"، مع انني كنت رئىس التحرير. كان الصحافيون الاجانب، يرسلون اخبارهم من طريق رويترز. وكانوا بسبب فارق الوقت مع اوروبا والولايات المتحدة يأتون عادة في نوبة المساء. وأعتقد ان المكتب لا يزال حيث كان في بناية "اونيون" في منطقة الصنائع. وعرفت في تلك الايام صحافياً انكليزياً هادئاً يكتب ل"الغارديان" و"الاوبزرفر" ثم اختفى من دون ان يسأل عنه احد، حتى هجم علينا رجال الأمن العام، فقد كان ذلك الصحافي كيم فيلبي، او الرجل الثالث في قضية الجاسوسين البريطانيين غاي بيرجس ودونالد ماكلين. وحقق مدير الأمن العام توفيق جلبوط مع جميع الزملاء وأهملني، اذ يبدو انه ايضاً اعتبرني ولداً. كانت الاخبار المهمة تحمل صفة مستعجل، وكنت في مكتبي مساء 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963، اتولى رئاسة النوبة بالوكالة لأن اليوم يوافق عيد استقلال لبنان، عندما قرأت "فلاش"، وهي كلمة لم اكن رأيتها على الاخبار من قبل، مكررة مرات، قبل ان يتبعها خبر من سطر واحد، ومن دون مصدر، احفظه حرفياً هو: "اطلقت النار على الرئىس كنيدي وهو في موكب". وتبع ذلك فوراً خبر من دالاس يقول ان الرئىس كنيدي قتل حاولت "النهار" ان تأتي بشيء جديد في اليوم التالي فكان خبرها يحمل عنواناً غريباً هو: "قاتل كنيدي كاستروي شيوعي". بعد "فلاش" مقتل كنيدي، رأيت صفة "فلاش" مرات عدة، ففي السنة التالية فجرت الصين قنبلتها النووية، وفي سنة 1965 اطيح نيكيتا خروشوف، ولعل القنبلة من اسباب سقوطه. ولم تعط حرب 1967 اي "فلاش" لأن الاخبار الاولى لم تتحدث عن حرب، وانما زعم الاسرائيليون ان المصريين هاجموا عبر الحدود، وقال المصريون بعد ذلك ان الاسرائىليين حاولوا الاغارة على طائراتهم الرابضة في المطارات وصدوا، وأسقطت عشرات من طائراتهم. شخصياً، كنت مسؤولاً عن خبر "فلاش" واحد هو انتحار المشير عبدالكريم عامر، والواقع ان هذا الخبر، وخبر ضرب الطائرات الاسرائىلية مطار بيروت في كانون الاول ديسمبر 1968، كان ابرز ما حققت في عقدي مع رويتر، ولكن اعترف هنا بأن الحظ لازمني، لا اي مهارة مهنية. في موضوع انتحار المشير، كنت افتش عن اغنية لأم كلثوم على الراديو عندما وصلت الى "صوت العرب" في الساعة العاشرة مساء، وهو موعد نشرتها الاخبارية. ويبدو ان الحكومة المصرية قررت تأخير تعميم الخبر، فلم يذع في نشرة الاخبار الاساسية من راديو القاهرة الساعة التاسعة مساء، وانما في نشرة "صوت العرب" اللاحقة والأقل اهمية بكثير، ففات الزملاء من الوكالات المنافسة، وكان يفترض ان يفوتني لولا السيدة ام كلثوم. اما خبر ضرب المطار فعرفت به من اتصال من خالة لي نسميها في العائلة "رويتر" لمتابعتها الاخبار دائماً اعطتني بعد سنوات خبر اغتيال الرئىس السادات وأنا في واشنطن، وكانت خالتي حملت ابريق قهوة تركية وفناجين عدة، وصعدت الى سطح بيت الاسرة في حدث بيروت المطل على المطار مباشرة، ورأت الطائرات تحترق فقد كانت تعرف المطار جيداً، بحكم عملها في ميدان السياحة والسفر، وأصرت على ان الاسرائىليين اغاروا، وأرسلت الى لندن خبراً مستعجلاً حذراً قلت فيه: "مطار بيروت يحترق، ويعتقد ان الاسرائىليين ضربوا الطائرات فيه". وقطع الأمن العام الارسال الدولي بعد هذا الخبر القصير، وسبقنا الوكالات الاخرى بساعتين، عندما عاد الارسال، وتلقيت بعد ايام تهنئة من رويتر على سبق صحافي، الفضل الحقيقي فيه لفنجان قهوة. وأكتفي من دوري في رويترز بما سبق وأكمل غداً ببعض الزملاء الذين كانوا شهوداً على التاريخ.