مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا الجنوبية حول "تحديات وآفاق تعليم اللغة العربية وآدابها"    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    ارتفاع أسعار الذهب    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق    تفاصيل صادمة ل«طفل شبرا».. شُقَّ صدره وانتُزعت عيناه وقلبه لبيعها    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    السعودية.. الجُرأة السياسية    برئاسة آل الشيخ.. إحالة تقارير ومقترحات ل«الشورى»    «التعليم»: أولوية النقل للمعلمين لنوع ومرحلة المؤهل العلمي    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    برعاية ولي العهد.. 600 خبير في ملتقى الرياض لمكافحة الفساد    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    المجرشي يودع حياة العزوبية    القضية المركزية    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    ثلاثة آلاف ساعة تطوعية بجمعية الصم بالشرقية    صندوق البيئة يطلق برنامج الحوافز والمنح    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    باسم يحتفل بعقد قرانه    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    60 طالباً وطالبة يوثقون موسم «الجاكرندا» في «شارع الفن» بأبها    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    يوفنتوس يتعادل مع روما في الدوري الإيطالي    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    مهرجان الحريد    شاركني مشاكلك وسنبحث معاً عن الحلول    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    كيفية «حلب» الحبيب !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس الأميركي تنقل بسيارات مموهة وأُطفئت أنوار أعياد الميلاد بعدما زعم "إرهابي" ان ليبيا أرسلت "فرق اغتيال"."زهرة / وردة" : كيف فشلت خطة "صقور" إدارة ريغان لإطاحة القذافي ؟ 4
نشر في الحياة يوم 14 - 06 - 2001

تعالج حلقة اليوم من كتاب "لوكربي الفضيحة الخفية" قصة العلاقة بين نظام الزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي والإدارات الأميركية في عهدي كارتر وبوش.
الولايات المتحدة ضد القذافي
عندما صدرت لائحة الاتهام بحق المواطنين الليبيين في تشرين الثاني نوفمبر 1991، كان هناك إحساس بان الأمر قد حُسم أخيراً. فمرة تلو أخرى على امتداد العقد الماضي اُتهم الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بتخطيط اعمال ارهابية شنيعة ضد الغرب، وها هي اصابع الاتهام تبدو الآن واضحة في اسوأ هذه الاعتداءات اطلاقاً. ومع ارتباط اسمها بلائحة فظاعات مثل هذه، أصبحت ليبيا تحتل المرتبة الاولى بلا منازع بين الدول الارهابية المنبوذة.
ولكن هل كان الأمر هكذا فعلاً؟ الحقيقة أكثر تعقيداً. قد يكون القذافي ... موّل ارهابيين ووفّر لهم المأوى، لكن لم يكن هناك في الوقت ذاته أدنى شك في ان الولايات المتحدة ضخّمت دور ليبيا في الارهاب لأغراض سياسية. اما بالنسبة الى قضية لوكربي، فكان هناك ميل الى التصريح بصوت عالٍ بوجود "أدلة لا تُدحض" عن تورط ليبيا في الارهاب، وهي أدلة سرعان ما تتبخر عند تفحصها بدقة أكبر. وكما هي الحال في قضية لوكربي، كان هناك ميل الى غض النظر عن المجرمين الحقيقيين.
لم يكن القذافي عدواً على الدوام. فقد وصل الى السلطة في 1969 ... وخلال ايامه الاولى في السلطة اشترى اسلحة من الولايات المتحدة واُعطي دعماً استخباراتياً غربياً ضد اعدائه الداخليين. ومع ذلك، رفض العقيد الشاب ان يكون ألعوبة في أيدي اميركا وتبنى بدل ذلك نزعة قومية عربية متطرفة مستوحاة من افكار بطله الرئىس المصري جمال عبدالناصر. فأمّم الصناعة النفطية بأكملها، وعبّر علناً عن تأييده لحركات الكفاح المسلح في بلدان عدة، وكان مستعداً لتسليح وتمويل مجموعة متنوعة من التنظيمات الارهابية في أرجاء العالم. وعلى رغم المخاوف الواضحة في الغرب من احتمال ان ينتشر نمط الافكار الثورية التي تبناها القذافي الى جيران ليبيا المنتجين للنفط، لم يتمكن ابداً من بناء التحالفات الضرورية وبقي معزولاً. بالاضافة الى ذلك، كان عداؤه المكشوف للشيوعية والاتحاد السوفياتي يعني أنه حافظ على مؤيدين كثيرين في واشنطن.
وبحلول نهاية السبعينات، كانت العلاقات مع الولايات المتحدة بدأت تتدهور. وفي 1977، ادعت الاستخبارات الاميركية بأن لديها أدلة قاطعة على ان ليبيا تدعم خطة لاغتيال هيرمان إليتس السفير الاميركي في مصر. وفي كانون الاول ديسمبر 1979، اُضرمت النار في السفارة الاميركية في طرابلس احتجاجاً على السياسة الاميركية تجاه النظام الاسلامي في ايران. وبعد ذلك ببضعة اشهر، طردت الولايات المتحدة موظفي المكتب الشعبي الليبي في واشنطن بعد اتهامهم بتهديد معارضين ليبيين مقيمين في اميركا. وفي اواخر 1980، دارت مواجهتان بين طائرات حربية اميركية وطائرات ليبية فوق خليج سرت، ما دفع الرئيس جيمي كارتر الى ان يعلن أنه "يندر ان تكون هناك حكومات في العالم نواجه معها خلافات حادة ومتكررة اكثر من ليبيا". مع ذلك، وعلى رغم كل تحديه للولايات المتحدة، بقي نفوذ القذافي على الصعيد العالمي في أدنى حد، وبلاده معزولة داخل العالم العربي ....
ولم يكن عداء ادارة كارتر للقذافي يُقارن اطلاقاً بعداء الادارة التي اعقبتها. فقد دشّن صعود رونالد ريغان الى البيت الابيض تجديداً مثيراً للحرب الباردة، وترافق ذلك مع هوس جديد بالارهاب. وفي 27 كانون الثاني يناير 1981، بعد اقل من اسبوع على تسلم ريغان السلطة، اعلن وزير خارجيته الكسندر هيغ ان الاتحاد السوفياتي يتبنى استراتيجية مدروسة لتشجيع ودعم "ارهاب عالمي منفلت" ووصفه بأنه "أكبر مشكلة في مجال حقوق الانسان في الوقت الحاضر".
وجاء ادعاء هيغ اشبه بصدمة للمحللين في القسم الاستخباراتي لوزارة الخارجية الاميركية الذين كانوا يفتقرون الى أي أدلة تدعمه. واُطلع هيغ على هذه الحقيقة من رئىس القسم رونالد سبيرز. لكنه ووليام كيسي المدير الجديد لل "سي آي أي" تجاهلا ذلك. وأصدر كيسي، الذي كان اليميني الأكثر تطرفاً بين المسؤولين الذين عيّنهم ريغان، اوامره الى موظفيه باعداد تقرير استخباراتي خاص "إس إن آي إي" حول التورط السوفياتي في الارهاب. وعززت المسودة الاولى للتقرير الموقف السابق للوزارة، وحتى عندما أعاد كتابته شخص اكثر تعاطفاً مع موقف كيسي عجز عن التوصل الى استنتاج بأن الارهاب هو مؤامرة يقف وراءها الاتحاد السوفياتي لنشر الثورة العالمية. ولم يُقنع ذلك كيسي، فهو كان يعتقد ان السوفيات يدعمون الارهاب، واذا عجز محللوه عن العثور على أي أدلة لدعم فرضيته فإن هذا لا يعني سوى انهم لم يدققوا بما فيه الكفاية.
واتجه كيسي وهيغ الى احد الكتب الرائجة آنذاك لتبرير حملتهم. وتضمن كتاب "شبكة الارهاب" لمؤلفه كلير سترلينغ، الذي نُشر بعد وصول ريغان الى السلطة مباشرة، كل ما يؤكد ادعاءاتهما، مشيراً الى الادلة "القاطعة" على الدور السوفياتي في الارهاب الدولي. وكان تأثير الكتاب هائلاً. واطلع هيغ عليه قبل ان يلقي كلمته في 27 كانون الثاني يناير. وزُعم بأن كيسي قال، مبرراً رفضه ما تضمنه تقرير "إس إن آي إي" الاصلي في شأن الدعم السوفياتي للارهاب، "اقرأوا كتاب كلير سترلينغ وانسوا هذا الهراء ... دفعت 95،13 دولاراً لشراء الكتاب وقد اطلعني على معلومات تفوق ما قدمتموه انتم ايها الاوغاد الذين ادفع لكم 50 الف دولار في السنة".
ونبّه موظف كبير في "سي آي أي" كيسي الى ان الكتاب هو في الواقع معلومات مضللة اُعيد انتاجها، لكن كيسي رفض ان يقبل ذلك. كانت الحقيقة في السياسة الخارجية التي تولى قيادتها تخضع الى الايديولوجية المحافظة الجديدة والانتهازية السياسية. وكان الاحساس السائد هو ان مكانة اميركا باعتبارها القوة العظمى الاولى في العالم تتراجع، إذ ترك ما تعرضت له من مهانة في فيتنام ندوباً عميقة، وبدا ان الاتحاد السوفياتي لم يلقَ مقاومة في غزوه لافغانستان، ولم تهدد الثورة الايرانية امدادات النفط لاميركا فحسب بل وجهت أيضاً ضربة مهينة باحتجاز موظفي السفارة الاميركية في طهران لمدة 444 يوماً. وراهن فريق ريغان في حملته الانتخابية على استعادة أميركا الثقة بالنفس، واحتل تبني سياسة خارجية مغامرة موقعاً محورياً في مشاريعه.
مع أخذ هذه الخلفية في الاعتبار، لم يكن مثيراً للاستغراب ان تُنقل ليبيا من موقع مغمور نسبياً الى مصاف "العدو الرقم واحد". ولم تكن ليبيا بقوتها العسكرية التي تُصنّف من الدرجة الثالثة وسكانها الذين لا يزيدون على أربعة ملايين نسمة تشكل أي تهديد حقيقي للولايات المتحدة. بالاضافة الى ذلك، لم تكن هناك أدلة تذكر على ان ليبيا تقف فعلاً وراء اعتداءات ارهابية، كما كانت الحال بالنسبة الى سورية والعراق والنظام الجديد في ايران. كما لم تكن هناك أي ادلة تشير الى ان ليبيا دولة تابعة للسوفيات ومتورطة بنشاط في مؤامرة شيوعية عالمية. وفي الوقت الذي اشترى القذافي معدات عسكرية من الاتحاد السوفياتي، احتفظ بنزعة استقلالية قوية وموقف مشكك تجاه كل القوى الاجنبية. وشكلت الاصولية الاسلامية منذ الثورة الايرانية قوة أكثر خطورة في الشرق الاوسط من الحركة القومية العربية على النمط القديم التي كان القذافي يتبناها. وعلى رغم انه أشاد بالثورة الايرانية وحركة "حزب الله" الناشئة في لبنان، فإنه لم يتساهل ازاء الاصولية الاسلامية في بلاده.
ولم تكن ليبيا لاعباً مؤثراً في النزاع العربي - الاسرائيلي او دولة مصدرة للنفط ذات اهمية حاسمة بالنسبة الى الولايات المتحدة. وباختياره القذافي هدفاً، كان يمكن رونالد ريغان ان يُظهر نفسه زعيماً حازماً يقف بصلابة ضد التهديد المزدوج المتمثل بالارهاب والاتحاد السوفياتي، فيما يتجنب في الوقت نفسه خوض نزاع حقيقي مع السوفيات او بقية العالم العربي. وكان القذافي، بدعايته المتطرفة المناهضة للغرب ودعمه المكشوف لتنظيمات ارهابية شرق اوسطية، اداة مفيدة لريغان. وفي وقت لاحق، اعترف هوارد تيتشر، وكان احد كبار مديري مجلس الامن القومي في عهد ريغان في الفترة من 1985 الى 1987، بأن ليبيا كانت هدفاً سهلاً:
"كان السوريون اكثر قدرة على إخفاء دورهم المباشر في الارهاب. وكان العراقيون رُفعوا من لائحة البلدان التي تدعم الارهاب، وذلك بتوجيه من كيسي مدير ال "سي آي أي" مطلع 1982 بهدف تسهيل الميل الاميركي الى جانب العراق. كما كان الايرانيون، بسبب موقعهم الجغرافي في الوقت الذي يرعون فيه الارهاب .... هدفاً يصعب على الولايات المتحدة الوصول اليه ... وما برز في السياسة الاميركية هو النزوع الى امتلاك القدرة على التعامل في شكل مباشر تماماً مع ليبيا، بسبب قربها جغرافياً من اوروبا والولايات المتحدة بالمقارنة مع العراق او ايران او سورية. كان التعامل مع البلدان الاخرى أكثر صعوبة بكثير".
وعرض ليليان هاريس، المحلل الاستخباراتي في وزارة الخارجية الاميركية، الأمر بصورة اكثر وضوحاً: "قدّم القذافي هذا الهدف الرائع، لأن بإمكانك ان تحارب السوفيات، وبإمكانك ان تحارب الارهاب، وبإمكانك ان تحارب العرب الشياطين".
ورغم الاختلال المضحك في القوة بين الولايات المتحدة وليبيا، اطلقت ادارة ريغان برنامجاً لل "سي آي أي" ضد القذافي يُعد من اوسع البرامج في تاريخ الوكالة. وحتى قبل مراسم تنصيب ريغان، دعا الكسندر هيغ الى اجتماع لكبار مسؤولي الاستخبارات في وزارة الخارجية لمناقشة التحرك الذي يمكن القيام به ضد ليبيا. كان هيغ مقتنعاً بادعاء كلير سترلينغ بأن ليبيا القذافي هي راعية الارهاب، وصدّق أن مشتريات القذافي من الاسلحة السوفياتية وفّرت غطاءً لاقامة قواعد عسكرية سوفياتية في شمال افريقيا. وعندما لفت ليليان هاريس الى ان الاسلحة كانت من نوعية متدنية ولم تكن من الصنف الذي يزود به الاتحاد السوفياتي قواته، كتب هيغ على هامش مذكرته "دعك من هذا. بحوزتهم كميات ضخمة منها". وفي لقاءاته مع المراسلين بدأ يشير الى القذافي بوصفه "سرطاناً يجب ان يُستأصل".
وفي مطلع الثمانينات، لمّح سيل من المعلومات الاستخباراتية الى ان القذافي يخطط لحرب ارهابية ضد الولايات المتحدة. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1981، توجه شخص ليبي يدّعي انه ارهابي الى احدى السفارات الاميركية في افريقيا وابلغ مسؤولين انه كان في معسكر لتدريب الارهابيين في ليبيا، حيث شاهد القذافي خلال اجتماع هناك وهو يصادق شخصياً على خطط لارسال فرق اغتيال الى الولايات المتحدة لاغتيال ريغان ونائب الرئىس جورج بوش وهيغ. ولم تقلل من تأثير رواية هذا المخبر حقيقة انه فشل في اجتياز اختبار بواسطة جهاز كشف الكذب اجرته "سي آي أي". واستبدّ بواشنطن جنون الارتياب. وتنقّل رونالد ريغان في سيارات مموهة ووضعت سيارات ليموزين في شوارع العاصمة لتضليل مهاجمين مفترضين. واُلغيت خطط لاشعال انوار عيد الميلاد في جادة بنسيلفانيا أفينيو، وبلغ الأمر حد توفير سيارة تابعة لجهاز الامن لترافق ابنة مايكل ديفر، نائب كبير موظفي البيت الابيض، الى المدرسة.
وبينما لم يكن هناك أدنى شك بأن القذافي ارسل فرق اغتيال تابعة له الى الولايات المتحدة واماكن اخرى لتصفية خصومه السياسيين، لم يتمكن مكتب التحقيقات الفيديرالي "إف بي آي" او ال "سي آي أي" من تقديم أي ادلة على ارسال هذه الفرق لقتل ريغان ومساعديه. ووصف ليليان هاريس رد الفعل الرسمي بأنه كان "هستيرياً"، ولمح الى ان حال الذعر العام ربما نجمت عن "خطة تضليل مصدرها بلد ثالث". واتضح في وقت لاحق ان الكثير من المعلومات كان مصدرها تاجر سلاح ايراني منوشير غوربانيفار؟ الذي اُشتبه في عمله لمصلحة جهاز الاستخبارات الاسرائيلي "موساد". وعلى رغم فشله في سلسلة اختبارات اجرتها له "سي آي أي" بجهاز كشف الكذب واعتباره شخصاً ملفّقاً من جانب الوكالة، اصبح غوربانيفار في فترة لاحقة وسيطاً رئيسياً في فضيحة ايران - كونترا. ونظراً الى أن وليام كيسي كان اصدر في وقت سابق توجيهاً الى رؤساء محطات الوكالة في ارجاء العالم لاطلاق حملة تضليل ضد ليبيا، فمن المحتمل ان يكون بعض ما سمي بمعلومات استخباراتية حول خطط القذافي الارهابية مجرد اكاذيب بثتها "سي آي أي" واُعيد ترويجها. وكان أحد انشط المشاركين في حملة التضليل الكولونيل اوليفر نورث الذي لم يشعر بأي ندم، حسب زملاء سابقين، على نشر روايات كاذبة.
لم تكن الحرب الدعائية كافية بالنسبة الى الصقور في حكومة ريغان. فقد استندوا الى موجة الغضب التي اثارها ما نسجوه من روايات مضللة ليطالبوا بتحرك عسكري. ورداً على رواية "فرق الاغتيال"، اصدر الكسندر هيغ ووليام كيسي ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر اوامرهم بإعداد خطط طوارىء "لتنفيذ عمل عسكري ضد ليبيا دفاعاً عن النفس، اذا وقع استفزاز ليبي آخر". وتقرر النظر في كل الخيارات باستثناء القيام بغزو عسكري شامل.
وعلى رغم استعداد الادارة لتصديق معلومات استخبارية غير مثبتة، لم يتمكن البيت الابيض من الحصول على ذريعة لتنفيذ هذه الخطط. وعلى امتداد عامي 1982 و1983، عجزت وزارة الخارجية الاميركية عن العثور على حادثة ارهابية واحدة تقدم أي دليل على تورط ليبيا. ومع ذلك، في مطلع 1983، بدأت ملامح خطة بالغة السرية اُطلق عليها "النداء المبكر" تتكامل بمساعدة من مصر والسودان. وكانت الخطة تهدف الى استدراج القذافي لشن هجوم على السودان كي يمكن إيقاع قواته في فخ. وتضمنت انشاء خلية ثورية زائفة في السودان ناشدت القذافي مساعدتها. واُرسلت طائرات الاستطلاع الاميركية "اواكس" سراً الى مصر لمساعدة سلاح الجو المصري على تنفيذ الهجوم. ولمح تعزيز للقوات على حدود ليبيا مع السودان الى ان القذافي تلقى الطُعم. وكانت العملية على وشك ان تبدأ عندما اجبرت عاصفة رملية ثلاثاً من طائرات "اواكس" على الهبوط في مطار القاهرة المدني الرئيسي وسُرّبت انباء عن الخطط الى شبكة تلفزيون "أي بي سي". وبدا ان القذافي تخلى عن مشاريعه بعدما ادرك أنه يواجه خطر الوقوع في فخ. واعتبرت الولايات المتحدة الكارثة المفاجئة انتصاراً على العدوان الليبي.
وفي ايار مايو 1984، ادت محاولة انقلابية برعاية "سي آي أي" نفذها معارضون ليبيون في المنفى الى عملية تطهير دموية راح ضحيتها 75 من الضباط الذين اشتبه القذافي بأنهم خانوه. وتعمقت آنذاك مشاعر الاحباط وسط المتشددين داخل مجلس الامن القومي و "سي آي أي" بسبب ما اعتبروه اخفاقاً في التعامل بحزم مع ليبيا. وطلب مجلس الامن القومي من "سي آي أي" اعداد مسودة توجيه رئاسي يخول الوكالة تأمين مساعدات عسكرية لجماعات المعارضة المسلحة الليبية. ولإعداد المستلزمات الاساسية للخطة توجه دونالد فورتيير مدير الشؤون السياسية - العسكرية في مجلس الامن القومي الى فينسنت كانيسترارو، الضابط في ال "سي آي إي" الذي اُلحق بمجلس الامن القومي ليرأس فريق العمل الخاص بليبيا بالاضافة الى مهمات اخرى. واقترح هو وفورتيير تبني توجّهين جديدين لابقاء الضغوط على القذافي، وُصف احدهما بأنه "واسع" والثاني ب "جريء". وتضمن الاول زيادة الضغوط على المواطنين ورجال الاعمال الاميركيين كي يغادروا ليبيا، بالاقتران مع اجراءات تعطي الانطباع بأن الولايات المتحدة تتخذ موقفاً أكثر فاعلية تجاه ليبيا. وكان بين الاجراءات المقترحة إجراء مناورات بحرية أميركية قبالة شواطىء ليبيا للتأكيد على حرية الملاحة، الى جانب تحركات استفزازية لقطع بحرية في خليج سرت شمال ليبيا مباشرة.
وتضمن التوجه الجريء "بعض الخطوات المكشوفة والسرية المصممة لتسليط ضغوط كبيرة على القذافي وربما لتؤدي الى ازاحته من السلطة". واقترحت الوثيقة ان تشجع الولايات المتحدة مصر والجزائر "على السعي الى ايجاد ذريعة للعمل العسكري ضد طرابلس"، وانه ينبغي للولايات المتحدة ان تزود جماعات المعارضة اسلحة ومعلومات استخبارية تمكّنها من تنفيذ عمليات تخريب داخل ليبيا.
وفي 1985، اكتملت خطط ملموسة بالغة السرية للتخلص من القذافي تحت الاسم الرمزي "زهرة/وردة". وتضمنت الخطة، التي تولى إعدادها بشكل اساسي روبرت غيتس الذي اصبح في وقت لاحق مدير "سي آي أي" في عهد الرئىس بوش، تنفيذ ضربة عسكرية وقائية بالتعاون مع حلفاء اميركا. ووعد غيتس ان تؤدي هذه الضربة الى "إعادة رسم خريطة شمال افريقيا". وفي مثل هذه الضربات العسكرية كانت الولايات المتحدة ستقدم دعماً جوياً، وستكون ثكنات القذافي احد الاهداف. كان رونالد ريغان وقْع، عندما تولى مهماته، "الامر الرئاسي 12333" الذي نص على "ألاّ يشارك أي شخص موظف لدى حكومة الولايات المتحدة أو يعمل بالانابة عنها، او يتآمر للمشاركة، في عملية اغتيال". وعند مناقشة خطة غيتس اكد ريغان أنه هو شخصياً سيتحمل الانتقادات اذا قُتل القذافي".
ومع انقضاء عام 1985، واصل مجلس الامن القومي مساعيه لتنفيد الخطة، لكن اعتراضات من وزير الخارجية جورج شولتز وفتور في العلاقات مع الحليف الحاسم، مصر، ادى الى التخلي عنها في النهاية. لكن هذا لم يخفف من استعدادات مجلس الامن القومي لهجوم على ليبيا، ولا رغبته في يأخذ على عاتقه مثل هذا الهجوم. وبلغت هذه الرغبة درجة الحمى اثر سلسلة حوادث ارهابية وقعت في وقت لاحق تلك السنة. في حزيران يونيو 1985، اختطف لبنانيان طائرة ركاب تابعة لشركة الخطوط الجوية "تي دبليو أي" عندما اقلعت من اثينا الى روما. وكان اربعون اميركياً بين الركاب الذين اُجبروا على تحمل معاناة استمرت 17 يوماً، في بيروت اولاً وبعدها في الجزائر. وقُتل احدهم، روبرت ستيذم، الغواص في البحرية الاميركية. لم تكن هناك أي ادلة تربط القذافي بعملية الخطف التي كانت بلا شك من تدبير "حزب الله". ولم تتمكن الولايات المتحدة من الرد بضرب "حزب الله" ورعاته في ايران وسورية، لأنهم كانوا يحتجزون اميركيين رهائن ولم تكن هناك رغبة في تكرار ازمة السفارة الاميركية في طهران في 1980.
وفي تشرين الاول اكتوبر 1985، خطف اربعة ارهابيين ينتمون الى "جبهة التحرير الفلسطينية" التي يتزعمها ابو العباس السفينة الايطالية "أكيلي لارو" بعد مغادرتها ميناء الاسكندرية في مصر. وقتل راكب اميركي كبير بالسن ومُقعد، ليون كلينغهوفر، عندما اُطلق عليه النار واُلقيت جثته في البحر. ومرة اخرى، لم تكن هناك أي أدلة تربط العملية بالقذافي.
وفي الشهر التالي وقعت عملية خطف دموية اخرى عندما سيطر ثلاثة من اعضاء منظمة "ابو نضال" على طائرة ركاب مصرية اثناء رحلة من اثينا الى القاهرة. واثر مواجهة مسلحة على متن الطائرة أدت الى حدوث تخلخل في ضغط الهواء داخلها، اجرت الطائرة هبوطاً اضطرارياً في مطار لوقا في مالطا. وادى فشل عملية نفذها كوماندوس مصريون، بإصرار من الولايات المتحدة، الى مقتل 57 شخصاً.
هذه المرة اعلنت الولايات المتحدة أن لديها أدلة على تورط القذافي. ولم يكتف مجلس الامن القومي بالادعاء بأن "ابو نضال" موجود في ليبيا بل اعلن أيضاً أنه حصل على مقاطع من اتصالات جرت بين المكتب الشعبي الليبي في مالطا والحكومة في طرابلس. واظهرت هذه الرسائل، حسب زعم مجلس الامن القومي، ان طرابلس كانت شريكاً في عملية الخطف وانها بعثت برسائل الى الارهابيين الثلاثة. ولم تُنشر أي من هذه الرسائل كي يمكن تفحصها بصورة مستقلة. وبحسب بوب وودوارد، الصحافي الذي اشتهر بكشف فضيحة "ووترغيت"، فإن التنصت الاستخباراتي على محادثات اجراها القذافي عند وقوع عملية الخطف لم يكشف وجود أي تورط ليبي. وافاد وودوارد ان اوليفر نورث سعى بنشاط الى الحصول على مثل هذه الأدلة، وتكهن بأنه عندما لم يعثر نورث على مثل هذه الادلة لجأ الى اختلاقها. واكد كلٌ من جهاز الاستخبارات المصري ورئىس الوزراء المالطي آنذاك، مفسود بونيشي، بأن عملية الخطف خُطّط لها في الواقع في دمشق.
وبعد يومين على عيد الميلاد في 1985، اطلق مسلحون تابعون لمنظمة "ابو نضال" النار بشكل متزامن على مكاتب التذاكر في مطاري روما وفيينا، فقتلوا 19 شخصاً من بينهم خمسة اميركيين. وتحدث الرئىس ريغان عن "أدلة لا تٌدحض" تربط القذافي بالاعتداء. وكان الارهابيون يحملون جوازات سفر تونسية قالت الحكومة التونسية أنها صودرت من تونسيين كانوا يعملون في ليبيا. ولم يخفف القذافي من الشكوك عندما وصف المذبحتين ب "اعمال بطولية"، لكن عندما جرى تحليل الادلة لم يُعثر على شيء يورّط ليبيا في الاعتدائين. وافضل ما استطاعت الاستخبارات الاميركية التوصل اليه هو تقرير يظهر ان عملاء ليبيين نقلوا مليون دولار الى حساب مصرفي لأبو نضال في بلغاريا قبل ذلك ببضع سنوات. وفي الشهر الذي اعقب الحادثتين، اعترف روبرت اوكلي رئىس قسم مكافحة الارهاب في وزارة الخارجية الاميركية بأنه "لا توجد أدلة تذكر او أي أدلة تربط القذافي". وابلغ الارهابي الوحيد الذي بقي على قيد الحياة في عملية مطار روما السلطات الايطالية انه كان تلقى التدريب على أيدي عملاء سوريين في معسكر في سهل البقاع في لبنان وانهم كانوا رافقوه من دمشق الى روما. وبعد تحقيق استغرق سنة، توصل المدعي الايطالي دومينيكو سيكا الى ان كلا الاعتدائين خطّط فعلاً في دمشق.
لم يكلّف مساعدو ريغان المتشددون انفسهم عناء التفكير بمثل هذه الاعتبارات الثانوية. وبعد بضعة ايام من مذبحتي روما وفيينا، تلقى ضباط سلاح الجو الاميركي في قاعدة لاكنهيث في انكلترا اوامر بوضع خطط لضربات جوية على القاعدتين الجويتين الرئيسيتين في ليبيا. ومع اقتراب ربيع 1986، كان الزخم لشن هجوم على ليبيا قد اصبح لا يُقاوم.
واقترح دونالد فورتيير، مساعد مستشار الامن القومي آنذاك، ضرورة ان تكون هناك ردود "غير متناسبة" على استفزاز من جانب ليبيا، لكن ما حدث في الواقع هو ان الاستفزاز جاء من معسكره بالذات. في كانون الثاني يناير، بدأ الاسطول السادس الاميركي سلسلة مناورات تحمل العنوان الرسمي "عمليات قرب ليبيا". وكشف قائد الاسطول السادس نائب الاميرال فرانك كيلسو في وقت لاحق ان "تعليماتنا كانت تقضي بتشغيل قوات البحرية الاميركية في خليج سيدرا. يمكنكم ان تضفوا أي سياق على ذلك كما تشاؤون، لكن كانت هذه هي تعليماتنا".
وعلى مدى الاشهر القليلة اللاحقة، اصبح توغل البحرية الاميركية في الخليج اعمق فأعمق. وتضمنت العملية ملامح من اقتراحات فينسنت كانيسترارو السابقة، لكن الهدف هذه المرة لم يكن زعزعة القذافي بل استدراجه الى شن هجوم من شأنه ان يوفر ذريعة لرد "غير متناسب".
وفي آذار مارس بدأت المرحلة الثالثة من العملية، واُطلق عليها الاسم الرمزي "نار المروج". وحُشدت معدات عسكرية قيمتها 60 بليون دولار، من ضمنها ثلاث حاملات طائرات، ومع ذلك لم يمكن استدراج القذافي الى الفخ. ومع التحرّق الى تنفيذ الخطة، أصدرت الحكومة الاميركية اوامرها بتغيير مثير في قواعد الاشتباك. في ظل الظروف العادية لا يُسمح لقادة البحرية بالرد إلاّ على عمل عدائي، لكن هذا الرد اصبح الآن مسموحاً به ضد أي جهة يُعتبر أن لديها "نية عدوانية". وبما ان النية العدوانية تُعرّف بأنها الحالة التي يكون فيها المقابل في وضع يمكّنه من شن هجوم، اصبحت مجموعة كاملة من السفن والطائرات والمواقع العسكرية الليبية، بجرّة قلم، اهدافاً مشروعة.
وفي 24 آذار مارس، بعدما اقتربت طائرة من طراز "إف -14" تابعة للبحرية الاميركية الى مسافة لا تبعد اكثر من 60 ميلاً عن الساحل الليبي، اُستفزت القوات الليبية اخيراً وردت بإطلاق صاروخين ارض - جو، سقط كلاهما في البحر من دون الحاق أي أذى. وما أثار حنق الصقور في ادارة ريغان ان قائد الاسطول، نائب الاميرال فرانك كيلسو، اختار عدم الرد. لكن بعد ذلك بوقت قصير اغرقت طائرات تابعة للبحرية الاميركية زورقي دورية ليبيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.