انتفاضة الأقصى، بقدر ما أثبتت استعداد الشعب الفلسطيني اللامتناهي للتضحية والاستعداد الكامن في شعوب الأمة العربية لدعمه، بقدر ما كشفت عن العيوب التكوينية للعقل السياسي للنخبة العربية التي اعجزته عن ترجمة هذا الاستعداد الى مكاسب ملموسة تصلح للبناء المستقبلي التصاعدي عليها. وما يثير القلق حقاً هو ان محاولات تصحيح الخلل التكويني للعقل السياسي العربي، على جديتها، تعاني من عيوب معينة. هذا ما تشير اليه مراجعة لوثيقة بعنوان "مشروع استراتيجية وخطة عمل للصراع العربي - الصهيوني" كان قد أصدرها المؤتمر القومي العربي الذي هو تجمع لقطاع عريض من الشخصيات العربية القيادية يستهدف إرساء مرجعية قومية شعبية مستفيداً من دروس الماضي. تتميز الوثيقة بشمولية ودقة التحليل وسلامته في جانب أساسي هو المتعلق بطبيعة العدو الصهيوني وطبيعة صراعنا معه وهذه الملاحظات النقدية حولها تهتدي بقناعة مؤداها ان مساهمة الحركة القومية، بالمعنى التقليدي للكلمة الذي يحيل الى الناصرية والبعث وحركة القوميين العرب أساساً، في صياغة مثل هذه الاستراتيجية وتنفيذها رهينة باستكمال واجبات النقد الذاتي لتجربتها السابقة. وفي هذا يبدو أن المشروع يقلل عموماً من مسؤولية الحركة القومية الناصرية والبعثية في تهيئة العامل الأساسي وراء وصول القضية الفلسطينية الى حافة التصفية وهو تدهور قوة الحركة الشعبية العربية الذي جردها من امكان مقاومة المصادر العربية والأجنبية لهذه التصفية التي ستظل موجودة دائماً بينما تعتمد فاعليتها على مدى قوة أو ضعف نقيضها. آن للقوميين وكاتب هذه السطور يحسب نفسه ضمنهم باعتباره أسهم في تأسيس حزب البعث -السودان الاعتراف بمسؤوليتهم الرئيسية في اطلاق الموجة التي أدت الى التصفية شبه الوشيكة للقضية الفلسطينية بمساهمة متنامية القدر من الأطراف العربية الأخرى لاحقاً، على رغم كل انجازاتهم في المرحلة السابقة لذلك بالنسبة الى هذه القضية وغيرها. هل كان من الممكن للقرار رقم 242 ان يكون بداية الدخول العربي في مجال قبول الحلول التصفوية المآل كما حدث ويحدث فعلاً لو لم تقبله القيادة الناصرية بالذات نظراً لوزنها التاريخي في مخيلة الجماهير وآمالها وقناعاتها؟ ومع ملاحظة ان الشق الآخر للحركة السياسية العربية الحديثة وقتها وهو اليسار الماركسي كان يعاني من العيب نفسه وكذلك القطاع العريض من النخبة المنتسب الى الأجواء العامة لهذه الحركة من دون انتماء تنظيمي أو/و ايديولوجي، يضاف ان حلول الاسلام السياسي محل الحركة القومية واليسارية في النفوذ الجماهيري منذ السبعينات عمّق التكوين اللاديموقراطي للعقل العربي السياسي بدرجة لم تفلح معها التحولات الديموقراطية النسبية في تلك الحركة ابتداء من الثمانينات في التغلب عليه. لذلك يصعب قبول ما ورد في المشروع ص 6من دون تحفظات، من اعتبار ظاهرة الصحوة الاسلامية التي ترفع راية الجهاد أحد تباشير الصراع الحضاري الذي يتعين عليه "كسب معركة الديموقراطية في البلدان العربية" لكي يكون فاعلاً. على أساس هذا الفهم لجذر المشكلة فإن اتفاق أوسلو كان تعبيراً عن خفض سقف القدرات العربية الى أدنى درجاتها نتيجة انعدام الحاضنة الشعبية العربية للحقوق والنضالات الفلسطينية اما بالخمول أو بالحركة العشوائية الناجمة عن تزايد نفوذ الاسلاميين اذ تتحدد أهدافهم وأساليبهم تحت تأثير الجناح المتطرف واللاعقلاني في أوساطهم. من هنا فإن الاتفاق ليس ناتج العقلية الكيانية الفلسطينية كما جاء في المشروع لأن تبلور هذه العقلية كان وراءه خيبة أمل الفلسطينيين في الحركة القومية أكثر من غيرها بعدما اعطوها الكثير نخبة وجماهير. وكون اتفاق أوسلو حاصل ضعف الوضع الشعبي العربي نتيجة ضعف التكوين الديموقراطي الموروث من مرحلة المد اليساري والمكتسب من مرحلة المد الاسلامي، يعني ان البديل الذي يمكننا الالتفاف حوله غير موجود حالياً لأن الرفض المجرد من قوة كافية تجعله أمراً عملياً ليس بديلاً. كل الشجاعة ونبل التضحيات التي قدمها منتسبو الحركة الاسلامية الفلسطينية لم تفلح في تحريك الشارع العربي بالمستوى والديمومة المطلوبين بسبب انطواء خطابها الايديولوجي والسياسي وممارساتها على الضعف المشار اليه. على هذا الأساس فإن الموقف الصحيح هو دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة واطارها الانتفاضي ولكن في اطار استراتيجية سياسية تستهدف تقوية الطرف الفلسطيني المفاوض في تنفيذ اتفاق اوسلو وتفرعاته وفي الوقت نفسه استخدام وسائل الضغط المتوافرة كافة لدى النخب العربية لتطوير المحتوى الديموقراطي للسلطة الوطنية الفلسطينية ومعارضاتها الاسلامية وغير الاسلامية. هو، اذاً، تأييد نقدي للطرفين: المقاومة والسلطة. هدف التحرير الكامل لفلسطين ممكن، بداية من دولة فلسطينية قاعدتها الشعبية ممتدة من المحيط الى الخليج بالوعي المقرون بالحماسة العامة وبالتالي التغذية المستمرة بكل أشكال الدعم الذي يشمل الحكومات أيضاً طواعية أو اجبارياً بقدر تمثيلها لمواطنيها. بذلك تظل الدولة الفلسطينية قادرة على التعايش الندي مع دولة اسرائيل وبمرور الزمن المرتبط بتراكم القدرات الذاتية العربية الفلسطينية وغير الفلسطينية نتيجة تراكم الخبرات الذي تتيحه الآلية الديموقراطية، مع التبدل الحتمي في التوازنات الدولية، سينتهي الأمر الى قيام دولة ديموقراطية واحدة علمانية ذات غالبية فلسطينية عربية قومياً ومسلمة - مسيحية - يهودية دينياً وأقليات أوروبية. * كاتب سوداني.