«الطيران المدني» تعلن الفائزين بجائزة المطارات السعودية في نسختها الرابعة    القصيم: القبض على شخص لترويجه مواد مخدرة    وزير السياحة يطلق برنامج «صيف السعودية 2024» في 7 وجهات    مفتي الهند يدعوا الله بأن يشفي خادم الحرمين    زراعة الشرقية تطلق مبادرة إنتاج عسل المانجروف للموسم الرابع 2024م    لوم إيراني لأمريكا:عقوباتكم حطمت طائرة الرئيس    وزير الخارجية يعزي نظيره الإيراني بوفاة رئيس إيران ومرافقيه    مصادر «عكاظ»: لؤي ناظر يترشح لرئاسة العميد «يونيو القادم»    أمير تبوك يستقبل معالي رئيس هيئة حقوق الإنسان    غرفة الشرقية تنظم معرض التطبيقات الالكترونية مطلع يونيو القادم    محمد بن عبدالعزيز يكرم المتفوقين    الأمير سعود بن نهار يستقبل مدير مطار الطائف الدولي    اختيار الرياض مقرا لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    أمير تبوك يرعى تخريج أكثر من 2300 متدرب ومتدربة بالمنطقة    الجنائية تتحرك لاعتقال قادة من حماس وإسرائيل    "تعليم جدة" يصدر نتائج حركة النقل الداخلي    "العامري" بين استعراض المنجزات، لثانويات مكتب تعليم حلي    13 كفيفة تأهلت لbrail note    الربيعة يلتقي كبار المتبرعين لمركز الملك سلمان للإغاثة    التهاب البول عند الأطفال الذكور    د. العيسى يتسلَّم مفتاح محافظة الإسكندرية أعلى وسام في المدينة    خلاف بين الهلال وجيسوس بخصوص أحد بنود العقد الجديد    وزارة الإعلام تنظّم النسخة السابعة من "واحة الإعلام"    منتدى كايسيد للحوار العالمي: تجديد جهود الحوار وإنشاء منصات مستدامة وشاملة وآمنة وحيوية ضرورة عالمية    كوادر وطنية لخدمة الحجاج في بنجلاديش    وزير الخارجية يجري اتصالاً هاتفياً بوزير الخارجية الإيراني المكلف    ارتفاع شهداء غزة إلى 35562    الاجتماع الثاني للجنة الأمنية والعسكرية المنبثقة عن مجلس التنسيق السعودي القطري    قدوم 267657 حاجا عبر المنافذ الدولية حتى نهاية أمس    وول ستريت تفتح على استقرار مع ترقب نتائج إنفيديا    من هو الرئيس المؤقت لإيران؟    أمير الرياض يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية المتقاعدين بالمنطقة    تايكوندو الشباب يهيمن على بطولتي البراعم والناشئين والحريق يزاحم الكبار    بعد مصرع عبد اللهيان.. «كني» يتقلد حقيبة الخارجية الإيرانية    وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له في حادث تحطم الطائرة المروحية    وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    جائزة الصالح نور على نور    ثقافة سعودية    بكاء الأطلال على باب الأسرة    كراسي تتناول القهوة    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    الانتخابات بين النزاهة والفساد    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج ومكة وفكرة المؤتمر في كتابات النهضويين المسلمين . انهيار الحكم المغولي يدفع مسلمي آسيا البعيدة الى طلب مؤتمر اسلامي يرعاه السلطان العثماني 1 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 03 - 2001

يصف محمد أسد، اليهودي النمسوي الذي اعتنق الاسلام، سعادته بالدخول الى مكة، لأداء فريضة الحج عام 1927، على النحو التالي: "... ونتابع ركوبنا، هاجمين طائرين فوق السهل، ويخيَّل إليّ اننا طائرون مع الريح، منغمسون في سعادة لا تعرف نهاية ولا حدوداً... وتزعق الريح في أذني بنشيد النصر: إنك لن تكون غريباً بعد الآن، أبداً، أبداً! اخوان لي عن اليمين، واخوان لي عن اليسار، كلهم لا أعرفهم، ولكن أحداً ليس غريباً عني: فنحن في فرحة سياقنا المضطربة جسم واحد يسعى الى هدف واحد. إن العالم أمامنا لفسيح، وفي قلوبنا تتألق شرارة من النار التي اشتعلت في قلوب صحابة النبي. إنهم يعرفون، إخواني عن يميني وإخواني عن يساري، انهم قد قصّروا عما كان ينتظر منهم، وأن عَزَمات قلوبهم قد تضاءلت عبر القرون. لكن وعدَ الله الحق لم يُنتزع منهم... ووسط الضوضاء التي تُصِمُّ الآذان من خطوات الأُلوف من الإبل المندفعة، والمئات من البيارق المصفِّقة، تنمو صرختُهم الى زمجرة منتشية ظاهرة: الله أكبر! لبيك اللهم لبيك"!1
ولا شك في أن هذه المشاعر القوية تجاه أم القرى، والحج الى بيتها الحرام، كانت وراء اتجاه الكثيرين من دعاة فكرة "المؤتمر"، من سياسيين ومثقفين، لعقده بمكة واثناء موسم الحج. أما الفكرة نفسها فجديدة، بمعنى انها لم تظهر قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهي عندما ظهرت فإن قصدها الى مكة كانت له أسبابه الدينية والعملية، أما أهدافها أو مقاصدها فكانت سياسية وثقافية إذا صح التعبير.
يذهب B. Bareilles 2 الى أن الصدر الأعظم خليل باشا كان أول من دعا حوالى العام 1865 الى مؤتمر باسطنبول، تتوحد فيه قوى الاسلام من رعايا السلطان، ومن غير رعاياه، لمواجهة الضغوط الأجنبية. ولا نملك دليلاً على ما ذهب اليه من أرشيف الدولة، أو من أي مصدر آخر. لكننا نملك مخطوطة صغيرة بالفرنسية تعود للعام 1871 3، تحمل على فكرة "الاتحاد الاسلامي" أو "الوحدة الاسلامية"، بحجة أن ذلك ان كان فلن يكون في مصلحة المسلمين، ولا في مصلحة الدولة العثمانية. لن يكون في مصلحة المسلمين لأنه سيُظهرهم بمظهر المتعصبين الذين يتوحدون على أساس ديني. ولن يكون في مصلحة الدولة العثمانية لأنه سيزيد من ضغوط الدول الأجنبية عليها، وخصوصاً تلك التي تحتل دياراً من ديار المسلمين. وهكذا فإن دعوة الاتحاد عن طريق المؤتمر ليست في مصلحة أحد. وعلى رغم اننا لا نعرف كاتب تلك الرسالة، فإن بدايات فكرة المؤتمر - كما يبدو - كانت لها علاقة وثيقة بالسلطنة العثمانية تأييداً أو معارضة. فقد كان الموقف آنذاك ان الدولة العلية خاضت حروباً عدة ضد روسيا والنمسا وبعض شعوب البلقان، وما استطاعت الانتصار في أي منها. وكانت تعمد بعد كلٍّ من تلك الحروب الى عقد معاهدة هدنة أو صلح تفقد بمقتضاه أراضي أخرى، وتنحسر عن أقاليم. ومع الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت السلطنة قد فقدت أكثر أراضيها في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان، وشمال افريقيا، كما كانت سيطرتها قد انحسرت عن اليونان ومصر والجزائر منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر 4. وهكذا فإنه اذا كان خليل باشا قد دعا فعلاً الى مؤتمر للتضامن مع السلطنة، فإن الدعوات الأخرى للمؤتمر - ومن جانب مسلمين لا يخضعون للدولة العثمانية - كان يمكن أن تكون تعبيراً عن اليأس من العثمانيين، والتفكير في بدائل لحماية وجود الاسلام ووحدة المسلمين في البلاد التي لم تصلها سيطرة العثمانيين أو انحسرت عنها مثل الهند واندونيسيا وآسيا الوسطى وغيرها.
والواقع ان ثمانينات القرن التاسع عشر ظهر فيها كلا التوجهين. التوجه الذي يسعى الى الاتحاد الاسلامي أو الجامعة الاسلامية عن طريق المؤتمر الذي يتخذ شكل التضامن مع الدولة العثمانية تقوية لجانبها في مواجهة القوى الأجنبية. والتوجه الآخر الذي لا يصارح الدولة العلية بالعداء، لكنه يسعى عن طريق المؤتمر والاتحاد للقيام بما لم تستطع الدولة العثمانية القيام به أو لم تعد تستطيع ذلك. وفي قلب التوجه الثاني بالذات ظهرت فكرة المؤتمر بمكة.
تحضر الدعوة لمؤتمر بمكة اثناء موسم الحج للمرة الأولى في رسالة بالتركية موجهة الى السلطان عبدالحميد الثاني، عام 1881 م عنوانها: "رسالة في الاتحاد في سبيل سعادة الملة الاسلامية" 5، وكاتبها اسمه سليمان الحسبي 1327 ه/ 1909 م. يشرح المؤلف دواعي الوحدة وبواعثها وفوائدها، ومساوئ التفرق، ويدعو الى السلطان عبدالحميد. لكنه يقترح فجأة من أجل جعل الاتحاد ممكناً مؤتمراً سنوياً أثناء موسم الحج. وحجته في ذلك ان الحج يجمع سائر كبراء المسلمين ممن هم تحت السيطرة العثمانية، أو خارجها. كما أن مكة بعيدة ومحايدة وتغيب عنها مراقبة الأجانب ودسائسهم.
رسالة الحسبي هذه ليست معادية قطعاً للدولة العثمانية ولا للسلطان عبدالحميد. لكنها تتصور مركزاً للاجتماع والتفكير والتقدير غير اسطنبول.
ونحن نعلم اليوم لماذا لم يتجاوب معها السلطان عبدالحميد. إذ كان وقتها قد حوَّل اسطنبول، عاصمة السلطنة والخلافة معاً، الى مركز للدعاية لنفسه، وللاجتماع حول شخصه ودولته، باعتباره السلطان وأمير المؤمنين معاً. وكان أكبر همّه دعوة المسلمين من خارج أقطار السلطنة للتضامن مع الدولة العلية، والولاء لسلطان امير المؤمنين. وقد استخدم في ذلك أمثال الشيخ أبي الهدى الصيداي، ومحمد ظافر المدني، ونامق كمال، اضافة الى شخصيات أخرى من خارج إطار الدولة العثمانية، ليكونوا دعاة له في الداخل والخارج6.
ومن الواضح انه بالنسبة الى السلطان العثماني، فإن الاتحاد أو الجامعة، انما يكونان حول السلطان وحول الدولة، ولذلك فلا حاجة للمؤتمر حتى لو كان لنُصرة السلطان أو في عاصمة الدولة. ويبدو ذلك، أي عدم ربط الاتحاد - كما كانوا يقولون - بالمؤتمر بل بالسلطان /الخليفة في تحمس الهنود المسلمين الشديد للسلطان وللدولة العثمانية. فقد سقطت دولة المغول في الهند نهائياً بعد فشل تمرد العام 1857، وعانى المسلمون الأمرّين من الحكم البريطاني. ولذلك فقد كان كثيرون من مثقفيهم يتطلعون الى السلطان العثماني ودولته باعتبارهما مصدر أمل، ورمزاً لوحدة أمة الاسلام. وقد تجلت مشكلة المعتدلين منهم في أن أواخر القرن التاسع عشر شهدت تراجعاً في علاقات بريطانيا بالعثمانيين، وتزايد التقارب العثماني مع ألمانيا. والمعروف أن بريطانيا كانت تسيطر على مصر أيضاً وهي من ممتلكات السلطان في الأصل. ولذلك فإن الهنود والمصريين في الوقت الذي كانوا يتضامنون فيه مع الدولة العلية في حربها مع الروس، كانوا يرجون منها أن تضغط لمصلحتهم لدى الانكليز وعليهم. وقد أفضت جهودهم الى انشاء "جمعية خدام الكعبة" لمتابعة النشاطات، وتنظيم المؤتمرات، والتضامن مع الخليفة، وتحقيق الاتحاد الاسلامي في ظل الدولة العلية 7. وقد أدى بالقائمين على الجمعية جهادهم من أجل العثمانيين الى السجن عندما وقعت الحرب الأولى، ووقع البريطانيون والعثمانيون في أحلاف متناقضة. فلما تهددت الخلافة العثمانية ثم زالت أطلق الهنود على حركتهم اسم: حركة الخلافة، وقد ظلوا يناضلون زهاء السنوات العشر من أجل إعادة الخلافة باعتبارها مناط المشروعية. ولهذا فإن فكرة المؤتمر التي بدا أنهم يتجهون اليها في البداية، - وإن مع ولاء للعثمانيين - ما لبثت ان ضعُفت حيث انحصر جهدهم في اعادة الخلافة لاستعادة الرمز والمشروعية، ولم يلجأوا لإعادة النظر إلا في وقت متأخر وبعد أن تحطمت آمالهم في النصف الثاني من العشرينات. ففي العام 1924 أرسلت حركة الخلافة وفداً الى مكة للنظر في أوضاع الحرمين، وإخبار الحجازيين بمقاصد الحركة. وما استطاع الوفد الوصول إلا الى جدة بسبب الصراع على مكة وقتها. لذلك اكتفى بإرسال برقية الى حكومة الحجاز جاء فيها أن من اهداف حركة الخلافة اقامة دولة مستقلة استقلالاً تاماً بالحجاز لرعاية الحرمين، وصونهما عن التدخل الأجنبي. وهكذا فإن الحركة تدعو الى مؤتمر بمكة يشارك فيه مندوبون من الدول الاسلامية المستقلة، ومن الحجاز، لإنشاء الحكومة 9.
عادت الحركات الاسلامية بالهند وآسيا الوسطى وجاوه وسومطرة إذاً، الى فكرة المؤتمر بعد زوال الخلافة العثمانية. فقد كانت تلك الشعوب ونُخُبها تعاني من الوقوع في إسار الاستعمار، وكان الكيان العثماني يمثّل لها أملاً بالتحرر، ورمزاً لوحدة المسلمين وسلطتهم وقوتهم وتاريخهم العريق. وإذا كان هؤلاء واهمين في قدرة الدولة العلية على مساعدتهم عسكرياً، فإنهم لم يكونوا كذلك في إحساسهم باهتمام سلطات اسطنبول بقضاياهم ومشكلاتهم، ومحاولاتها لمساعدتهم ديبلوماسياً واجتماعياً. فقد دأب السلطان عبدالحميد على استقبال رسلهم ووفودهم، وإعادة اسكان لاجئيهم، كما دأب على إيفاد مبعوثين اليهم لاستطلاع أحوالهم، والسعي لدى ممثلي الدول الكبرى في اسطنبول من أجل تلبية بعض مطالبهم. وفي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر كانت اسطنبول تعجُّ بأصحاب المشاريع والحركات من النخب الدينية والثقافية الاسلامية، من رعايا السلطنة، والدول الاسلامية الأخرى، والشعوب الاسلامية الواقعة تحت سيطرة الاستعمار10. ولذلك ليس من السهل تصديق دعوى W.S.Blunt 1840 - 1822، النبيل البريطاني الذي عُرف بدعمه للثورة العُرابية، ان جمال الدين الأفغاني 1838 - 1897 ومحمد عبده تلميذه؟ كان يتفهم مشروعه أي مشروع بلنت لإقامة خلافة عربية بديلة بمكة انتقاماً من الأتراك، ومن استبداد عبدالحميد، وخدمة للمصالح البريطانية. فبلنت نفسه يذكر انه عندما استنصح الأفغاني عام 1883 عشية زيارته للهند حول أسلوب تعامله مع المسلمين هناك، نصحه الأخير بأن لا يتحدث معهم ضد السلطان أو الدولة العثمانية لأن سائر المسلمين كارهون للانكليز وشديدو الولاء للدولة العلية وللسلطان11.
ان الذي أحسبه أن Blunt لم يستطع متابعة أفكار جمال الدين الأفغاني حول الحلول الناجعة لمشكلات المسلمين مع الغرب الأوروبي. إذ كان جمال الدين وقتها قد توصل الى قناعة مؤداها أن ضعف المسلمين في مواجهة الاستعمار ليس مردّه ما يقوم به السلطان العثماني أو لا يقوم به، بل لذلك علل وأسباب تتعلق بالأوضاع الحضارية للأمة الاسلامية أفضت الى ضعفها وتشرذمها وتكالب الأمم المتقدمة عليها. ولهذا فإن الأفغاني وعبده ما كانا يعارضان السلطان، بالدرجة الأولى، بل يريان ان ما يقوم به جيد ومفيد، لكنه غير كاف. وقد انهمكا بين العامين 1883 و1887 في نشاط محموم على مستويات عدة لبلورة رؤيتهما حول "وحدة المسلمين" أو "الجامعة الاسلامية" من جهة، وحول اسباب النهوض والقوة من جهة ثانية. كان هناك من جهة جهدهما لتصحيح المفاهيم والصور حول الاسلام والعلم، والاسلام والتقدم، والاسلام والسلطة الدينية في مواجهة رينان وهانوتو، ونظرية دارون 12. وكانت هناك من جهة ثانية دعوة المسلمين لتفهم أبعاد الرؤية الشاملة التي يعتنقانها من طريق إصدار مجلة "العروة الوثقى" التي انصبّت مقالاتها على أربعة أمور: الدعوة للوحدة، والدعوة للتقدم، وقراءة أسباب الخلل والتخلف، وإيضاح خلفيات الأحداث الجارية. وفي سياق المعالجة لأسباب الضعف، والحثّ على النهوض، عادت فكرة المؤتمر، وفي مكة بالذات، وأثناء موسم الحج، الى الظهور. فقد جاء في مقدمة العدد الأول من "العروة الوثقى" 13: "... وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام يجتمع اليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد اليها أفكارهم، ثم تنبثُّ الى سائر الجهات. والله يهدي من يشاء الى سواء السبيل...". وفي مقالة عنوانها "الوحدة والسيادة" تقول "العروة الوثقى" 14: "إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الاسلام، كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة. ولكن دهاهم بعض ما أشرنا اليه في أعداد ماضية فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم، وأذهلهم أزماناً عن سماع صوت الحق، فسهوا وما غووا، وزلّوا وما ضلّوا، فمثلهم مثل جواب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كلٌّ يطلب عوناً وهو معه ولكن لا يهتدي إليه. وأرى أن العلماء العاملين لو وجّهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين الى مسامع بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت. وليس ذلك بعسير عليهم بعدما اختصَّ الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام، وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع. وفي تلك البقعة يحشُرُ الله من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم فما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب. هذا ما أعدّتهم له العقائد الدينية. فإن أضفت اليه ما أذاب قلوبهم من تعديات الأجانب عليهم. وما ضاقت به صدورهم من غارات الغرباء على بلادهم حتى بلغت أرواحهم التراقيم، ذهبت الى أن الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حداً يوشك ان يكون فعلاً...".
كانت دعوة الشيخين الافغاني وعبده دعوة للنهوض والتوحد. وقد انطلقت من باريس عبر "العروة الوثقى"، لكنها كانت ترى ان المآل ينبغي أن يكون في مكة ومنها، لأنها مهوى أفئدة المسلمين. والمعروف أن "العروة الوثقى" لم تصدر غير تسعة أشهر من عام 1884. بعدها عاد محمد عبده الى بيروت، ثم سُمح له بالعودة الى وطنه عام 1888م. أما جمال الدين فتردد بين باريس ولندن وروسيا وايران الى أن قبل عام 1892 م دعوة السلطان عبدالحميد للإقامة والتحرك من اسطنبول. وقد بقي هناك حتى وفاته عام 1897 م. ولا نعلم شيئاً محققاً عن مآلات فكرة المؤتمر لديه، فالمعروف ان السلطان ما كان يحبّذ انعقاد مؤتمر للبحث في شؤون المسلمين لا في مكة ولا في اسطنبول 15. بيد أن هناك من قال ان السلطان كلّف الأفغاني بالعمل على توحيد الكلمة بين الشيعة والسنّة، وانه حاول الوصول الى ذلك عن طريق مؤتمر لفقهاء الطرفين 16. أما المخزومي الذي كان يحضر مجالس السيد جمال الدين في اسطنبول، ويسجل خاطراته، فينقل عنه دعوته للجامعة الاسلامية، لكن دونما مرور بفكرة المؤتمر من أجل ذلك 17.
على ان فكرة مؤتمر الحج بمكة، بقيت حية في ما يبدو، لدى محمد عبده 1849 - 1905 م تلميذ جمال الدين. ففي العام 1897 م عُيّن محمد عبده مفتياً لمصر. وفي السنة اللاحقة آزر المفتي الجديد السيد محمد رشيد رضا 1865 - 1935 م، الشاب المتحمس الآتي اليه من طرابلس الشام، دعمه وآزره في تأسيس مجلة "المنار"، التي سرعا نما أصبحت أهم المجلات الصادرة في العالم الاسلامي. وفي مجلد المجلة الأول دعا السيد محمد رشيد رضا لتأسيس جمعية اسلامية بمكة لها فروع في سائر أنحاء العالم الاسلامي. ورأى السيد رشيد ان تلك الفروع تُرسل كل عام مندوبين عنها الى مركز المؤتمر أثناء موسم الحج، فيحضرون الاجتماع السنوي، ثم يعودون بالمقررات الى بني قومهم. ويطمئن رضا أمير المؤمنين باسطنبول الى نواياه ومقاصده، فيخبره انه اختار مكة بدلاً من اسطنبول، لبُعدها عن تدخلات الأجانب، واستخباراتهم، ولإمكان اجتماع المسلمين بها من دون حرج سواء كانوا مواطنين عثمانيين أم لا 18. ويتابع رضا وربما محمد عبده أنه آن الأوان لتصحيح افهام المسلمين للحج، ذلك انه لا ينحصربأداء الشعائر بدقة وأمانة والتزام، بل هو أيضاً فرصة لتشاور المسلمين في قضاياهم ومشكلاتهم، والتعرف العميق على أمتهم، والاحساس بالمسؤولية عن الشأن الاسلامي العام: أفليس الحج عرفة؟ وأليس معنى عرفة التعارف؟! أما الثمرات المباشرة لهذا التعارف فينبغي أن تتمثل في اصدار مجلة اسلامية تكافح البدع والتقاليد البالية، وتدعو الى النهوض والتجديد والتوحيد. وإصدار كتاب يتضمن العقائد الاسلامية الرئيسية ويوافق عليه السلطان19.
ويبدو من مقالة لرشيد رضا في المجلد الثاني من النار عام 1899 ان دعوته ودعوة عبده لم تلقيا ترحيباً من أنصار العثمانيين بالقاهرة 20. وربما كان من بين هؤلاء علماء الأزهر، ودعاة الجامعة الاسلامية العثمانية من الوطنيين المصريين من وراء مصطفى كامل. فقد اقترحوا - كما يقرر رضا - اسطنبول مقراً للجمعية، ومؤتمرها السنوي. ويرد رضا بالعودة لشرح أسباب اختياره مكة. ثم يقول ان السلطان نفسه لا يريد المؤتمر باسطنبول، بدليل ان الصحف العثمانية كلها لم تذكر شيئاً عن ذلك.
ان اطروحة "المنار" هذه، والتي تعتبر السلطان العثماني عضواً رئيسياً في المؤتمر المكي لا تقصد الى معاداته، بل هدفها القول ان المشكلات التي يعاني منها المسلمون أوسع وأعمق من أن تستطيع السلطنة حلها. ومكة توفر شرطين للنجاح: إمكان اجتماع أكبر عدد ممكن من نخب المسلمين فيها، وإمكان الحديث والتشاور بحرية لا يتيحها جو العاصمة العثمانية. وما تخلى الرجلان عن المشروع على رغم الاعتراضات والتحفظات، بدليل مساعدتهما لعبدالرحمن الكواكبي 1845 - 1902 م في نشر كتابه: "أم القرى" 1900 في طبعة سرية عليها تعليقات وحواش وتوسيعات لرضا، ثم المصير الى نشر الكتاب نفسه على حلقات في مجلة "المنار" بدءاً بمطلع العام 1902.
كان الكواكبي الذي وصل الى القاهرة عام 1899 قد بدأ بنشر كتابه: "طبائع الاستبداد" بجريدة "المؤيد" للشيخ علي يوسف 21. وهو كتاب واضح العداء للسلطان عبدالحميد وللدولة العثمانية. أما في "أم القرى" فيتحدث الكواكبي يسمّي نفسه السيد الفراتي عن مساعيه لعقد مؤتمر بمكة للبحث في أسباب "الخلل والضعف" الذي حلّ ب"كافة المسلمين" مطلع القرن الرابع عشر الهجري. خرج الفراتي من حلب مطلع العام 1316 ه = 1898 م، وطاف بالبلاد العربية داعياً سراتها للقاء بمكة اثناء موسم الحج من العام نفسه. وقد التحق به سائرهم كما يقول، باستثناء الأديب البيروتيهل هو عبدالقادر القباني صاحب "ثمرات الفنون"؟ الذي اعتذر. وفي مكة ضمّ الى العرب القادمين ممثلين لسائر الجهات الاسلامية، وعقد هؤلاء جميعاً اثني عشر اجتماعاً سرياً في ناحية منعزلة من المدينة، تدارسوا فيها شؤون المسلمين، واقترحوا حلولاً وعلاجات لها، وأنشأوا سكرتيريا تنظيمية للمؤتمر لمتابعة تنفيذ المقررات جمعية تعليم الموحديين، ثم انفضّوا!
ذكر الكواكبي في المؤتمر المفترض "مجمل أسباب الفتور" يقصد الانحطاط، في ستة وثمانين بنداً مقسَّمة على ثلاثة أنواع: الأسباب الدينية، والأسباب السياسية، والأسباب الأخلاقية معتبراً ان هناك حاجة لإصلاح ديني جذري، وإصلاح سياسي قوي. وعمدته في عملية الاصلاح: فصل الخلافة عن السلطنة، وانتخاب خليفة قرشي مقره مكة لمدة ثلاث سنوات لا تتجاوز سلطاته السياسية منطقة الحجاز. أما بقية البلدان الاسلامية فتستقل بأمرها السياسي والاداري، وترعى أمورها الكبرى من خلال الجامعة الاسلامية ومؤتمرها العام الذي يترأسه الخليفة بمكة 22. وعلى رغم راديكالية الحل السياسي الذي يطرحه، فلا شك في أن مقترحات الكواكبي للاجتهاد والتجديد الديني تظل الأكثر لفتاً للانتباه. وهناك شبه شديد بين تلك الآراء وما كانت تعبّر عنه المنار، بل و"العروة الوثقى" من قبل. لكن اذا كانت رسالة "أم القرى" هي التعبير الأوضح عن أفكار الاصلاح الاسلامي، فإنها من ناحية ثانية أفصحت عن الوعي الجديد لنُخَبٍ عربية ما عادت تعتبر الوجود العثماني قادراً على حل مشكلات شعوب الامبراطورية، أو تحقيق طموحاتها. أما البديل الرمزي للسلطان ولاسطنبول لدى النخب أو بعض أفرادها فالقائد العربي الذي ينطلق من مكة أو يعود اليها فاتحاً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح موسم الحج في كل عام البيئة التي يجري فيها التشاور، وتحديد المشكلات، واتخاذ القرارات التي تهمّ سائر المسلمين.
1 محمد أسد: "الطريق الى مكة". نقله الى العربية عفيف البعلبكي. دار العلم للملايين. الطبعة الخامسة/ بيروت 1977، ص ص 404 - 405.
2 B. Bareilles, Les Turcs. Paris 1917. P. 207-208.
3 عنوان الرسالة Unite Islamique، وقارن عنها: Jacop Landau The Politics of Pan-Islam, Ideology and Organization. Oxford. 1990.p.22-23.
4 قارن Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, 1968, 122-133; Fritz Steppat; Kalifat, Dar al-Islam und die Loyalitat der Araber zum Osmanischen Reich; in Correspondance D'Orient Brussels, II 1970, 443-462.
5 N.Keddie, "The Pan-Islamic Appeal: Afghani and AbdulhamidII", MES, 3/1 1966, 46-67.
6 بطرس أبو منة: السلطان عبدالحميد الثاني والشيخ أبو الهدى الصيادي" بمجلة "الاجتهاد"، العدد الخامس، السنة الثانية، خريف العام 1989، ص ص 59-88. وقارن: Perceptin of Pan-Islam at the British Foreign Office, 1919; in J.Landau, Politics of Pan-Islam; op.cit. 364-366.
7 قارن: Aziz Ahamd, Islamic Modernism in India and Pakistan 1857-1964, 1967, PP. 133-156.
8 قارن: Minault, The Khalifat Movement, 1982, p.39-42; Niemeijer: The Kalifat Movement in India 1919-1924, 1972, PP. 126-158.
9 The Politics of Pan-Islam; op.cit.p.211.
10 R. Schulze, "Die Politisierung des Islam im19. Jahrhundert"; In Die Welt des Islam NS, 22/10-4 1982, 101-116; Martin Kramer, Islam Assembled. The Advent of the Muslim Congress. 1986. PP. 4-10; Landau, The Politics of Pan-Islam; op.cit.P.8-131; ولوثروب ستودارد: حاضر العالم الاسلامي، ترجمة عجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب أرسلان، الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية عام 1925، م 1/ ص ص 287-328.
11 كان ويلفريد وسكاون بلنت يرى أن الدولة العثمانية أهم أسباب ضعف المسلمين، وأن بداية التصحيح تكون بإعادة الخلافة للعرب. وقد أتى الى جدة عام 1881 م محاولاً النفاذ الى نجد من أجل كسبها لفكرته لما كان يعتقده من عداء بين أهلها وبين العثمانيين. قارن عنه وعن آرائه هذه، التي عبّر عنها في مذكراته، وفي كتابه: "مستقبل الإسلام" 1882م: A. Hourani, "Wilfrid Scawen Blunt and the Revival of the East"; in: Europe and the Middle East. 1980. PP. 87-103; M.Kramer, Islam Assembled; Op.cit. 10-25.
12 قارن بمحمد عمارة: الاسلام والعروبة والعلمانية، بيروت 1981، ص ص 9-14" ومحمد عمارة: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، مع دراسة عن الأفغاني، بيروت 1968، ص ص 38 -66، وعبدالعاطي محمد أحمد: الفكر السياسي للإمام محمد عبده، القاهرة 1987، ص ص 289-301 Landau; op.cit.P.16-26
13 جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده: "العروة الوثقى". تقديم الشيخ مصطفي عبدالرازق. دا ر الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الثالثة، 1983، ص 46.
14 "العروة الوثقى"، مصدر سابق، ص 119.
15 N.Keddie, "The Pan-Islamic Appeal: Afghani and Abdul-HamidII"; op.cit.46-67; M. Kramer, Islam Assembled; Op.cit.20-22.
16 M. Kramer; Op.cit.22-25.
17 محمد باشا المخزومي: "خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني" بيروت 1965، ص ص 38-42. وكان جمال الدين في سنواته الأخيرة كثير الحديث عن تحالف ممكن وضروري بين العثمانيين والايرانيين والأفغان.
18 مجلة "المنار"، 1/765: 39-66 17 كانون الأول /ديسمبر، 1898. ويذكر رشيد رضا في كتابه: "تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده" 1/283-287 بعد ثلاثين عاماً على ذلك أن الشيخ عبده كان يملك مشروعاً تفصيلياً للمؤتمر المكي وفروعه في العالم الاسلامي.
19 مجلة "المنار"، 2/21:325: 5 آب /أغسطس، 1899.
20 مجلة "المنار"، 2 1899: 337-345 وخصوصاً ص 342. وقارن: مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، إعداد وتحقيق يوسف إيبش، ويوسف الخوري، دار ابن عربي 1994، م 1، ص 100-108: الجامعة الاسلامية وآراء الجرائد فيها.
21 الأعمال الكاملة للكواكبي. إعداد وتحقيق محمد جمال طحّان. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995، ص 81-82.
22 الأعمال الكاملة للكواكبي، مرجع سابق، ص 358 وما بعدها.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.