عبدالعزيز بن سعود يرعى حفل تخريج 1935 طالبًا من كلية الملك فهد الأمنية    انطلق بمشاركة 100 كادر عربي وأوربي.. أمين الرياض: «منتدى المدن» يعزز جودة الحياة ويقدم حلولاً مشتركة للتحديات    حفل خريجي «المنشآت التدريبية» برعاية أمير تبوك.. غداً    عبدالعزيز بن سعد يشهد حفل تخرج جامعة حائل.. غداً    405 مليارات إجمالي إيرادات الربع الأول.. 80 مليار ريال توزيعات أرباح «أرامكو السعودية»    5.6 % نمو "غير النفطية".. ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي    ديوانية الأطباء تكرم البحرينية بثينة عجلان    كبرى شركات النفط تستعد لأوقات عصيبة مع تأثر المنتجين بانخفاض الأسعار    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء «غرفة الأحساء»    السعودية تقود المشهد من حافة الحرب إلى طاولة التهدئة    "اعتدال" و"تليجرام" يزيلان 16 مليون مادة متطرفة في 3 أشهر    بعد 50 عامًا في المدار… سقوط مركبة سوفيتية فاشلة    دبلوماسية الحسم    سياسيون ل«الرياض».. زيارة ترمب تفتح آفاق المستقبل للعلاقات الدبلوماسية    القادسية ل" الثالث".. والرائد إلى" الأولى".. الاتحاد يقترب من " روشن".. والشباب يعبر الأهلي    سورلوث مهاجم أتلتيكو يتفوق على ميسي ورونالدو    تحضيرًا لجولتي الحسم في تصفيات مونديال2026.. الشرقية تجهز الأخضر لمواجهتي البحرين وأستراليا    أسرة الجهني تحتفي بزواج عمّار    احتفال آل برناوي وآل سيامي بعقد قران حمزة    91 % نسبة رضا المستفيدين عن أداء الموظفين بديوان المظالم    «المظالم» يُسجّل قفزة في رضا المستفيدين    عودة «عصابة حمادة وتوتو» بعد 43 عامًا    أمريكية وابنها يحصلان على الماجستير في اليوم نفسه    الهروب إلى الخيال..    بتنظيم من وزارة الشؤون الإسلامية.. اختتام تصفيات أكبر مسابقة قرآنية دولية في البلقان    المملكة تواصل ريادتها الطبية والإنسانية    أبشر.. أكثر من 33 مليون عملية إلكترونية في مارس    العميد على بعد خطوة من التتويج    الاحتلال الإسرائيلي اعتقل 770 طفلًا من الضفة منذ بدء حرب الإبادة    نادي القادسية يتوّج بكأس وزارة الرياضة لكرة الماء    دوليون يستكشفون إرث المملكة الحضاري ونهضتها    «الدرعية لفنون المستقبل» و«سكاتاريلا أسوسياتي» يفتتحان «البصمة الخفيفة»    القادسية يحسم لقب الدوري الممتاز لكرة القدم تحت 17 عامًا    لوران بلان: الاتحاد لا يخشى أحدًا!    جراحة روبوتية لإنقاذ طفل مصاب بفشل كبدي بالرياض    جدة تستضيف بطولتي العالم للبلياردو والماسترز للسنوكر يوليو وأغسطس 2025    22.6 مليون ريال تعويضات عام لانقطاعات الكهرباء    زيلينسكي يرحب بعرض بوتين ويشترط وقفا شاملا للنار    الأمير سعود بن نهار يطلع على الخدمات المقدمة للحجاج في مطار الطائف    الحج بتصريح.. نظام يحفظ الأرواح ويعظم الشعائر    احتفاء باليوم العالمي للمتاحف    بدء فصل الخدمات عن مبان آيلة للسقوط في جدة    سحب سامة تحاصر 160 ألف شخص في منازلهم    السعودية: ندعم حق الدول باستغلال ثرواتها الوطنية    جوازات مطار المدينة تستقبل أولى رحلات الحجاج القادمين من نيجيريا    من أعلام جازان.. اللواء الركن أحمد محمد الفيفي    الانتهاء من تطوير واجهات مبنى بلدية الظهران بطراز الساحل الشرقي    مستشفى الرس ينقذ طفلا تعرض لاختناق قاتل    ‫دعم مستشفى عفيف العام بأجهزة طبية حديثة وكوادر تخصصية    الأمير ناصر بن محمد يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تعيينه نائبًا لأمير منطقة جازان بالمرتبة الممتازة    "فرع الإفتاء بعسير"يكرم القصادي و الخرد    جامعة الإمام عبد الرحمن تكرم الفائزين ب"جائزة تاج" للتميز في تطوير التعليم الجامعي    ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بنسبة 2.0% خلال شهر مارس 2025    سمو ولي العهد يجري اتصالًا هاتفيًا بسمو أمير دولة الكويت    "الشؤون الدينية" تكلف 2000 كادر سعودي لخدمة ضيوف الرحمن.. 120 مبادرة ومسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية للحجاج    انقطاع النفس أثناء النوم يهدد بالزهايمر    تعزيز الأمن الدوائي    «تعليم الرياض» يفتقد «بادي المطيري».. مدير ثانوية الأمير سلطان بن عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربتي الإسلامية وحوار الثقافات : أفقت على هذه الدنيا وفي سمعي الأذان
نشر في الحياة يوم 17 - 04 - 2001

أفقت على الدنيا وفي سمعي الآذان وعند عبور الأزقة المقبية ذهاباً الى مدرستي واياباً منها مساجد بعضها مملوكي حتى فهمت ان قبة المسجد لا يعرف الا الخبراء اختلافها عن القبة البيزنطية التي تعلو كنائسنا. لم أولد مثل أبي وجدي في حارة النصارى تلك التي أريد لها ان تكون محمية، موغلة في ذاكراتها التاريخية، تتحسس هويتها وتدرك تالياً ان المسلم هو الآخر والآخر لا يمكن تجاهله فكلماته المجوّدة تُسمع في البيعة فإذا خرجت منها الى الأسواق ترى نفسك قطرة في بحره حتى تبلغ بيتك وتقول الكلمات التي نزلت عليك من تراثك وتنشده أمك أمام الايقونة بلحن سرعان ما تكتشف انه وألحان المسلمين كلها من هذا الشرق العتيق.
وإذا ايفعت وأطللت على الفصحى يعرَّف لك الشعر على انه قبل الإسلام او في صدره أو ما بعده. غير ان ما يذهلك ان الشعر العربي معظمه لا يمت الى الدين بصلة وانه تالياً مطرح اللقاء وان قومك ابدعوا فيه كثيراً في الماضي وان الكثير الكثير منه في العهد الحديث هو من نتاجهم. هذه اللغة التي كانت ذروتها في القرآن لا يمكنك ان تحيد عنها وتصلي انت بالعربية. هذه أرض واحدة لك وللمسلمين.
غير ان الخطوة الثانية في ان ترى ان المسلمين يجيئون من كتابهم وما أحيط به من علومهم ثم تتبين ان قواعد النحو وضعت من بعد تأثر العرب بالإغريق الذين تجيء أنت أيضاً منهم بآباء الكنيسة حتى تنكب على المعاجم لتلحظ ان النحو صيغ لتثبيت لغة القرآن. فأنت في العربية مطروح ثقافياً - شئت أم أبيت - في اسلام بات من تراثك. لا يمكنك اذاً ان تجعل حارة النصارى ملجأ لك اذ لا ملجأ ولو ذهنياً من الإسلام ان اردت ان تعيش في دنيا العرب. لا مجال إذاً لمحميات مسيحية ظننت في سذاجتك انها تقدر ان تقيك المواجهة. ومن باب أولى ان الجبه مستحيل فيتحتم عليك ان تنساب، رقراقاً في الذهن الإسلامي أو ان ينساب هو فيك وأنت على أمانتك لما تؤمن به وما آمن به أباؤك منذ عشرين قرناً.
فها المسلمون معك. تخشاهم أحياناً ويخشونك بسبب ما اعتقدوا انك للغرب مقر أو ممر حتى يتبين للعارفين منهم انك شرقي أيضاً وان الصليبيين ما استشاروك ليفتحوا هذه البلاد وما كنت لهم مشيراً ولا معيناً وحتى يتبين المسلمون انك ناضلت من أجل حرية العرب وانك ناديت انت العرب حتى يفيقوا ونحتَّ انت قبلهم العربية الحديثة لعلها تكون ملتقى الجميع في مواطنة واحدة. والمواطنة اختراق للعهود التي قطعت لأهل الذمة ابتغاء مجتمع مدني يسوده العدل ويسوده القانون الوضعي وتقوم عليه الدولة الحديثة الجامعة للناس كلهم على اختلاف مللهم ونحلهم.
وتحس بأنك قادر على ان تفك عقدة الأقلي التي زرعها فيك تاريخ صعب فتمارس مع المسلمين حكماً واحداً هنا وثمة تغذية المقاربة الواحدة لشأن الدنيا فيما يذهب كل منا على طرقه الى الآخرة. ويرسي عقلك وعقلهم اسس هذا العالم على ما جاءكم من الحضارة الحديثة التي تبني الأوطان. فتحسب ان اسلامهم لهم ومسيحك لك وان وطنك يتسع لكل أولئك الذين يحسبون انهم يوطدون اركان الوطن على العقل المتطور.
في هذا المناخ أخذت بدراسة الإسلام لأعرف اين انا من الآخرين واتفحص في كتابهم سر وجودهم وكيف نأتي معاً الى تبني هذا الوجود. نزلت وانا في دراستي الجامعية في بيروت الى مكتبة تباع فيها كتب اسلامية فاقتنيت مصحفي. وفيما كنت اقلبه يوماً دخل عليّ واحد من رفاقي فسألني لما رأى المصحف بين يدي وهو شاب ملتزم الرسالة الانجيلية. سألني: لماذا تقرأ القرآن - وكان هذا منذ ستين سنة - فأجبته انا أسعى الى حضور المسيح فيه. وما كنت أعني حصراً سورة مريم وسورة آل عمران أو المواضع التي ذكر فيها السيد باسمه ولكني كنت أعني روحه المبثوثة هنا وهناك في التنزيل القرآني. خرجت إذاً من أحادية كتابي الى كتاب آخر افترضت انه - بطريقة أو أخرى - عليه مسحة من الانجيل. ما هذا الذي خولني ان افترض ذلك وليس في ذهني مسبقات عن تماس التراثين أو تلاقيهما أو تناقضهما. افترضت وكنت في الثامنة عشرة من عمري ان ديانة هي غير ديانتي لا بد ان تكون استضاءت بمقدار بهذا المسيح الذي كنت أؤمن انه نور العالم.
في ذلك الجو نشأت حركة روحية في كنيستي قام بها الطلاب وضعت في خطابها التأسيسي انها ضد التعصب الديني وفرقت إذاً بين الإيمان والاصطفاف الطائفي. ولم تمضِ أشهر على انبثاث تلك الحركة حتى قالت ان الطائفة بمعناها السوسيولوجي شيء والكنيسة شيء آخر لكون الكنيسة نقية في اخرويتها eschatologie. هل يمكن ان يكون المسلم معتزاً بالله فقط ورسوله أم ان عزة المسلمين على الأرض شيء من الإسلام؟ اكتشفنا عزة الله انا ورفاقي المسلمين الطاهرين الأبرار الأعزة بالله وقد لا تهمهم عزة الأرض أو لا تهمهم الا بقدر ما هي حاضن لعزة الله. الخيّرون منهم والخيّرون منا ماضون على الرجاء وناظرون الى الكشف الإلهي الذي لا يبلغ مداه الا في اليوم الأخير. فبان لي ان كلاً منا يسعى سعيه الآن وان الخيرات الكاملة ليست ملكنا الآن حتى الحضور الثاني للمسيح كما نقول في لغتنا او حتى قيام الساعة كما يقولون هم في لغتهم.
بعد نشوء الحركة الارثوذكسية هذه يومَ عدت من الجامعة الى طرابلس لقضاء عيد الهدنة فيها في الحادي عشر من تشرين الثاني نوفمبر السنة ال1943 وجدت تظاهرة طلاب تتجه الى هدفها بالقرب من المكان الذي كنت فيه فانضممت اليها. وعلمنا في الصباح ان سلطة الانتداب قد ألقت القبض على رئيس الجمهورية وبعض من رجالات البلاد. كنت في آخر تظاهرة وسمعت رصاص الجنود الفرنسيين وأدركت ان دبابة تخترق صفوفنا. هي ثوانٍ سقط فيها احد عشر طالباً ورأيت جثثهم مقطوعة وواقعة في بحر من الدماء ففهمت اننا والمسلمين واحد في مكافحة الأجنبي المحتل. فجأة انطفأ حبي لفرنسا وانتدابها على لبنان. بعد هذا بأربع سنين سافرت الى باريس للدراسة اللاهوتية. رأيت في العاصمة الفرنسية المغاربة الفقراء. انشددت اليهم أكان هذا لعروبتهم أم لفقرهم. ادركت في باريس ان الجماهير الإسلامية فقيرة. ان حارة النصارى المستضعفة في الحكم الإسلامي قادتني الى المسلمين المستضعفين في الغرب. كان تعليم الناصري عن الفقر والفقراء من أهم ما جذبني في الانجيل. عدت الى لبنان وعند قيام الثورة في الجزائر رأيتني متمنياً انتصارها. لماذا فرحت للجزائر ولم أفرح لنشوء الباكستان؟ ربما يعود هذا الى كوني تتلمذت على كتب غاندي الذي كان يريد وحدة المسلمين والهندوس. أو يكون الإسلام دعوة الى الحرية في بلد ودعوة الى الفرقة في بلد؟ كيف يجهر المسلمون بعداوتهم للغرب في مكان ويتحالفون واياه في مكان؟ كيف يشتكون أمر مقهوريتهم هنا ولا يشتكون قاهريتهم هناك. المسلمون إذاً بشر، غرقى السياسة والانفعال مثل كل البشر. يقرأون حيناً ولا يقرأون أحياناً: "ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى" المائدة الآية 82.
المسلمون قادرون إذاً ان يتمكنوا من هذه الأرض وخيراتها فصار متعذراً ان نرصفهم في دار الاستضعاف وان نرصف الآخرين وحدهم في دار الاستكبار. هناك اليوم فارق بين الإسلام والمسلمين. وهذا ما قاله علماؤهم من الإمام محمد عبده الى بعض من الأئمة اليوم ....
هذا طرح علي وعلى الكثيرين مسألة الحوار. ربما كان مبعث هذا تعب الانسانية من حربين عالميتين دفعتا الشعوب المتعادية الى التلاقي. هل تتلاقى الأديان؟ كيف وهل من أرض لقاء في اخلاص كل مؤمن لديانته بلا وقوع في النسبية أو التلفيق؟ كل منا يريد ان يخرج من مقهوريته. هل التباين العقدي يستتبع بالضرورة تذابحاً او اذلالاً بالاستقواء والاستكبار؟ اظن ان الحوار موقف وجودي أملته الجراح ولا يأتي من تنظير مجرد.
من الواضح ان مبتغاك هو أولاً المسالمة الصادقة والحقيقية بين الجماعات الدينية. ولكن هذا لا يتعلق فقط بالنية الصالحة ولكنه يتأتى من مصادر الوحي. هل في الدين الآخر ما يوحي فيه أساساً للسلام؟ هل في دينك انت ما يخل بصفاء الخلافات؟ هذا التأمل أبعد من التاريخ الذي فرّق بيننا إذ لا يكفي ان نقول: حلّت ظروف سياسية ذهبت بالسلم الأهلي. ويبقى علينا ان نتروض على مفهوم الحرية والمساواة. ولكن ليس من الأكيد عندي ان كل الأوساط الدينية تقبل بالحرية والمساواة. كيف تؤمّن هذه في ظل الحكم الإسلامي وما يستتبعه من اقامة الحدود. كل هذا دفع الكثيرين ان يقولوا: نحن لا نريد حواراً في العقائد ولكن نبتغي فقط حوار حياة أو تعايشاً سلمياً. اظن ان هذا موقف براغماتي قائم فقط على حسن النيات وانك لا تقدر ان تعزل سياسة التعايش عن النصوص الإلهية.
ربما كان من الأسهل التصدي أولاً لقضايا الأخلاق والاجتماع وهذا يقوم هنا وثمة في العالم. غير ان بعضاً منا تصدى لمسألة العقيدة التي توتيك حلاً إذا غبت عن التأمل العقلي الجهاد الأكبر، جهاد النفس. كم من مرة هنا وفي الخارج تبين لي ان وراء هذه المعضلات الاجتماعية التي نتدارس يجيء كل منا من ينابيعه. فالمفردات التي تتعلق بالعدل مثلاً أو بالرحمة أو بقضية المرأة مرتبطة دائماً بخلفية لاهوتية. الدين كلٌ متماسك. كيف تدخله فكرياً ووجدانياً وأنت على دين آخر؟ اقل ما يُطلب من المحاور ان يتحرر من العدائية وألا يشترط مسبقات لاهوتية. فإذا حاورني مسلم يجب ان اقبل انه يرفض ما هو أساسي في حياتي وقلبي اعني الصليب والهية عيسى. وإذا انا حاورته ينبغي ان يفهم، قبل كل لقاء، ان الله عندي قال كل شيء في المسيح واني لا أنتظر تصحيحاً لهذه المقولة. العقبة تبدو كأداء. ولكن السيد قال: "ان كان لكم من ايمان قدر حبة الخردل، قلتم لهذا الجبل: انتقل من هنا الى هناك، فينتقل" متى 17، 20.
ادخل في الحوار لأصحح فيه رؤيتي للآخر وأحاول ان افهم ما يقول وان افهم سلوكياته. أتحدث بلا احتراز ولا خوف، ناقلاً ما أؤمن به بتعابير يستطيع الآخر ان يتلقاها. هناك نوع من المرافقة بيننا تعني اني أحمل الأخر حقاً وأتمنى ان يحملني. التواد شرط لهذا اللقاء العقلي. يجب ان ادخل في عقل الإسلام وروحيته وحركيته وان يحاول المسلم أيضاً ان يماشيني ذهنياً في طريقي الى يسوع. اما اذا بقي شيء من التوتر النفسي أو روح السجال والانتصار على الآخر نكون قد عطلنا المسيرة.
كانت حصيلة تجربتي الحوارية اننا لم نصل بعد الى مرحلة التحديات الفكرية الكبرى التي تتطلب مستوى واحداً من معرفة الديانتين عند طرفي الحوار واننا لا نزال في حالة التوطئة للحوار التي يمكن تسميتها "الايضاح والاستيضاح" بحيث يوضح كل فريق ما يؤمن به ويستوضح الآخر مواقفه. نحن في حاجة ان يتتلمذ كل منا على الآخر ليفهمه كما هو يفهم نفسه. بعبادرة أخرى اتوقع ان يشرح لي المسلم عقيدته وانتظر منه ان يقبل شرحي لعقيدتي. انه يحاور المسيحي اليوم الوارث لإيمانه والعارف به. أجل عند كل منا تصور لديانة الآخر ولو كان الشخصان على مستوى اكاديمي. ولكن بسبب من المواجهات التاريخية والأسى التي تركته في النفوس لا بد لي من ان اتحرر من ذكرياتي وان يبدأ عقلي بتسجيل الإسلام الذي يعتنقه المسلم وان يبدأ عقله بتسجيل ما أقوله انا عن المسيحية. يجب ان نستقي كلاً من الديانتين من مصادرهما. الإنسان الذي أمامي هو يقوم بالتعريف عما يؤمن به. هذا يسهل مبدئياً على المسيحي لأن الإسلام لاحق تاريخياً وليس في الكنيسة تصور للإسلام. نستلمه كما هو. هذا كان صعباً على المسلم منذ سنوات قليلة. كان سهلاً على المغاربة وسهلاً على المسلمين العائشين في الغرب. غير ان بعض الأدبيات الإسلامية ولا سيما الشيعية منها أخذت تقول صراحة ان المسيحية تُعرف من مصادرها. كانت صعوبة المسلم ان القرآن يتحدث عن عقائد النصارى وكان المسلَّم به ان النصرانية هي هي المسيحية. ولكن مما لا شك فيه ان بعضاً ما ينسبه القرآن الى النصارى لا تعترف به الكنيسة وان النصرانية تالياً شيء آخر عما كانت الكنيسة الرسمية في الشرق البيزنطي والشرق السرياني تقوله. ومهما يكن من أمر العلاقة بين النصرانية والمسيحية وأياً كان الفارق بينهما فالمسيحي الواقف اليوم ازاء المسلم هو الذي يوضح مواقفه ويستوضح المسلم مواقفه. لا يحتمل هذا القول على اني أخطئ القرآن على ما قاله في النصارى. جلّ ما أذهب اليه ان هذه النصوص أو بعضها لا تعنيني أو لا تستهدفني. الا ان الجهد العظيم الذي يقع على الكنيسة في ان تضع في العربية كتباً على مستوى الإنتاج اللاهوتي المتوافر في لغات أوروبا. ما بين أيدينا على ما أعلم وُضع للقراء المسيحيين ولم يكتب ليفهمه المسلمون في حين ان المسلمين وضعوا اهم نتاجهم بالعربية.
يبقى السؤال عن أرض اللقاء الفكري. هنا يبدو لي ان معرفة الحياة الروحية العميقة عند الآخر تجمع بيننا أكثر مما تجمع بيننا كتب التفسير والفقه. التصوف في الديانتين لغته مشتركة. الصعوبة هنا ان الكثير من علماء الإسلام لهم على المتصوفة تحفظ كبير. والتصوف هذا يجذب المسيحيين لأن فيه لغة العشق الإلهي التي تعاطاها كبار الروحانيين في المسيحية.
ولكن بالاستقلال عن هذا الأمر يبدو لي ان الحوار يتعطل كلياً إذا بقي بعض المراجع الإسلامية يتهم مسيحيي اليوم بالشرك، وفي ذلك غير فتوى هنا وثمة. الحوار يفترض ان تقبل الآخر على انه من أهل التوحيد. أدرك ان الصعوبة الكبرى في ان يتبين المسلم ان الثالوث ليس من الشرك. وهذا يمكن ان يكون موضوع حوار.
تجربة كل واحد منا مفتوحة لازدياد في الفهم. المهم الا نتجمد في موقف، ان نشعر ان الآخر ضروري لنا واننا قادرون على ان نفهم انفسنا ايضاً بفضله.
يبقى ان الحوار ولو في مرحلة التوطئة التي أشرت اليها يتنافى، عند قيامه، ومشروع تبشير أو دعوة. ليس اني امنع عن أحد رغبة ضم الآخر اليه ولكن الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية اللقاء الفكري والوجداني لا يستطيعون بآن معاً ان يتحاوروا وان يبشروا. افهم ان ارتداد المرء عن عقيدته يؤذي أصحاب هذه العقيدة ومن شأنه ان يعطل الحوار.
التجربة مفتوحة لتكثيف الفهم وتكاثف المحبة في مناخ السلم بين الديانتين والاعتراف بحرية البشر جميعاً والتعبير الكامل عما يريدون. والسلم يعني قبل كل شيء الكف عن العنف والكف عن الجهاد في البلدان التي نحن فيها مختلطون. لا خوف من حرية الفكر والخوف كل الخوف من قمع الآخر بواسطة السلطة الحاكمة. الخوف هو في عقدة الدونية وفي عقدة الاستعلاء. العدد لا معنى له ولا قيمة. ان نبدأ من ان الآخر هبة من الله لي وانه معي في الحياة اليومية وان له كرامة كاملة لا يجوز دوسها لأن كرامته في انسانيته التي له من الله. بلا احترام متبادل كامل والحرص على سلامة الآخر نكون متراكمين، نلتقي في التهذيب الاجتماعي فقط. المطلوب ان نلتقي في محبة الله لنا ورفضنا ان نقهر الآخر وهذا أضعف الإيمان. ولا يكفينا ان نلقى الآخر في مجتمع مدني والا نتكلم في العمق ونتعايش في التحاب.
انا مع الآخر في كامل انسانيته والتوق الى رقي له عظيم وازدهاره ونموه. هذا كله يفترض تقوى كبيرة قائمة على انفتاح القلوب للقلوب.
* متروبوليت جبل لبنان للروم الارثوذكس، رئيس البيت اللبناني - الروسي. والمقال محاضرة القيت في مؤتمر "حوار الثقافات: تجربة روسيا والمشرق العربي" في طرابلس بدعوة من "البيت اللبناني - الروسي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.