وصول أولى طلائع حجاج الخارج ل"مطار المدينة"    هبوط المخزونات الأمريكية يصعد بالنفط    "واتساب" يجرب ميزة جديدة للتحكم بالصور والفيديو    إخلاء مبنى في مطار ميونخ بألمانيا بسبب حادث أمني    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ويتأهل إلى نهائي "الأبطال"    طرح تذاكر مباراة النصر والهلال في "الديريي"    أمطار رعدية ورياح تؤدي إلى تدني في الرؤية بعدد من المناطق    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة طريق مكة من ماليزيا إلى السعودية    زيت الزيتون يقي أمراض الشيخوخة    بايدن يهدد بوقف بعض شحنات الأسلحة إلى إسرائيل إذا اجتاحت رفح    الديوان الملكي: وفاة والدة الأمير سلطان بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود    محادثات "روسية-أرميني" عقب توتر العلاقات بينهما    الاتحاد يتحدى الهلال في نهائي كأس النخبة لكرة الطائرة    «سلمان للإغاثة» يختتم البرنامج التطوعي ال25 في «الزعتري»    أشباح الروح    بحّارٌ مستكشف    جدة التاريخية.. «الأنسنة» بجودة حياة وعُمران اقتصاد    السعودية تحقق أعلى مستوى تقييم في قوانين المنافسة لعام 2023    دجاجة مدللة تعيش في منزل فخم وتملك حساباً في «فيسبوك» !    منها الطبيب والإعلامي والمعلم .. وظائف تحميك من الخرف !    النوم.. علاج مناسب للاضطراب العاطفي    احذر.. الغضب يضيق الأوعية ويدمر القلب    القيادة تعزي رئيس البرازيل    المملكة ونمذجة العدل    نائب أمير الشرقية يلتقي أهالي الأحساء ويؤكد اهتمام القيادة بتطور الإنسان السعودي    نائب أمير منطقة مكة يكرم الفائزين في مبادرة " منافس    ختام منافسة فورمولا وان بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي    كشافة شباب مكة يطمئنون على المهندس أبا    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    أسرة آل طالع تحتفل بزواج أنس    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    سعود بن جلوي يرعى حفل تخريج 470 من طلبة البكالوريوس والماجستير من كلية جدة العالمية الأهلية    14.5 مليار ريال مبيعات أسبوع    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    محافظ قلوة يدشن أعمال ملتقى تمكين الشباب بالمحافظة.    الوعي وتقدير الجار كفيلان بتجنب المشاكل.. مواقف السيارات.. أزمات متجددة داخل الأحياء    البلوي يخطف ذهبية العالم البارالمبية    مدرب أتالانتا: مباراة مارسيليا الأهم في مسيرتي    الجولة ال 31 من دوري روشن للمحترفين.. نقطة تتوج الهلال أمام الحزم.. والشباب يستقبل الأهلي    مهرجان المنتجات الزراعية في ضباء    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    أعطيك السي في ؟!    سمير عثمان لا عليك منهم    الذهب من منظور المدارس الاقتصادية !    تغيير الإجازة الأسبوعية للصالح العام !    الاتصال بالوزير أسهل من المدير !    حماس.. إلا الحماقة أعيت من يداويها    35 موهبة سعودية تتأهب للمنافسة على "آيسف 2024"    "الداخلية" تنفذ مبادرة طريق مكة ب 7 دول    وزير الشؤون الإسلامية يدشّن مشاريع ب 212 مليون ريال في جازان    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس مجلس إدارة شركة العثيم    أمير تبوك يشيد بالخدمات الصحية والمستشفيات العسكرية    انطلاق المؤتمر الوطني السادس لكليات الحاسب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل    المدح المذموم    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضور اليهودي في الولايات المتحدة : الواقع والخلفية
نشر في الحياة يوم 27 - 01 - 2001

لا شك في أن الصورة النمطية للحضور اليهودي في الولايات المتحدة هي اليوم صورة تفوق ونفوذ وتجانس، واستقرار وسلطة وقوة. وبالفعل، وبنسبة عددية تجاور إثنين في المئة فقط، يكثر وجود الأميركيين اليهود في المواقع القيادية والمسؤولة في عدد من أبرز القطاعات الاقتصادية والمؤسسات الثقافية والإدارات الحكومية.
من ألن غرينسبان، مدير مجلس الاحتياط النقدي الاتحادي وصاحب القول الفصل في توجيه الاقتصاد الأميركي، إلى ستيفن سبيلبيرغ، المخرج الراوي الذي يختزل الذاكرة التاريخية الأميركية ويصيغها في آن، مروراً بأعداد كبيرة من الأطباء والمحامين والأساتذة الجامعيين ورجال المال والأعمال... لا شك في أن الهوية الثقافية الأميركية، ببعديها العام الشعبي والخاص النخبوي، ممهورة بهذا الحضور، ولا يكاد يخلو جانب منها من بروز شخصيات رئيسية تعود أصولها إلى خلفية يهودية.
إنها إذاً ظاهرة تاريخية اجتماعية تستحق الدرس والتحليل. إلا أن ثمة تردداً ونفوراً، لدى معظم الباحثين في الولايات المتحدة إزاء خوض هذا الموضوع. ولهذا الموقف السلبي ما يبرره بالفعل، اذ أن التفسيرات المتداولة، خارج إطار البحث العلمي وانطلاقاً من اعتبارات أقل ما يقال عنها أنها تتعلق بالأهواء، تتوزع على أربعة مذاهب:
المذهب الأول هو، للأسف، الشائع تصريحاً وتلميحاً في معظم الصحافة العربية، وهو المذهب "المؤامراتي" الذي يفترض أحادية عضوية لليهود عبر التاريخ، فهم قتلة الأنبياء وأصحاب المكائد وأتباع البروتوكولات وأسباب الفتن، يبلغون مآربهم بالمكر والخديعة، ولأنهم مدانون بيهوديتهم تسقط عنهم إنسانيتهم، وصولاً إلى هدر دمائهم فرادى وجماعات.
أما المذهب الثاني الذي قد تصح تسميته بالمذهب "الجوهراني"، فينطلق غالباً من افتراض صحة التواصل العضوي والمسؤولية الجماعية لممارسة موسومة ضمناً بالسلبية. لكنه يحاول إيجاد التفسير العلمي المفترض لهذه الممارسة، من دون الاكتفاء بمجرد إصدار الحكم التعسفي، فينشط في مشروع البحث عن جوهر "الشخصية" اليهودية عبر التاريخ، فيجد لا محالة في تجواله الانتقائي المنتخبات الثقافية الكفيلة بتأكيد الطابع النفعي أو الاستغلالي لهذه الشخصية، مهملاً بالطبع إدراك أن هذه المقومات الثقافية ليست حكراً على اليهود ولا هم حكر عليها. ولا تخلو الصحافة العربية، في شقها الراقي، من النماذج المستفيضة لهذا المذهب المتهافت.
وفي مقابل هذين المذهبين اللذين يستهويان خصوم اليهود واليهودية، يتفشى في بعض الأوساط اليهودية مذهب من طراز أهوائي مخالف، وهو المذهب "العلموي" الذي يرى في التفوق اليهودي تجسيداً لمقولة النشوء والارتقاء الداروينية في تطبيق اجتماعي. اذ أن "اليهود"، بصفة عرقية عضوية، واجهوا عبر تاريخهم الظروف الشاقة التي شذبت الضعيف منهم وأبقت على القوي. لذلك، وفقاً لهذه المقولة، فإن مستوى الذكاء لدى اليهود مرتفع، وتفوقهم أمر طبيعي مرتقب.
أما المذهب الرابع، ومعظم من يلتزمه من المتدينين اليهود وأتباع التشكيلات الأصولية المسيحية، فيرى في بروز اليهود تحقيقاً لمشيئة إلهية على أبواب الملاحم التي تنذر بحلول يوم الدينونة!
والواقع أن هذه المذاهب الأربعة تشترك بتجاهلها للتجربة التاريخية، بما في ذلك المذهب "الجوهراني" الذي يزعم الانطلاق من هذه التجربة في حين يعمد فحسب إلى تطويعها لتتوافق مع المقومات الجوهرية المفترضة للشخصية التاريخية، أي، في ما يتعلق باليهود، النفعية والانتهازية والوصولية. فالتجربة التاريخية للأميركيين اليهود تنطوي من دون شك على المعطيات التي يمكن من خلالها تفسير النجاح البارز لهذه الجالية في هذه المرحلة التاريخية. لكن هذا التفسير يبقى استدراكياً. أي أنه ليس للأميركيين اليهود، لا في تجربتهم التاريخية، ولا في اتجاهاتهم الثقافية المتعددة والمتضاربة، على رغم إصرار الجوهرانيين على افتراض أحادية ثقافية يهودية أو على الأقل روحية يهودية ثابتة، ليس لهم على الإطلاق ما يجعل النجاح الذي يعيشونه اليوم حتمية لا بد منها. فالتاريخ، كل التاريخ، ليس آلة تسير بخطى ثابتة نحو النتيجة الأكيدة، بل حالة متحولة بمتغيرات عدة، للأفراد والجماعات قدرة متفاوتة وغالباً متواضعة في التأثير فيها.
ما هي التجربة التاريخية للأميركيين اليهود؟ وما هي الظروف التي ساهمت في بلوغهم النجاح البارز عند خاتمة القرن العشرين؟
يعود الحضور اليهودي في العالم الجديد إلى ما قبل قيام الولايات المتحدة، إذ استقر في القرن السابع عشر في مستعمرة نيو أمستردام الهولندية التي أصبحت مدينة نيويورك بعدما استولى عليها البريطانيون، عدد من اللاجئين اليهود الفارين من الاحتلال البرتغالي للبرازيل. ولم يتجاوز عدد السكان اليهود في الولايات المتحدة عام 1776 عند إعلان الاستقلال 2500 نسمة. وتشير الأدبيات اليهودية الأميركية باعتزاز إلى حاييم سالومون، اليهودي البولوني الأصل كأحد أبطال الاستقلال. غير أن اليهود، في المرحلة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، كانوا أقلية هامشية خارج الصورة الثقافية الذاتية للولايات المتحدة والتي أرسى معالمها "الآباء المؤسسون".
فهذه الصورة، وإن اجتهدت في تطوير صيغة وطنية عقائدية خارج الإطار الكنسي، فإنها انطلقت ضمناً من الإقرار بمسيحية البلاد وأنكلوساكسونيتها. والمسيحية، هنا، هي طبعاً البروتستانتية التي تلقي الشبهات على الكاثوليكية فكيف الحال باليهودية؟. والانكلوساكسونية هي الانتماء العرقي الثقافي الحضاري، حيث الفرد "الأبيض" الناطق بالإنكليزية هو من دون غيره صاحب الحق الدستوري في الحياة والحرية والسعي إلى السعادة! وقد يجوز اختزال التاريخ الاجتماعي الثقافي الأميركي بموضوع تصحيح الخلل في الإقرار بالحقوق والمساواة والسعي إلى تجاوز التمييز القائم على أساس التصنيف العرقي أو الديني. ولا بد من التشديد على أن الأفارقة الأميركيين، لا اليهود ولا غيرهم، هم الذين تحملوا العبء الأكبر نتيجة هذا الخلل الذي فرض عليهم العبودية ثم الفصل العرقي وصولاً إلى الأشكال المستمرة من التمييز العنصري المموه.
أما اليهود الذين ارتفعت أعدادهم مع الهجرة الوافدة التي شهدتها الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، فالتزموا المواقع الثانوية في الهرم الاجتماعي الأميركي، إلى جانب سائر المجموعات القومية الأوروبية، وانتشروا في أرجاء البلاد خصوصاً المقاطعات المستحدثة. أما المقاطعات "العريقة"، فكانوا فيها قلائل. وكثر في أوساطهم التجار المتجولون، ولم يكن منهم من الأطباء والأدباء وأصحاب المهن العليا إلا القلة القليلة. ومعظم اليهود الأميركيين في القرن التاسع عشر كان من أصول ألمانية. وفي مقابل انتشار الحركات الدينية التقدمية في الوسط المسيحي، انتشر في أوساط الجالية اليهودية المذهب الإصلاحي القائم على تطويع الموروث الديني قلباً وقالباً بما يتوافق والمجتمع القائم. وهو مذهب تعود نشأته بالفعل إلى الوسط اليهودي الألماني.
وعند اندلاع الحرب الأهلية الأميركية عام 1861، لم يكن للأميركيين اليهود موقف موحد من الصراع، بل التزم معظمهم الولاء لولايته، فمنهم من حارب مع الجنوب الزراعي المطالب بالمحافظة على نظام العبودية، ومنهم من قاتل في صفوف الشمال الصناعي الداعي إلى إزالتها وإلى تعزيز السلطة الاتحادية. يذكر هنا كذلك أنه لم تكن ثمة قراءة يهودية واحدة للموقف الديني من العبودية. إذ ان بين فقهائهم من نادى بتحريمها، ومنهم من أكّد شرعيتها. وموضوع الدور اليهودي في استعباد الأفارقة وجلبهم إلى القارة الأميركية هو اليوم شائك وسلاح سجالي يستخدمه بعض المثقفين الأفارقة الأميركيين في مواجهة المواقف الخطابية الفكرية لكثير من المثقفين اليهود، والتي تفترض التكافؤ في صعوبة التجربة التاريخية بين الجماعتين.
ولا شك في أن افتراض التكافؤ هذا هو افتراض مجحف، اذ أن صعوبة التجربة التاريخية لليهود الأميركيين، وهم "البيض" الأحرار غير البروتستانتيين، توازي الصعوبة التي عانى منها الإيرلنديون مثلاً، لانتمائهم إلى الكنيسة الكاثوليكية، وليس الأفارقة، لا في طور عبوديتهم ولا في طور اعتاقهم المبتور الذي كاد أن يجعل منهم مادة انتاجية استهلاكية للاقتصاد الصناعي الأميركي الناشىء. ولكن، من جهة أخرى، كان ادعاء دور "طليعي" للتجار اليهود ورأس المال اليهودي في استعباد الأفارقة زعماً يخالف الوثائق التاريخية، اذ أن الدور اليهودي في النشاط الاستعبادي كان متناسباً مع الحجم الاقتصادي المحدود للسكان اليهود فقط. أي أن اليهودية لم تكن عاملاً مؤثراً، لا سلباً ولا إيجاباً، في ضلوع الأفراد والجماعات بتجارة العبيد.
أما مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية فتميزت بارتفاع الهجرة اليهودية وغيرها نتيجة تصاعد الفرص الاقتصادية. وأفادت الجالية اليهودية الألمانية الأصل، وبعض الجاليات الأخرى، من انفتاح الأسواق الداخلية في الولايات الجنوبية إثر الحرب لتحقيق تقدم اجتماعي اقتصادي ملحوظ. وأدى هذا الوضع الجديد إلى بروز مواقف ذات طابع عصبي على أكثر من صعيد. فالنخبة الاقتصادية الاجتماعية الأنكلوساكسونية البروتستانتية عمدت إلى الانتظام الدفاعي في أطر أندية وجامعات ومؤسسات اقتصرت عضويتها على المنتمين إليها، مشكلّة بالتالي عائقاً أمام التقدم الاجتماعي والاقتصادي لسائر الجاليات، بما فيها اليهود. وعند الطرف الآخر من الهرم الاقتصادي الاجتماعي، فإن فئات شعبية، خصوصاً في الولايات الجنوبية المنكوبة نتيجة الحرب، اعتبرت أن تقدم غيرها هو على حساب تخلفها، فبرز في أوساطها التأييد للحركات العنصرية، ولا سيما منها جمعية كو كلاكس كلان السرية. وتعرض السكان اليهود والكاثوليك للمضايقات. وهذه المضايقات، وإن كانت سطحية بالمقارنة مع الاضطهاد والتنكيل اللذين رزح تحت وطأتهما الأفارقة الأميركيون في الولايات الجنوبية، فإنها ساهمت في ترحيل اليهود إلى المدن وإعدادهم للطابع المديني الذي اتسمت به الجالية اليهودية الأميركية في القرن العشرين.
وأدت التطورات الاجتماعية الاقتصادية قرابة نهاية القرن التاسع عشر إلى تعارض ضمن الجالية اليهودية نفسها، ذلك أن الأوساط اليهودية الألمانية التي كانت تسير قدماً باتجاه استكمال اندماجها الاقتصادي والثقافي بالمجتمع الأميركي، وجدت في القادمين الجدد من اليهود، وجلّهم من الروس والرومانيين الذين لا يستوفون الشروط الأولى للتمدن وفق التعريف الأميركي حينئذٍ، تهديداً لصورتها. وحاول وجهاء الجالية القديمة التصدي للمسألة عبر تنشيط مؤسساتهم الخيرية الهادفة إلى استصلاح الوافدين. ولا تزال هذه المؤسسات تشكل الإطار الأساسي للقيادة النخبوية للجالية اليهودية.
وعلى رغم اتهامها بالفوقية، فإن الجالية اليهودية الألمانية بقيت إلى أمد طويل، الصورة المرجعية لليهودي المثقف والمتمدن. وفي أي حال، شهد العقدان الأخيران من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين نزوحاً هائلاً من أوروبا الشرقية إلى الولايات المتحدة. وفي العام 1925، بلغ عدد اليهود الأميركيين أربعة ملايين ونصف مليون نسمة من مجموع عام كان 115 مليون نسمة.
وكما أن قدوم المهاجرين الإيرلنديين ثم الإيطاليين ابتداءً من أواسط القرن التاسع عشر ساهم في تعجيل تصحيح مفهوم الانتماء والمواطنة ليتعدى البروتستانتية إلى صيغة "مسيحية" مبهمة جامعة، فإن الحضور اليهودي الكبير في صلب القرن العشرين، خصوصاً في المناطق المدينية، دفع هذا التصحيح قدماً في اتجاهين يكادان أن يكونا متعارضين: أحدهما تراكمي يضيف عنصراً إلى آخر، فتبرز الإشارة إلى الهوية اليهودية - المسيحية للثقافة الأميركية، والآخر تحريري يطالب بنزع الصفة الدينية عن الهوية الأميركية مشدداً على علمانيتها.
واتسمت الهجرة اليهودية، في مطلع القرن العشرين، بالتجانس لغوياً وجيلياً. إذ اشترك المهاجرون اليهود كافة، على اختلاف الأقطار التي وفدوا منها، باللغة الييديشية وهي لغة مزيج مطعمة بالمفردات العبرية والآرامية، شريحتها العليا ألمانية والدنيا سلافية. كما أنهم كانوا في معظمهم من الشباب، فاتسم حضورهم بالانتاج والخصوبة، فاكتظت المدن بهم. إلا أن أفراد هذا الجيل المهاجر، بخلاف الأجيال اليهودية الأميركية التي سبقت، لم يقصروا أعمالهم على التجارة، بل توزعوا في القطاعات المختلفة، ولا سيما منها العمالية.
وتتجلى أهمية الحركة النقابية اليهودية في العقود الأولى من القرن العشرين على مستويين: فهي، من ناحية، شكلت مرحلة رئيسية في بلورة المنظمات العمالية في الولايات المتحدة كلها، عبر سلسلة من الإضرابات في المدن الرئيسية خصوصاً نيويورك وشيكاغو. وهي، من ناحية أخرى، أرست في الأوساط اليهودية الأميركية اتجاهات علمانية شبه اشتراكية، تنشط ثقافياً ومسرحياً وشعرياً وروائياً، باللغة الييديشية، وتلتزم المنحى التقدمي وصولاً إلى التعاطف مع الحق العربي في فلسطين. والواقع أن الصهيونية، كحركة قومية ناشطة ثقافياً باللغة العبرية، وداعية إلى الهجرة إلى فلسطين، واجهت في الأوساط اليهودية الأميركية في الثلث الأول من القرن العشرين مقداراً ملحوظاً من الريبة أو التحفظ أو العداء.
ويمكن اعتبار الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين، النهج الثالث والإطار المؤسساتي الثالث في صفوف الجالية اليهودية الأميركية، من حيث الترتيب الزمني والنفوذ الاجتماعي، خلف القيادة النخبوية الألمانية والحركة العمالية الييديشية. ويذكر أن الحماسة المحدودة إلى الحركة الصهيونية جاء في إطار التأييد المبدئي لمقولة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الداعية إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها مع الإغفال المدوي طبعاً لحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه. وقد أفاد الصهيونيون من انضمام بعض أبرز الشخصيات اليهودية الأميركية إلى صفوفهم، ولا سيما منها القاضي لويس براندايس، عضو المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة.
والواقع أن الصهيونية شكلت لفئة من المثقفين اليهود الأميركيين حلاً وسطاً بين الاندماج الثقافي الذي كانت القيادة النخبوية للجالية تسير باتجاهه، و"الابتذال" الثقافي المتجسد في التهجين الييديشي. فالصهيونية، بالتزامها اللغة العبرية، أصالة ثقافية يهودية.
وثمة فارق مهم بين الالتزام اللغوي لكل من الحركتين العمالية والصهيونية. فالحركة العمالية، هي في صميمها حركة أممية. ومحافظتها على اللغة الييديشية تنطلق من اعتبارات عملية أو عاطفية. أما الصهيونية، فهي حركة قومية، تلتزم اللغة العبرية من منطلق عقائدي، وتشدد على أن هذه اللغة هي اللغة اليهودية الأصلية. والواقع أن الثقافة الييديشية هي الثقافة الأم للجالية اليهودية الأميركية، واللغة الييديشية هي لغتها الأصلية. فمعضلة هذه اللغة هي أنها لم تجد من يرى في التزامها واجباً قومياً، وأن وطن نشأتها في أوروبا الشرقية قد ضاع نتيجة التواطؤ الضمني للنازية والشيوعية والصهيونية.
ولم يكن نجاح الصهيونية لاحقاً في اختراق الجالية اليهودية الأميركية وليد عصبية عضوية تلقائية، بل نتيجة تضافر ظروف ثقافية وتاريخية أضعفت الصيغة البديلة، ومنها خصوصاً استفحالُ الخطر النازي في أوروبا، والأزمةُ الاقتصادية التي اطاحت كثيراً من المكاسب الاجتماعية في الثلاثينات، وارتيابٌ في المجتمع الأميركي من الحركات العمالية والنقابية واتهامها بأنها جزء من "الخطر الأحمر". فالعداء للتنظيمات العمالية استحال أحياناً تهجماً صريحاً على اليهود. ويذكر في هذا الصدد نشاط هنري فورد مؤسس شركة انتاج السيارات المعروفة، في إصدار دورية تضع اليهود في خانة التآمر على الحضارة، وتكشف ضلوعهم المفترض بكل كارثة حلّت بالبشر. والطروحات التي استخدمها فورد لم تكن جديدة، بل استمدت مضمونها من المخزون المسيحي الأوروبي المعادي لليهود، وإن أُعيدت صياغتها بحلة معاصرة. واضطر فورد نتيجة الدعاوى القضائية إلى التراجع عن منشوراته، لكن هذه المنشورات، على رغم سذاجة تركيبها، لا تزال تصدر، وأحياناً بترجمة عربية.
في مقابل العوامل السلبية، شهدت مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية كذلك اتساع الخدمات الاجتماعية التي تقدمها السلطات المحلية والاتحادية في الولايات المتحدة، خصوصاً توفير الجامعات الرسمية المجانية. وقد أفاد أفراد الجيل اليهودي الثاني أي أولاد المهاجرين الذين قدموا مطلع القرن من هذه الخدمات ومن الفرص التعليمية المتوافرة بشكل ملحوظ. ففي مدينة نيويورك، بلغت نسبة الطلاب اليهود النصف تقريباً من مجموع طلاب الجامعات في مقابل نسبة السدس لليهود من عموم السكان.
ولا شك في أن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية ساهمت في التقوقع الطائفي في عموم الولايات المتحدة، وبالتالي في تعزيز الانتماء اليهودي على حساب الرغبة في الاندماج. ووظّف الانتماء اليهودي لمصلحة الصهيونية. وفي حين شكّل إعلان قيام دولة إسرائيل زخماً للصهيونية في صفوف اليهود الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن الإشارة إلى عاملين مهمين في إحلال واقع جديد شكلت فيه الصهيونية الإطار الثقافي "الرسمي" الأول للجالية اليهودية الأميركية: أولهما الشعور المتعاظم بالخطر الداهم مع استتباب ثقافة "المحرقة"، ومع اتضاح معالم الكارثة التي حلّت باليهود الأوروبيين. وثانيهما، انتظام التحالف بين القيادة النخبوية للجالية اليهودية والطبقة السياسية في دولة إسرائيل، عبر انخراط أبرز الشخصيات الصهيونية الأميركية في البنى المؤسساتية للجالية وتكريس نفوذها عليها.
وفي مقابل التحول في البنية القيادية واحتكار الصهيونية للإطار المؤسساتي اليهودي، فإن العوامل المحبذة للرغبة في الاندماج ارتفعت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك للاستعداد الثقافي والمهني لدى أفراد الجيل اليهودي الثاني للافادة من الفرص المتاحة في أجواء ازدهار اقتصادي. وبالفعل، فإن التألق اليهودي الذي تشهده الولايات المتحدة اليوم هو وليد الدور البارز لهذا الجيل في النهضة الاقتصادية في الخمسينات، ثم في حركة الحقوق المدنية في الستينات. وتكرس نجاح الجيلين اليهودي الثاني والثالث بتجاوز "المحظورات" السياسية التي استثنت اليهود وغيرهم من المناصب الرئيسية، بدءاً بتعيين هنري كيسنجر مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية، وصولاً إلى اختيار آل غور جوزف ليبرمان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس.
ومع الصعود المتدرج الوثيق اجتماعياً واقتصادياً للمجتمع اليهودي الأميركي كله، يمكن الإشارة إلى تجاذب في الهوية الثقافية السياسية لمعظم الأميركيين اليهود بين ولاءات متعارضة أو حتى متضاربة.
فالخلفية العمالية الييديشية أرست اقتناعاً بتقدمية بديهية في الثقافة اليهودية. ومن هنا، إذاً، ارتفاع المشاركة اليهودية في النشاط التقدمي على اختلاف أشكاله. لكن "التثقيف" الصهيوني، في سعيه إلى ترجمة رواسب الانتماء الديني هوية قومية ملتزمة، نجح إلى حد كبير في تثبيت "اليهودية" هوية أساسية. والواقع أن هذا التثقيف أفاد من الاتجاه الثقافي السائد باعتبار التقوقع القومي المتشائم الإتنية حقيقة عضوية ثابتة. ثم ان تحديد طبيعة الالتزام الديني لا يزال يشكل معضلة في الأوساط اليهودية. فاليهود الأميركيون يتوزعون بين ثلاثة مذاهب رئيسية: الإصلاحي الذي يطوع الموروث التقليدي شكلاً ومضموناً لمتطلبات العصر، والمحافظ الذي يبقي على المضمون ويرضى بتبديل الشكل، والناموسي الذي يتقيد بالتقليد قلباً وقالباً. لكن هذه الاتجاهات الثلاثة آخذة بالتشعب. فالناموسي اليوم فروع عدة أهمها الناموسي المعاصر الذي يرضى ببعض التعديل ويقترب تالياً من المحافظ، والناموسي المتشدد الذي يكاد يدعو الى انطوائية نصّية صارمة.
والمحافظ إما تقليدي وإما تقدمي، والإصلاحي الذي كاد أن يعتبره بعضهم برزخ خروج من اليهودية، يريده أهله اليوم برزخ دخول إليها لغير اليهود. والارتباك هو أيضاً حال كثيرين من اليهود سياسياً. فالولاء السياسي للحزب الديموقراطي، بوجهه المديني الشمالي التعددي، وهو الوجه التقدمي الذي أستتب لهذا الحزب في أعقاب حركة الحقوق المدنية، ربما تجاوزه الزمن موضوعياً، أي أن مصلحة كثيرين من أفراد الجيل اليهودي الثاني والثالث تتوافق بشكل أفضل مع دعوات الحزب الجمهوري إلى الخفض الضريبي. لكن الولاء اليهودي للحزب الديموقراطي لا يزال واسع النطاق.
إن اعتبار العوامل التي أدت إلى النجاح اليهودي الأميركي عند مطلع الألفية الجديدة قد يرضى أو لا يرضى بمقولة إفادة الجيل اليهودي الثاني من معطيات المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية والمرحلة التي تلتها، ولكن، نظراً إلى التجاذب المتعدد الأوجه الذي يعيشه الفرد والمجتمع اليهوديان في الولايات المتحدة، لا بد من أن يصل إلى نتيجة أن العامل الأول ليس "الشخصية" اليهودية، لا سلباً ولا إيجاباً، ذلك أن هذه "الشخصية" ليست أحادية ولا قابلة للتنميط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.