الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يحررنا الاسلام من التبعية ؟ . ما بين اقامة الصلاة واقامة الحضارة من الصلاة
نشر في الحياة يوم 14 - 07 - 2000

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "بني الاسلام على خمسة أركان: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم".
الحديث واضح في أن الاسلام كالبرج الشامخ، بني على خمسة أركان، فهذه اذاً أركان لا تختزل الشريعة، كما أن المبنى لا يكتمل بالأركان وحدها، بل لا بد له من سقف وجدران ومرافق، يتم بها شموخ المبنى.
هناك اذاً أركان الايمان الروحية والشعائر، وهناك أركان الايمان الاجتماعية، كالأخلاق والعدل والقانون، وهناك أركان الايمان المادية، وهي العمران وكل ما يقيم الحضارة الشامخة كمتانة الاقتصاد، ومنها الزكاة والصدقات.
فالزكاة نتيجة الوفرة والغنى، فاذا لم يكن هناك غنى ولا شموخ اقتصادي، فمن أين الزكاة والصدقات؟
وعندما نعود الى مفاهيم الوحي، نجد الشريعة تحتوي على الجوانب الثلاثة المشار اليها: جانب مفاهيم الايمان والشعائر الروحية، وجانب المفاهيم الاجتماعية، وجانب المفاهيم الاجتماعية، وجانب المفاهيم العمرانية.
وتجمع شملها عبارة متكررة في القرآن الكريم "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".
وعندما نعود الى الممارسة النبوية والراشدية، نجد الربط بينهما أيضاً.
كل هذه المفاهيم والقيم، مشروع متكامل للتقدم الروحي والأخلاقي، والاجتماعي والعمراني معاً، وبذلك تكتمل مقومات الحضارة في الاسلام، وكل هذه الأمور داخلة في مفهوم الاسلام، وكلها اذاً من العباءات المشروعة، كما ورد في الحديث الصحيح: "الايمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا اله الا الله، وأدناها اماطة الأذى عن الطريق".
اذاً هذه شعب، أي أعضاء، لا تنفصل فيها شهادة التوحيد، عن نظافة الشوارع والبيوت، ولا تنفصل اقامة الصلاة، عن اقامة الاخلاق، واقامة ميزان العدل والمساواة، ولا ينفصل فيها التوحيد عن الوحدة، ولا ينفصل التنديد بالكفر والابداع، عن التنديد بالخلاف والشقاق، ولا ينفصل ايتاء الزكاة عن طلب الغنى.
وفي القرآن مئات الاشارات الى الدنيا، ومئات الاشارات الى الدين، ولم يردا في موضع واحد بصورة النقيضين، ولا في صورة غير المتجانسين، ولا في صورتين متقابلتين، بل جاء ذكر الحياة الآخرة في مقابل الحياة الدنيا، عشرات المرات.
وجاء النهي عن الكفر والشرك والالحاد والنفاق والرياء والكبرياء، وودع اليتيم والمسكين وظلم الضعيف والأنانية والأثرة، والبخل ومنع المال، باعتبارها صفات مذمومة، يزول بها الايمان أو ينقص.
قال الله تعالى "أفرأيت الذي يكذب بالدين"؟ من هو الذي يكذب بالدين؟ انه "ذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين"! هنا تنديد بثقافة القهر والفقر، بصفتها الطاعون الاجتماعي. "فويل للمصلين" من هم هؤلاء المصلون المتوعدون بالويل؟ انهم "الذين هم عن صلاتهم ساهون" وانهم أيضاً "الذين هم يراءون".
فالرياء اخلال بالصلاة، والرياء حبة في منظومة أخلاق الضعف والانحطاط، كالكذب والنفاق، التي تنشر في المجتمعات والأفراد سوس الهزيمة النفسية والاختلال. شيوع النفاق والكذب في مجتمعاتنا العربية، يدل على أن صلاتنا شكلية، فلو أقمنا الصلاة لنهتنا عن أصل الفواحش وهو الكذب.
والذين "يمنعون الماعون" أيضاً، هم عن صلاتهم ساهون، فمنع الماعون مفردة من منظومة الأنانية والأثرة، والروح الفردية والعنصرية، وتضخم الذات، والتمركز حولها، وهي العقدة القارونية، التي تفرز الطغيان والكبرياء، كما قال الخبير البصير:"كلا ان الانسان ليطغى، أن رآه استغنى".
هذا الربط واضح أيضاً، في الحديث الصحيح "أول ما تفقدون من دينكم الحكم، وفي رواية الأمانة، وآخر ما تفقدونه الصلاة".
هنا ربط عضوي، بين ضعف الأخلاق الادارية والاجتماعية والسياسية، ضعف الشورى الذي يؤدي الى الاستبداد، وضعف الروح العملية، الذي يؤدي الى ضعف الاقتصاد والعمران، وهذان الأمران يؤديان الى خراب البلاد. فضعف الحيوية والانسجام، يؤدي الى ضعف القوة العسكرية، عند ذلك تنهار الدولة المسلمة، أمام القوى الغازية الأجنبية، كما حدث للدولة العباسية، أمام الغزو التتري والصليبي، وكما حدث للدولة العثمانية، أمام الحضارة الغربية، وبذلك لا تقام صلاة ولا زكاة.
هذا المسلسل الدرامي الكارثي، يتجسد في البلدان الاسلامية، في منظومة التبعية الحضارية، ومفرداتها الثقافية والسياسية، أو الاقتصادية أو العسكرية، هو ما حدث في البلدان التي رزحت تحت الشيوعية، في نموذجه الفظيع، وهو في نموذجه الأفظع ما حدث في الأندلس، أي الاقتلاع والاجتثاث المادي.
الدوائر الثلاث
ثمة خلل في مفهوم الدين، الذي تقدمه الثقافة الدينية المحافظة، المعاصرة زمناً، العباسية روحاً، وهذا الخلل يمكن رؤية تجلياته في الحقل الاجتماعي، لأن ظهوره في الحقل المعرفي مجال نقاش، لانكار منكر، قد يشير الى هامش ضئيل في متن، أو الى فصل في كتاب، أو الى كتاب مخطوط. أما ادراك الشيء، في الحقل الاجتماعي، فهو أمر يستوي في اداركه المتخصص وغير المتخصص.
هذا الخلل هو استبعاد العمران وثقافته من الخطاب الديني العباسي. الثقافة الاسلامية العباسية، قصرت الدين الاسلامي على الدائرة الخاصة، دائرة العباءات الروحية، التي لا يمارسها الا مسلم، كأركان الاسلام القلبية والشعائرية. وأخرجت العمارة والحضارة أو همشتها، اذا أردنا الاحتياط.
لكن الحضارة والعمران فرائض شرعية، لا يهمشها الا من غفل عن الدين، كيف تدخل دائرة العمران في الدين؟ لأن الدين ثلاث دوائر، الأولى: دائرة العبادات الروحية والشعائرية، وهي التي غلب عليها اسم الدينية الايمان والشعائر، وهي دينية في مقاصدها، أي أهدافها، فالله يقول "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون"، وهي دينية أيضاً بشعائرها، لأن الدين حدد برامجها وآلياتها. فالصلاة دينية شكلاً ومضموناً، وروحاً ووظيفة.
الدائرة الثانية: العبادات الأخلاقية الاجتماعية، كالصدق والأمانة والعفة، والوفاء بالوعد والعهد، والايثار والتعاون، والرحمة والتسامح.
الدائرة الثالثة:العبادات العمرانية، وهي التي لا تقوم حياة الأفراد، ولا كيان الجماعات من دونها، كوسائل تدبير المعاش، من صناعة وزراعة، وتجارة وعمارة، وبيع وشراء، وما يحفظ صحة الأبدان والنفوس والعقول، وما يحقق العدل والتنمية والعمران.
العلمي والعمراني
وبذلك تبدو السمات العامة للحضارة الاسلامية في محاور عدة: الأول أنها حضارة علم، ولذلك كان أول أمر أمر به النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم". فلم يكن الخطاب الأول أمراً بالصلاة أو الصيام، بل كان أمراً بالعلم، لأن العلم يدعو للايمان.
الثاني: أنها حضارة ايمان بالله الذي خلق ورزق، فكما، أنه هو الخالق الرازق، فالعباد هم المخلقون، والمخلوق ينبغي أن يعبد خالقه، ولذلك جاءت الشعائر الروحية، تجلياً للايمان من جانب وقوة تشحن الانسان بالالتزام، الأخلاقي والاجتماعي والعمراني من جانب آخر.
الثالث: انها حضارة عدل واقامة ميزان، وهذا يشير الى دور الاسلام الاجتماعي، فهو حضارة تكريم للانسان، لا تسمح بوجود قاهرين ومقهورين في مسرح واحد. ولذلك جاء القانون المدني، والقانون الجنائي فيها.
الرابع: انها حضارة عمران، ولكن الخطاب الاسلامي، لم يفصل كثيراً مسألة العمران، فغفل الفكر الديني العباسي، عن ترسيخ خطاب ديني فاعل، يحتضن هذه القيم.
لعل ذلك غفلة منهجية، عن وظيفة القرآن، وهي أن القرآن جاء تذكرة للناس، في ما يحتاجون فيه الى تذكير. وحاجة الناس الى الطعام والشراب والسكن والكساء والعلاج ونحوها، انما هي أمور فطرية في النفوس، بديهية في العقول، والناس قبل الاسلام، أقاموا الحضارات في مصر والهلال الخصيب، والهند والصين، واليونان والرومان، من دون رسول يأمر، ولا كتاب يذكر، فليست اقامة العمران، كما ظن بعض الفقهاء من نوع "ما لا يتم به الواجب، فهو واجب"، أي أنها واجب بالتبعية، بل هي واجب بالأصالة، ولكن لأنها طبيعة فطرية لا يحتاج القيام بها الى أمر شرعي، كان تركيز الدين على توجيه أهدافها ووسائلها، لأن خطاب الدين لم يأت ليذكر الناس بالحاجات البيولوجية.
الخامس: انها حضارة انسانية النزعة، بصورة تفوق جميع الحضارات، فقد قرر القرآن أن لا اكراه في الدين، وأن الانسان لا يرث خطيئة أحد، ولا يرث فضل أحد، ولا يرث شرف محتد أو خمول، ولا يرث طباعاً نبيلة أو رذيلة، وأن الانسان خير بطبعه، أي أنه زود بجهاز كفاية قبلي ذهني فطري، يدرك به دلالة الخلق على الخالق، ويدرك به أن التوحيد والحلم والعدل والعفة فضائل، وأن الكفر والزنا والقتل والتجبر رذائل، وأن كل ما يخل بجهاز الادراك، من تقاليد تخلف أو شرب مسكرات، انما هي أيضاً رذائل، فهو اذاً يدرك، أي يعلم الخير والشر.
أما أن يفعل الخير أو يتركه فهذه قضية ارادة. أي أن يريد، فيختار أن يرشد أو يغوي. وهذه نظرة تؤكد احترام الانسان وخيريته وارادته. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، فليس رحمة خاصة بالمسلمين، وما يبنى على ذلك من مفاهيم الانصاف، وقبول التعددية، واحترام الأديان الأخرى، فالاسلام لم يأذن الا بالحرب العادلة، أي أن الجهاد انما هو رد عدوان، بذلك نطق صريح القرآن، وذلك هو "منهاج النبوة". وقد تبلور مفهوم النزعة الانسانية في قوانين الحرب والسلام معاً.
الديني والدنيوي
اعادة المظلة الدينية للنشاط الدنيوي: ذلك الفهم العباسي للقرآن والسنة، هون من شأن العمران، وربط كثير من الكتاب في المجال الديني، بين كثرة النصوص الدينية في موضوع أو مسألة، وبين أهميتها، وذلك خطأ منهجي، قادهم الى تهميش العمران على متن العبادة، وآزرهم على هذا التهميش، ضعف الدراية، بالسنن النفسية والاجتماعية، لنشوء الأمم وقوتها وسقوطها، وهي سنن تستقرأ من التاريخ، وقد أشار القرآن الى أهمية أخذ العبرة فيها، وذكر بعض تلك السنن.
من الضروري اذاً اعادة الاعتبار الى النشاط العمراني العام، الذي درجت ثقافة ما بعد عهد الراشدين، على نعته بالدنيا أو الدنيوي، واعادة المظلة الدينية اليه، في المجالات التطبيقية والبحتة والانسانية، والآداب والفنون النافعة.
وبهذا التصور يمكن اكتشاف علاقات الترابط بين الخاص والعام، وبين الروحي والمادي، بصفتهما نمطين متكاملين للعبادة في الاسلام، وليست حقول التنمية والتقنية والعمران اسلامية، بالمفهوم المعرفي للعلوم، أي أنها ليست موضوعاً دينياً، كالصلاة والصوم، ولكنها اسلامية باعتبارات ثلاثة:
الأول : الروح التي تؤسس عليها، حين تؤسس على التصور الاسلامي، للخالق وما خلق من كون وانسان، وحيوان ونبات وجماد.
هذا التصور يؤكد أن الرحمن سخرها للانسان، وأن البشر لم ينتزعوا مقاليدها من الله، بل الله هو الذي سخرها لهم، تكرماً وتفضلاً، واختباراً واستخلافاً، وأنها مطبوعة، تدل على حكمة الطابع، مصنوعة تشهد على قدرة الصانع، ومخلوقة تدل على وجوب عبادة الخالق.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، فالأناسي ليس لهم قدرة، على أن يسرقوا شعلة الارادة ولا المعرفة من الله، كما تزعم أسطورة بروميث اليونانية، بل الله هو الذي أعطاهم القدرة والارادة، وسخر لهم ما حولهم، واستخلفهم فيه، لينظر كيف يعملون. كما أعطى الله ابليس كل المعطيات، التي تتيح له أن يعبر عن ارادته واختياره، فالانسان ليس مبرمجاً على الطاعة كالملائكة، بل هو حر يختار أحد "النجدين".
الثاني: توظيفها، في خدمة الانسان والايمان، كي لا تكون أداة للاستعلاء العنصري، أو قتل المخالفين وتدميرهم، أو أداة لتدمير الطبيعة والبيئة وتلويثهما.
الحضارة الأطلسية، تجد تبريراً براغماتياً، عندما تلقي القنبلة، على ناغازاكي أو هيروشيما، ولكن الحضارة الاسلامية، لا يمكن أن تجد تبريراً دينياً، لمثل هذه الابادة الجماعية، بل ولا تبرر تحت أي حال، مهاجمة الذين لا يعتدون بالسلاح، هذا المبدأ الاسلامي الانساني حقيقة قطعية، والحقيقة في الاسلام مطلقة، في جانب الايمان والأخلاق والعدل، فليست نسبية يمكن أن يحللها أو يحرمها برلمان، بحسب الأهواء والميول.
الثالث: الاسلام يعتبر التقنية والتنمية والعمران فرائض، وتكون فرائض عين أو كفاية، بحسب حاجة الأمة اليها، فقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، وقد يصل وجوبها الى مستوى الجهاد، عندما يؤدي التقصير فيها، الى انهيار كيان الأمة، وانحلال قواها، فيصبح القيام بها واجباً متعيناً على الجميع، فالقادر بنفسه يقوم بها، وغير القادرين يجب عليهم أن يساعدوا القادر على تكوين وسط اجتماعي يشجعها.
الروحي والاجتماعي
حفظ الجانب الروحي من الدين، لا يتم الا بالتفوق في الجانب المادي منه:
حفظ الجانب الروحي، والأخلاقي من الدين، لا يتم الا بحفظ الجانب الاجتماعي والعمراني. وبادراك العلاقة العضوية بين المجالين، يدرك الناس، أن تعلم أمر من الدين بعد واجبات الايمان والشعائر، ليست له أفضلية مطلقة، فالأفضلية لكل علم أو عمل انما هي نسبية، فما الناس اليه أحوج، فهو أقرب الى الله وأفضل، فيصبح مدار التفاضل على التوازن والأولوية، فلا تقسم الحياة الى عمل ديني وعمل دنيوي، بل كلا الأمرين ديني، والأفضلية ليست للشيء بذاته، بل بمقدار نفعه الآخرين.
فاذا نظرنا الى مفهوم الدين في الخطاب القرآني، أدركنا ادراك اليقين، متانة ارتباط الدائرتين، وأدركنا مدى الانحسار الذي تعرضت له الوحدة العضوية للشريعة، عندما قدمت أجزاءً متناثرة من الدين، تحت لافتة مدرسة دينية، أو كلية شريعة أو جامعة اسلامية، أو كتاب اسلامي أو مشروع اسلامي، أو مشروع خيري.
وأدركنا أن تأويل المفاهيم، الذي يقدم في رداء السنة، هو أخطر أنواع البدع، التي أصابت الأمة. وأدركنا مدى ما تعرض له مفهوم الشريعة، من الذبول بعد النضارة، والانطماس بعد الانارة، والضيق بعد الرحابة، والتجزئة والتفتيت والنشاز، بعد الوحدة والاتساق والانسجام. فصار الناس يرددون الآيات والأحاديث، التي تحث على فضل القراءة، أو فضل الفقه في الدين، أو فضل علم الشريعة، ولكنهم يريدون بها شيئاً آخر، غير ما هو معروف في ثقافة الراشدين.
لم تتغير النصوص، ولكن تغيرت المفاهيم، كمفهوم الفقه، ومفهوم علم الشريعة، وعشرات ان لم نقل مئات من المفاهيم، فأدى ذلك الغبش الى ضرب محكم للشريعة بمتشابهها، وفرائضها بنوافلها، ووحدتها بمفرداتها، وكسر نظامها بجزئياتها، وروحها بنصوصها.
ادراك الصورة الكلية للدين، كان سهلاً في عهد الراشدين، لأن الحقل ينشأ على مهل، القرآن ينزل، والرسول يبلغ ويفصل، والمجتمع يعمل، والخطأ يصحح، والعمل تجربة، والصواب يكرس، والذي لا يدرك - منهم - الوحدة العضوية في النص المقروء يدركها في المسرح الاجتماعي المشاهد.
ثم تلون الفكر الديني، وداخلته روافد من الثقافات التي حملت قيم أهلها، فعادت البداوة جذعة، في العهد الأموي، وجرت الروافد، من الثقافات الأجنبية، من هندية وفارسية، ويونانية ومسيحية، بما فيها من خير وشر، كلها صبت في النهر، فاختلطت المفاهيم والقيم الكديرة بالصافية، والنشيطة بالخاملة، من دون أن تستطيع ثقافة الراشدين، تصفية هذه المؤثرات، في مصفاة الشريعة.
وفهم الوحدة العضوية في الشريعة، هو مفتاح ادراك ما بين اقامة الصلاة واقامة الحضارة من الصلات.
ولا نكاد نجد في القدامى، مفكراً كأبي اسحاق الشاطبي، يلمس هذه العلاقة. كما نجد في اشارات وفقرات في كتابيه الاعتصام والموافقات، أسس بها علم مقاصد الشريعة، اذ أصبح كما يقول مصطفى الزرقاء رحمنا الله واياه "نجماً ساطعاً يستضاء به في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها" نظرية المقاصد لأحمد الرسيوني:9.
حاول كتاب الاصلاح الاسلاميون الحدثاء البحث عن أفكار حية، يمكن أن يستعينوا بها، في تجديد مفاهيم الاسلام، من أجل التقليل من مخاطر السقوط الحضاري الفظيع، ومحاولة بناء مفاهيم النهوض، فوجدوا بعضاً منها عند أمثال ابن تيمية والغزالي، وابن القيم، وابن خلدون، ولكنهم لم يعطوا فكر الشاطبي، كما لم يعطوا فكر ابن خلدون، ما لهما من أهمية، في صوغ مفاهيم النهوض.
* كاتب وأكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.