منذ خريف العام 2000، توقع علماء الفلك في مرصد "آرماغ" في ايرلندا الشمالية أن يؤدي مرور الأرض قرب مذنب "تامبل - تاتل" في العام 2001 الى مشهد مثير. والمعلوم أن الأرض تقترب من ذيل هذا المدنب مرة في كل عام، وتنجح جاذبيتها في التقاط بعض البقايا التي تنفلت في استمرار منه. ولأن المذنب يدور مرة كل 33.6 عاماً حول الشمس، فإنه يقترب كثيراً من الأرض مرة كل 33 عاماً. وأحياناً، نتيجة عدم الانضباط الدقيق في دوران الأجسام السماوية، وفي هذه الحال، تتساقط كميات كبيرة من الحجارة المنفلتة من المذنب، الى الأرض بفعل قوة الجاذبية. وتحترق الحجارة التي تغلفها طبقات كثيفة من الثلج، أثناء مرورها في غلاف هواء الأرض. ويشاهد الاحتراق ليلاً على شكل تساقط شهب ملتمعة. كأنها "دوش" من الشهب، ويسمى ذلك "عاصفة ليونيد"، وتحدث مرة كل 33 عاماً. وأحياناً، ونتيجة عدم الانضباط الدقيق في دوران الأجسام السماوية، ربما تكرر مشهد "حمّام" الضياء والشهب في سنوات متقاربة. وغالباً، ما يكون لقاء الأرض السنوي مع ذيل مذنب "تامبل - طاتل" في منتصف شهر تشرين الثاني من كل عام. لكن هذا الموعد عرضة لبعض "الخربطة" أيضاً. والشهب هي حبيبات صغيرة من الثلج والغبار لا يتعدى قطرها في الغالب السنتيمتر الواحد، تلمع في غلافنا الجوي على مسافة بضع عشرات من الكيلومترات عنا، عندما تسخن الى حرارة عالية وتحترق نتيجة احتكاكها بجزيئات الهواء. وتحترق الغالبية الساحقة من هذه الحبيبات خلال ثانية أو بضع الثانية على ارتفاع حوالى 90 كيلومتراً، وبعضها يستمر في الاحتراق لثوان قليلة ويصل الى نحو بضعة كيلومترات من الأرض. لكنها نادراً ما تصل الى سطح الأرض. أما بعض الشوارد الكونية، الكبيرة نسبياً، التي تنجح بالوصول الى سطح الأرض والارتطام بها، فإنها تندرج في صنف "النيازك"، وهي التي تشكل معظم الحفر على كوكبنا، أو على الكواكب الأخرى. وقد يحدث، ولو نادراً، أن بعض الشوارد الكونية التي تزورنا ليست صغيرة كفاية لتحترق كشهاب عادي، وليست كبيرة كفاية لترتطم بالأرض كنيزك، لكن كتلتها تكفي لاختراق عمق غلافنا الجوي والوصول الى مسافة قليلة من سطح الأرض، منتجة، في هذا العبور الناري، لمعاناً شديداً وعرضاً ضوئياً مثيراً قد يستمر بضع ثوان وينتهي بانفجار يمكن سماعه من على الأرض، كما يمكن أن تترك ذيلاً من الدخان والجزيئات المشحونة دقائق عدة. مثل هذه الشهب النوعية النادرة تسمى عادة "كرات النار". الشهاب المتفجر الذي شهدته سماء مدينة "هانوفر" في المانيا عام 1995 نموذج ل"كرات النار" أمكن تسجيله وتصويره في السنوات الأخيرة. مصادر الشهب في كل مرة يمر مذنب ما بالقرب من الشمس، فإنه يسخن وينتفخ ويتشكل له ذيل طويل من الثلج والغبار تقذفها الريح الشمسية وهي عصف من الجزيئات المشحونة المنطلقة من الشمس بسرعة فائقة آلاف بل ملايين الكيلومترات خلف نواة المذنب. كما أن جزءاً من مادة المذنب وهذه مزيج من الثلج والغبار يتبخر أو يقتلع من ذيله ويشكل جرفاً من الرذاذ يدور في شكل مستقل في مدار المذنب الأم. وإذا حدث أن تقاطع مدار الأرض مع مدار مثل هذا التجمع في فتات المذنب، فإن مشهداً مميزاً من الشهب المكثفة سوف نراه مثل "دوش" مضيء في السماء. وتختلف مصادر الشهب وطبيعتها عن مصادر النيازك وطبيعتها في شكل عام. فبينما تأتي الشهب من حبيبات خفيفة قليلة الكثافة تركها مذنب ما، منثورة في مداره، تأتي النيازك من أجسام صلبة صخرية أو معدنية، تدعى "كويكبات"، تدور ملايين منها حول الشمس في شريط مداري يرتسم بين مداري المريخ والمشتري ويدعى "حزام الكويكبات". والغالبية العظمى للكويكبات لا يتعدى قطرها المئة متر، إلا أن أجساماً نادرة منها يصل قطرها الى عشرات الكيلومترات. مواعيد الهطول تدخل بقايا الفتات الكونية الى غلافنا الجوي يومياً وتتحول إثر احتراقها الى شهب مضيئة في سماء الأرض. ويمكن لأي كان، مشاهدة شهاب أو أكثر في الساعة خلال أي ليل مظلم، إذا أطال النظر الى السماء. لكن في أوقات معينة، تزداد نسبة الشهب المرئية في شكل ملحوظ، فنشهد ما نسميه "دوشاً" أو "شلالاً" أو "رشاشاً" من الشهب، يستمر عادة ساعات طويلة أو ربما بضعة أيام. أضف الى ذلك ان الشهب إذاك تبدو كأنها تنبع من نقطة محددة في السماء. وأصبح ظهور بعض "الدوشات" الشهبية حدثاً دورياً يمكن التنبؤ بتوقيته تقريباً، وهو يفترض مرور كوكب الأرض بتجمعات غير عادية لحبيبات صغيرة في أمكنة محددة من مداره حول الشمس. وأصبح معروفاً أن هذه التجمعات تتموضع في مدارات لمذنبات دورية معروفة. ويعرّف الفلكيون مجموعات الشهب التي تضرب في أوقات دورية بحسب المصادر الفلكية التي تبدو آتية منها. فشهب "برسيد" مثلاً تبدو كأنها تأتي من البرج الفلكي "برسوس". وهي تدوم اياماً وتبلغ ذروتها في صباح 12 آب أغسطس من كل عام، إذ تبلغ خمسين شهاباً في الساعة تقريباً. وكذلك نسمي "دوش دراكونيد" مجموعة الشهب التي تظهر في 9 تشرين الأول أكتوبر، وتبدو كأنها تأتي من نقطة محددة في برج التنين "دراغون". أما "دوش ليونيد" حين تبدو الشهب آتية من برج الأسد ليو. فيحدث عادة في 17 تشرين الثاني نوفمبر من كل عام بنسبة 12 شهاباً في الساعة فقط، في السنوات العادية. لكن هذا الحدث الليونيدي يمرّ بذروة مميزة كل ثلاثة وثلاثين عاماً، حين نشهد آلافاً من الشهب بل عشرات الآلاف تظهر في الساعة الواحدة. وتوقع مرصد "آرماغ" أن تعصف الشهب الليونيدية هذا العام خلال ساعات الفجر الأولى من يوم الأحد في 18 من الشهر الجاري، في شكل لم يسبق له مثيل منذ "دوش 1966". ويترك مذنب "تامبل - تاتل" في مداره الاهليليجي البيضاوي شريطاً من رذاذ الحجارة التي اقتلعتها الشمس من ذيله الطويل عند مروره قربها. وعندما يحدث أن يمر كوكبنا عبر هذا الشريط بعد مرور المذنب مباشرة، فإننا سوف نغطس في هذا الجرف الكثيف من فتات المذنب، محولاً "دوش ليونيد" الدوري الى عاصفة شهبية تنتج عرضاً ضوئياً رائعاً حيث تظهر آلاف من الشهب في الدقيقة الواحدة. آخر عاصفة كبيرة من شهب ليونيد حدثت عام 1966 أي منذ مدة مدارية واحدة تقريباً 33 عاماً لمذنب "تامبل - تاتل" المسؤول عن هذا النوع من الشهب. وحديثاً، في بداية العام 1998، دخل هذا المذنب الى عمق النظام الشمسي واقترب الى أقرب مسافة له من الشمس عام 1999، حيث أنتج "دوشاً" غزيراً من الشهب الليونيدية، شوهدت حينها فوق مناطق من الشرق الأوسط، وبلغ معدلها في الذروة حوالى 3700 شهاب في الساعة. لكن في العام التالي، العام 2000، كان النشاط الليونيدي ضعيفاً ولم ينتج في ذروته سوى بضع مئات من الشهب في الساعة. مثل هذه التوقعات لا تخيب الآمال عادةً. وكان تاريخ الفلك عرف عواصف من شهب ليونيد على امتداد ألف عام. وفي القرنين الأخيرين تمت مشاهدة وتوصيف وتصوير أحداث من هذا النوع. ففي ليل 12-13 تشرين الثاني من العام 1833 عصفت شهب ليونيد في سماء بوسطن وكأن المدينة تشهد عاصفة ثلجية بحسب وصف سكان المدينة في حينه. وقد سمى الروائي الأميركي ر.م ديفنز هذه العاصفة كواحدة من بين أهم مئة حدث في الذاكرة في تاريخ أميركا. أما عام 1966 فقد اشتدت العاصفة الشهبية الليونيدية الى درجة انها أصبحت، بحسب أحد المراقبين في حينه، "غير قابلة للعد"، وبحسب مراقب آخر بلغت كثافتها 150 ألفاً في الساعة، في ذروة استمرت عشرين دقيقة. وتذكر الصحف الأميركية في حينه أن كثيراً من الناس أوقظوا من نومهم، منهم بسبب صيحات الدهشة والتأثر عند جيرانهم ومنهم بسبب أضواء الشهب التي أنارت السماء. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.