ختم وزير الخارجية المصري عمرو موسى يومه الاخير في الوزارة بالقول ان تصريحات قادة اسرائيل لا تستحق الا سلّة المهملات. وبدأ يومه الاول كأمين عام جديد لجامعة الدول العربية الاربعاء الماضي باستقبال الرئيس ياسر عرفات، وتطمينه الى ان القضية الفلسطينية تشكّل الموضوع الاساسي في سلسلة اهتماماته الاقليمية. وكان بهذا التركيز على النزاع العربي الاسرائيلي يشير الى اهمية الدور المناط به والى الاسباب الخفية التي نقلته من وزارة فاعلة الى هيئة رمزية تحتاج الى ترميم وتفعيل. من هنا يرى المراقبون في القاهرة ان عملية تغيير الأدوار لم تحمل في دوافعها مؤشرات الترقية والترفيع، وإنما كانت نوعاً من العقاب الصامت لأن موسى تجاوز الخطوط الحمر في ادائه الرسمي. او لأنه بالغ في التودد لإيقاع الشارع الغاضب بحيث ظهرت السياسة الخارجية المصرية بمظهر الموقف المعزول والمنفصل عن سياسة الدولة. لهذه الاسباب وسواها اشار بعض الصحف الى ان اختيار احمد ماهر جاء كإيضاح لموقف ملتبس مفاده ان الدولة هي التي ترسم اطار السياسة الخارجية، وان الوزير الجديد لن يستخدم منصبه لتحقيق طموحات اخرى. المطرب الشعبي المصري شعبان عبدالرحيم، صاحب اغنية "انا بكره اسرائيل" أقحم نفسه في الجدل الدائر حول الاسباب التي أدت الى نقل عمرو موسى، وقال لوكالة "فرانس برس": "لا يوجد احد يستطيع تسيير امور الدول العربية كما سيفعل موسى الذي ينتقل بإرادته الى موقع يستطيع من خلاله القيام بدور المنسق والموفق والموحّد". ومن المؤكد ان هذا التفسير العفوي الذي تبرع بعرضه احد اشهر مطربي المرحلة، يمكن ان يريح الدولة، خصوصاً ان النقاش انتقل الى اروقة الجامعات واحاديث سائقي التاكسي. ولقد حسم الرئيس حسني مبارك الجدل المتراكم منذ ثلاثة اشهر بالقول "ان وزير الخارجية ينفّذ الخط السياسي الذي يرسمه رئيس الجمهورية". وكان بهذا الايضاح يريد اقناع الشارع العربي بأن موسى لم يكن مصمماً وانما منفّذاً. ثم أتبع كلامه بطرح المواصفات النموذجية المطلوبة من وزير الخارجية فقال: "على الوزير الجديد ان يكون رصيناً، يعرف كيف يختار الوقت المناسب لاحاديثه وتصريحاته ومواقفه". وربما يكون هذا الاطار المرسوم بعناية لا يصلح الا لصورة احمد محمود ماهر المعروف بين موظفي الخارجية بأنه يميل الى التكتم والهدوء بعكس عمرو موسى الذي اكتسب شعبية واسعة بسبب تصريحاته الحماسية. ويبدو ان القاسم المشترك الذي يوازن به الخلف سمعة السلف ينحصر في علاقاته المميزة مع القيادات الفلسطينية، ومع ياسر عرفات بالذات الذي طالبه بمواصلة دعم القضية. ولقد رسخ ماهر علاقات وطيدة مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اثناء تمثيله مصر في تونس خلال الثمانينات. ومن المتوقع ان يبدأ مهماته بتحديد موعد اجتماع لجنة المتابعة، ومناقشة الاجراءات التي سيتخذها وزراء خارجية الدول الاسلامية في الدوحة. باشر عمرو موسى مهام منصبه الجديد باعلان تصوره لفكرة تطوير جامعة الدول العربية، مشدداً على الحاجة الى اعادة هيكلة نظام أُنشئ قبل نصف قرن. وقال في كلمة امام رؤساء ادارات الجامعة، انه معني بتفعيل العمل العربي المشترك ومعالجة مختلف القضايا المشتركة التي من شأنها ان توفر المناخ الصالح لبناء نظام عربي جديد. وهو يتوقع ان يحقق النجاح بفضل تمرسه بالحقل الديبلوماسي فترة طويلة يعتبرها كافية لأن تكسبه الخبرة والدراية اللازمتين لتعزيز نشاط المنظمة. كما يرى ان الصلات الوثيقة المباشرة التي بناها مع كبار المسؤولين العرب يمكن ان تعينه على ترميم التصدّع الذي احدثه غزو الكويت، وموضوع احتلال الجزر الثلاث، اضافة الى القضية المركزية اي القضية الفلسطينية التي تشكل التحدي المزمن للجامعة ودولها. والمعروف ان الجامعة ولدت 7 تشرين الاول/ اكتوبر 1944 مع ثلاث قضايا مهمة هي: الاحتلال الفرنسي للجزائر، استمرار الانتداب الفرنسي لسورية ولبنان، والحؤول دون اقامة دولة يهودية في فلسطين. وبعد انقضاء اكثر من نصف قرن ورث عمرو موسى عن اسلافه عبدالرحمن عزام وعبدالخالق حسونة ومحمود رياض والشاذلي القليبي وعصمت عبدالمجيد هموم المشكلة الفلسطينية مع كل ما خلفته من تداعيات على الساحة العربية. وهي تداعيات خطيرة خلقت العديد من الازمات بين الدول العربية من جهة، وبين منظمة التحرير والاردن ولبنانوالكويت من جهة اخرى. ومع ان حالات الانقسام والتوتر كانت تبدو عفوية، إلا أن حماية المصالح الغربية والتدخل الاسرائيلي المتواصل، لعبا دوراً اساسياً في تخريب النظام الاقليمي العربي، أي النظام الذي تعهد بن غوريون بالعمل على تفكيكه، لأن الوحدة في نظره، تمثّل تهديداً لأمن اسرائيل أشد خطراً من حيازة القنبلة النووية. لهذا ارتبطت غالبية الحروب الاسرائيلية بتوقيت اعلان الوحدات العربية، علماً بأن أسبابها كانت تنطوي على أمور جانبية أقل أهمية وخطراً. ثم تغيّرت هذه الاستراتيجية اثر المصالحة التاريخية في مدريد واوسلو بحيث استبدل شمعون بيريز خطة تفكيك العالم العربي بخطة بديلة تهدف الى تذويب الطابع الوحدوي. واطلق بيريز على مشروعه المستحدث اسم "الشرق الاوسط الجديد" على ان يضم اليه تركيا وايران والجمهوريات الاسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي. والغاية من كل هذا تكمن في خلق موازين قوى سياسية وعسكرية واقتصادية تكون اسرائيل مرساتها الاقليمية وحاضنتها المالية. ولقد تعهد عمرو موسى بتجديد حلم النظام العربي الموحد، شرط مساهمة الدول الاعضاء في وضع استراتيجية عربية مشتركة تكون الاطار السياسي لمواجهة تحديات اسرائيل، خصوصاً وان بيريز طالب بالغاء مواقع المركزين الاقليميين، السياسي والاقتصادي، من مصر ودول مجلس التعاون الخليجي ونقلهما الى اسرائيل، على ان يحلّ مشروع الشرق - أوسطية محل جامعة الدول العربية. قدمت مصر في مؤتمر عمان الاخير ورقة اقتصادية تتعلق بأهمية التعاون الاقليمي داخل خطة شاملة قادرة على تطوير التعاون على مختلف الأصعدة. وشددت الورقة المصرية على ضرورة الاهتداء بنموذج الاتحاد الاوروبي كقاعدة انطلاق تمثل فيها الجامعة العربية قوة الاستقطاب والتنسيق. وساهم الأردن في رسم صورة التعاون على صعيد الاتصالات والمواصلات والتبادل التجاري وكل ما يعود بالمنفعة على الدول الاعضاء. وربما اعتمدها عمرو موسى كانطلاقة لصنع نظام اقتصادي يؤمن الافادة من الثروات الوطنية، ويوطد دعائم التقارب السياسي بعيداً عن النزاعات الاقليمية التي تعاني منها المنطقة. وهي نزاعات متجذرة وظفتها الدول الكبرى لتمرير مؤامراتها ضد النظام العربي. وكان من الطبيعي ان تتوالد من رحمها صراعات داخلية تسعى الى التفتيت والقسمة كما في العراق والجزائر. اضافة الى ازمة العلاقات العربية العربية مع كل ما يرافقها من حركات العنف السياسي وتنظيمات القوى الاصولية والطائفية. يقول المطلعون على شؤون الجامعة إن الطموحات الكبيرة ليست كافية لتحقيق الانجازات الكبيرة. ومعنى هذا ان البرنامج الحافل بالمفاجآت الذي يعده عمرو موسى سيصطدم بقرار الحكومات والمؤسسات المناهضة لحركة التغيير. وبما ان الجامعة محكومة منذ نشأتها بإرادات الحكومات العربية، فإن الاستحواذ على إرادة ذاتية مستقلة يبدو ضرباً من الخيال. والسبب أن الخلل الذي تعرض له الميثاق جرد الجامعة من أهم خصائصها القومية بحيث اصبحت وعاءً ترمى فيه كل التعارضات والتواترات. وكان من الطبيعي ان تؤثر معاهدات السلام على عمل المنظمة بعد تفريغ معاهدة الدفاع المشترك من محتواها. اي المادة الثالثة التي تعتبر "كل اعتداء مسلح يقع على اي دولة هو بمثابة اعتداء على الجميع". وهكذا أباحت هذه المادة استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء. لكن مجلس الدفاع المشترك ظل عاجزاً عن تنفيذ موجبات المعاهدة، لأن قرارات القمم العربية المتعلقة بالتزامات القيادة الموحدة بقيت حبراً على ورق. يستفاد من تلميحات الامين العام الجديد انه عازم على اجراء تعديلات على ميثاق الجامعة تتناول موضوع تأسيس محكمة العدل العربية وتوسيع هيئات الامانة واعتماد آليات جديدة. ومثل هذه الطروحات ليست جديدة بدليل ان ملف التعديلات لعام 1961 لحظ هذه الخطوات وأقرّ مبدأ انشاء مؤسسة شعبية هدفها تسهيل تعاون الشعوب العربية. وتطرقت التعديلات الى مواضيع احترام حقوق الانسان العربي وضمان سيادة القانون وكفالة العدالة الاجتماعية والحريات الاساسية. ونتج عن هذا التحرك تعارض مع دساتير الدول وتشريعاتها بحيث اصبحت فكرة التعديل مهيأة لاحداث أزمة واسعة. ولما وضعت هذه المقترحات تحت تصرف "اللجنة التوجيهية لحقوق الانسان" حولتها الامانة العامة الى لجنة خبراء على امل وضع "الاعلان العربي لحقوق الانسان". وردت غالبية الدول العربية على هذه الوثيقة برفض مضمونها في حين اجابت تسع دول اجابات متناقضة لا تنمّ عن قناعة بجدواها وفحواها. وهكذا طويت الى حين بانتظار ايجاد ارادة جديدة صلبة قادرة على احيائها. تشير سجلات الجامعة الى فشل اهم امنائها بسبب هيمنة بعض الدول الاعضاء على القرارات. وهذا ما حدث لعبدالرحمن عزام ومحمود رياض والشاذلي القليبي. علماً بأن الظروف السياسية التي عمل فيها كل من الثلاثة كانت مختلفة. إلا أن الانظمة الحاكمة رفضت تطبيق الشعار القومي، وهمّشت دور الجامعة بطريقة فرضت الاقصاء. ومع ان عمرو موسى لم يخيّر بين البقاء في منصبه وبين حرية الانتقال الى امانة الجامعة، إلا أنه ظل يحتفظ لنفسه بقرار التنحي، في حال اكتشف انه سيتعرض لصعوبات مفتعلة بهدف اظهاره امام الرأي العام بمظهر العاجز او الفاشل. وللمحافظة على الحد الادنى من مكاسب دوره المنتظر، فهو راغب في الحفاظ على وحدة الصف العربي وعلى براعة التوفيق بين المثالي والعملي. ومعنى هذا انه في صدد المحافظة على ضبط الايقاع السياسي بين الدول الاعضاء، بحيث تأتي التدابير العملية منسجمة مع موجبات الميثاق، ومع صورة المنقذ التي تجسدت في الاجماع الذي لقيه الامين العام السادس لجامعة الدول العربية! بقي أن نذكّر أن بروتوكول الاسكندرية 1945 أضاف إلى قرارات إعلان التأسيس قرارين خاصين، الأول "يقضي باحترام سيادة لبنان واستقلاله"، والثاني "يقضي بالعمل على تحقيق الأماني المشروعة لعرب فلسطين وصيانة حقوقهم العادلة". المؤسف أنه بعد مرور 56 سنة، لم تنجح الجامعة في تأمين تنفيذ هذين القرارين، الأمر الذي أبقى السيادة اللبنانية والحقوق الفلسطينية عرضة للسلب والنهب. والسبب أن الجامعة فشلت في تثبيت دورها المركزي كمرجعية أساسية تتقدم سائر المرجعيات الاقليمية والدولية. كما فشلت الأمانة العامة في بناء مرجعية قومية قادرة على فرض أحكامها على الدول الأعضاء. وربما كان هذا هو الدور الذي يبحث عنه عمرو موسى! * كاتب وصحافي لبناني.