السعودية للكهرباء تتعهد بدعم عدد من الشركات في مجال الاستدامة بقطاع الطاقة    جامعة الملك سعود تطلق مؤتمراً دولياً بعنوان (النشاط البدني لتعزيز جودة الحياة)..    «الصحة»: خروج أكثر من نصف إصابات التسمم الغذائي من العناية المركزة.. وانحسار الحالات خلال الأيام الماضية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولارًا للأوقية    الفرص مهيأة للأمطار    "تعليم جازان" يحقق المركز الأول في برنامج الأولمبياد الوطني للبرمجة والذكاء الاصطناعي    أمير تبوك: المملكة أصبحت محط أنظار العالم بفضل رؤية 2030    تحويل الدراسة عن بُعد بوادي الدواسر ونجران    97 % رضا المستفيدين من الخدمات العدلية    أمطار الطائف.. عروق الأودية تنبض بالحياة    تعاون "سعودي – موريتاني" بالطاقة المتجدِّدة    "هورايزن" يحصد جائزة "هيرميز" الدولية    وزير الدفاع يحتفي بخريجي كلية الملك فهد البحرية    أخفوا 200 مليون ريال.. «التستر» وغسل الأموال يُطيحان بمقيم و3 مواطنين    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    الخريف: نطور رأس المال البشري ونستفيد من التكنولوجيا في تمكين الشباب    في الجولة 30 من دوري" يلو".. القادسية يستقبل القيصومة.. والبكيرية يلتقي الجبلين    بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي.. إنشاء" مركز مستقبل الفضاء" في المملكة    أمير الشرقية يدشن فعاليات منتدى التكامل اللوجستي    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    دعوة عربية لفتح تحقيق دولي في جرائم إسرائيل في المستشفيات    «ماسنجر» تتيح إرسال الصور بجودة عالية    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    «الكنّة».. الحد الفاصل بين الربيع والصيف    توعية للوقاية من المخدرات    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    (ينتظرون سقوطك يازعيم)    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    قمة مبكرة تجمع الهلال والأهلي .. في بطولة النخبة    تمت تجربته على 1,100 مريض.. لقاح نوعي ضد سرطان الجلد    الفراشات تكتشف تغيّر المناخ    العشق بين جميل الحجيلان والمايكروفون!    اجتماع تنسيقي لدعم جهود تنفيذ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    إنقاص وزن شاب ينتهي بمأساة    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !    دوري السيدات.. نجاحات واقتراحات    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (37) من طلبة كلية الملك فهد البحرية    ولي العهد يستقبل وزير الخارجية البريطاني    دافوس الرياض وكسر معادلة القوة مقابل الحق    السابعة اتحادية..        اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    دولة ملهمة    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليل حاوي في ذكراه الثامنة عشرة : نصوص غير منشورة
نشر في الحياة يوم 05 - 06 - 2000


الشاعر الذي جعل موته "جسراً" للعودة
في السادس من حزيران يوليو 1982 أطلق الشاعر خليل حاوي النار على نفسه غداة الاجتياح الاسرائيلي مؤثراً الموت على رؤية "الغزاة" يدخلون المدينة. ومنذ ذلك الحين بات انتحار خليل حاوي نجمة مضيئة في ليل العالم العربي. فهو عاش - كما مات - وفياً ل"القضية" العربية التي كرّس لها شعره وحياته معاً. وكان ذلك الشاعر المناضل ولكن على طريقة الشعراء "الحضاريين" ذوي الهموم الكبيرة، الفلسفية والوجودية.
وفي ذكرى غيابه الثامنة عشرة لا يسعنا إلاّ أن نتذكره وخصوصاً بعدما تحقق جزء من حلمه الكبير عبر تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي. ولو كان خليل حاوي حيّاً وشاهد بعينيه كيف انكفأ "الغزاة" عن الأرض اللبنانية لكان في طليعة المحتفين بهذا "المعنى" الجديد للعودة: عودة الأرض اللبنانية الى أهلها.
في هذه الذكرى ينبغي أن نتذكّر خليل حاوي الذي غادر مكرها بعد أن يئس كل اليأس لا من الزمن العربي "المنهوب" فحسب، بل من الأفكار والمبادئ والحياة نفسها. فالوحدة التي عاشها في مرحلته الأخيرة كانت قاسية جداً وقاحلة ك"الأرض اليباب". وبدا كأنه يعيش حالاً من الانهيار النفسي والوجداني على ما يذكر الذين كانوا قربه وهم قلة قليلة.
كيف لا نتذكّر اليوم، غداة تحرير الجنوب شاعراً جعل من جسده "جسراً" تعبره الأجيال نحو الفجر الجديد، فجر الحرية والعدل؟ كيف لا نتذكر الشاعر الذي طاف كالسندباد حضارات الأرض بحثاً عن خلاص أو ضوء وسط الظلام الذي يلف عالمنا؟ نتذكر خليل حاوي عبر نصوص نقدية له وخواطر في الشعر والأدب كان يدوّنها حيناً تلو حين. وهي هنا تخرج من عتمة دفاتره للمرة الأولى. وتنمّ النصوص هذه عن حذاقته في النقد الأدبي وعمق نظرته وسعة ثقافته.
ع. و
مواقف نقدية
لا يمكن أن يعلل الانبعاث الحضاري تعليلاً تاريخياً يرد ظواهر الانبعاث جميعاً الى أسباب سابقة تجعله أمراً حتمياً... كان يمكن ألا يوجد غوته وكانط وبيتهوفن، وتعليل وجودهم تعليلاً تاريخياً أصبح جائزاً بعد أن وجدوا. لقد كان هؤلاء جميعاً منطلقاً حضاريّاً جديداً خارجاً عن السياق الحضاري السابق. انه ولادة حضارة لا ترجع بخصائصها جميعاً الى الماضي الذي صدرت عنه وتخطته تخطياً نوعياً.
***
حاول الشعر العربي منذ عصر النهضة دائماً أن يكون شاهداً على الحياة في المرحلة التاريخية التي يعايشها، ومع ذلك فإني أراه في غالبيته، والى نهاية الحرب العالمية الثانية، غير جدير بالبقاء، فما هي الأسباب التي منعته من أن يكون شعراً حيّاً مديد العمر، ان لم يكن شعراً خالداً؟
يبدو أن تعبير الشعر عن مراحل التاريخ يمكن أن يتم على مستويات متفاوتة من العمق والسطحية، وشعراؤنا في الحقبة التي ذكرت، كانوا في غالبيتهم يعكسون ضجيج الأحداث السياسية الكبرى فما يرتفعون في التعبير عنها الى مستوى يسبغ عليها جلال الملحمة، ولا ينكبون على أنفسهم يستنطقونها ما ترسّب في أعماقها من أصداء خفية فينشدونها شعراً صادقاً أليفاً. ولهذا ارتبطت حياة شعرهم باستمرار تلك الأحداث في ذاكرتنا. والشعر الحي يسمّر الأحداث في الزمن ويمدها ببقاء ثابت من بقائه. وليس الشعر وثيقة تاريخية.
ثم أن هؤلاء الشعراء لم يتوافروا على دراسة فنهم، ولم يأخذوا أنفسهم بالعنت والشدة في الخلق والابداع، فأخفقوا في تحقيق غاية الشعر الفنية كما أخفقوا في تحقيق غايته الحضارية. وقلما تجد بينهم من وعى قضايا الشعر بما هو فن له تراث متراكم عبر التاريخ في لغتهم وفي الآداب العالمية. فكان شعرهم في معظمه خطابياً يضخم الإحساس ويضخم العبارة فيأتي برنين مجلجل ينزل الدوار في الاذن ويترك النفس جامدة باردة، أو كان شعراً تقنعت فيه ميوعة العاطفة بالرقة المصطنعة. انه شعر يفتقر الى الاخلاص الفني. ولو اسعفتهم ثقافة فنية غنية مترصنة لتحاموا هذه العيوب وخجلوا من شيوعها في شعرهم. وهم الى ذلك شعراء تجديد في الأسلوب طالما اقتضى فهم التضحية بمادة الشعر ومضمونه. وشاعر الأسلوب لا يمكنه أن يكون ناقداً للحياة قائداً لها في حضارته وعصره. إذ انه ينفعل انفعالاً سطحياً بما هو كائن. وهو مجدد أو جامد بقدر ما في واقع الحياة من التجدد أو الجمود.
أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد نشأ جيل من الشعراء في طليعتهم قلة لا تتجاوز الاثنين أو الثلاثة، حاولوا أن يتحاموا المزالق التي تروى فيها سابقوهم، فنفوا من شعرهم الخطابة وميوعة العاطفة والتجريد الذهني والزخرف الخارجي، واعتبروا الشعر معاناة وتجربة وثقافة عربية عالمية. وفي شعر هؤلاء تعبير صادق مخلص عن ذات الشاعر في كامل عناصرها من عصب وفكر وحس وشعور. شعر يستهدف استيعاب التجارب في كليتها وشمولها والتعبير عنها بألفاظ مستمدة من طبيعتها الخاصة. انه شعر يوحّد ما بين الواقع وفوق الواقع وبين الأغوار المعتمة والقمم الصافية. انه شعر قد وجد ذاته داخل ذاته وفي منتهى ما بلغه الفن الشعري وحضارة الانسان في هذا العصر.
***
يقرر أرسطو ان للأسلوب النثري صفتين جوهريتين أولاهما الوضوح والثانية ملاءمة الكلام لموضوعه، فما ينحط عنه فيكون مبتذلاً ولا يرتفع عليه فيكون ضخما طناناً، وبهاتين الصفتين يفترق النثر عن الشعر وينفصل عنه انفصالاً تاماً، وبهديهما يجب أن يهتدي الناثر في اختيار الفاظه. فالوضوح لا يتم الا باختيار الألفاظ المألوفة والعبارة المباشرة الصريحة. ولكي لا يؤدي ذلك الى الابتذال يجب أن يتخلل الأسلوب بعض المحسنات وبعض الألفاظ الغريبة، فالناس يعجبون بالبعيد الغريب، وكل معجب ممتع. غير أن طبيعة النثر لا تقبل هذا النوع من التعبير بقدر ما تقبله طبيعة الشعر، ذلك أن موضوع النثر أدنى مرتبة وأقرب منالاً.
***
يجف الأسلوب النثري ويتصلب عندما يسرف الناثر في استخدام الألفاظ المركبة والعبارات الغريبة والنعوت الصارخة والاستعارات غير الملائمة. فهذه جميعاً تخرج بالأسلوب عن الطبع والعفوية وعن حد الاعتدال من حيث هو شرط أساسي من شروط النثر الجيد. وغاية الناثر من اسلوب كهذا اثارة الانفعال الى أقصى حد غير أنه على العكس يخلف النفس باردة متقززة. أما الاستعارة فهي الأداة الفضلى لإضفاء الرونق والأناقة على الأسلوب شرط ألا تكون غريبة مستكرهة وأن تكون مستنبطة من طبيعة الأشياء، وما يصح على الاستعارة يصح على التشبيه وعلى لغة المجاز بوجه عام. ويرى أرسطو أن لغة المجاز أفضل من لغة التقرير، ذلك أنها تجسد الأشياء، تضعها تحت العين وتمثلها كما تحيا وتتحرك. فشتان بين قولك: شاب في العشرين من عمره، وقولك: شاب في زهرة العمر.
***
في رأي أرسطو ان الأسلوب النثري يجب أن يكون موقعاً دون أن يكون موزوناً، على أن يكون الايقاع خفراً خفياً كي لا يستأثر رنين الألفاظ دون معناها بانتباه القارئ أو السامع. ويفضل أرسطو الأسلوب المتوازن المحكم على الأسلوب المرسل ويشير الى أهمية المطابقة والتعادل والجناس في تركيب الجمل تركيباً متوازناً له بداية ووسط ونهاية. أما الكلام المرسل الخالي من الإيقاع فيبدو كأنه امتداد غير محدود من اللفظ، وغير المحدود غير جميل وغير ممتع.
العرب وبلاغة اليونان
حاول طه حسين في بحث له بعنوان "البيان العربي من الجاحظ الى عبدالقادر"، أن يتتبع تطور البيان العربي ويبين أثر البلاغة اليونانية في ذلك. ويرى ان القارئ لكتاب الجاحظ، "البيان والتبيين" يرجع بنتائج ثلاث هي: 1 ان العرب كان عندهم نقد دونوه في نهاية العصر الجاهلي، وإن هذا النقد كان سليماً مَبنياً على الذوق، 2 تكوين الجماعات العلمية في البصرة والكوفة وقد اجتمع في مدارسهما أخلاط من الناس منهم العربي والفارسي، وقد لوحظ في هذه المجتمعات قوة العارضة الخطابية وضعفُها، وسلامة النطق وعيبه، واجتمعت للعرب من كل هذه الملاحظ قواعد دوّنها الجاحظ في فضائل الخطباء وعيوبهم، 3 ظهرت منذ القرن الثاني طبقة من الكتّاب ومعظمهم من الفرس والسريان والقبط، أو ممن تأدبوا بآدابهم" وقد وضع هؤلاء معالم يسير عليها الكتّاب في الكتابة. فالبيان العربي نسيج جمعت خيوطه من البلاغة العربي في المادة واللغة، ومن البلاغة الفارسية في الصورة والهيئة، ومن البلاغة اليونانية في وجوب الملاءمة بين اجزاء العبارة. ويستدل من هذا أيضاً أن البيان العربي الى منتصف القرن الثالث لا يمكن أن يكون عربياً صرفاً، أو أعجمياً محضاً، فهو "بيان غير تام التكوين"، وهي جهود صادقة مفيدة ترمي الى احتذاء هذا البيان ووضع قواعده وتلقينها للطلاب المبتدئين.
وينكر طه حسين على الجاحظ انكاره ان يكون لليونان بلاغة ويعجب من تناقضه حينما يثبت للعرب وحدهم كل الشأن في البلاغة، وحينما يشرك معهم غيرهم من الفرس والهند والروم. ومرد هذا التناقض عاطفة تندفع بالجاحظ نحو العرب، لدرجة العصبية بل التعصب، وهذه العاطفة بينها جعلته يضغط على غير العرب، لدرجة الفض من بلاغتهم. ويعترف الجاحظ للفرس بالخطابة إذ يقول: "وجملة القول أنّا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس" غير انه يستدرك في ما بعد فينتقد الفرس بأن "كل كلامهم، بل كل كلام لغيرهم من كافة الأعاجم من طول فكرة، ومن اجتهاد وخلوة.. وكل شيء للعرب بديهة وارتجال، وكأنه الهام..".
ومن المعلوم ان السفسطائيين كانوا مضرب المثل في الارتجال، فهل كان الجاحظ على معرفة بهم ع ندما أثار مسألة الارتجال الخطابي وهل كان مطلعاً على بلاغة اليونان ومنها بلاغة ارسطو في كتابه "فن الخطابة"؟
يرى الناظرون في أسلوب الجاحظ الأدبي أنه شديد الشبه بأسلوب السفسطائيين ويرى الباحثون في نقد الجاحظ انه علم بكتاب الخطابة وعلم بأنه وقع في حديث الناس وعلم الى ذلك ان ارسطو في مجال الخطابة كان "بكيُ اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله، ومعانيه وخصائصه، .. فقد كان يعيا بالتعبير ولا يعيا بالتفكير". لهذا كله يمكن القول بأنه من المرجح ان الجاحظ قد اطلع على بلاغة اليونان، وانه، كما يرجح ابراهيم سلامه "عرف السفسطائيين وخاصتهم في الارتجال مما سمح له بالكتابة المحقة عن العرب وقوتهم في هذا الميدان. وكما تتبع أرسطو شعر الشعراء وخطب الخطباء الاثينيين تتبع الجاحظ شعر الشعراء وخطب الخطباء من العرب حتى أمكنه أن يجمع في "البيان والتبيين" وحده مادة غزيرة تعتبر أصلاً لتدوين البلاغة والنقد.. والفرق بين العملين على ما بينهما من تشابه في الطريقة الاستقرائية هو أن المعلم الأول كوّن من استقرائه مادة علمية تمكن بها من درس الخطابة والشعر فنين لكل منهما أصوله ومبادئه وخصائصه، في حين أن استقراء الجاحظ واستيعابه وكثرة محفوظه مال به الى الاستطراد الذي عابه عليه أبو هلال العسكري وغيره ممن جاءوا بعده من علماء البلاغة والنقد على رغم انتفاع هؤلاء بما جمع ودوّن".
وفي النصف الثاني من القرن الثالث وضع ابن المعتز كتاب البديع، وفيه أثر بيِّن لكتّاب الخطابة، وبعبارة أدق للفصل الذي يبحث في العبارة. ولا يعني ذلك ان ابن المعتز قد بهرته بلاغة ارسطو فأخذ بها، بل إنه وجد في الأدب العربي ما يحتمل تطبيقها فطبقها أو طبق شيئاً منها عليه. ويبقى لابن المعتز اصالته التي تعود الى ذوقه الأدبي والى استقرائه للأدب استقراء شاعر يقدّر القيم الجمالية.
ويرى ابراهيم سلامه ان البلاغة ظلت الى أواخر القرن الثالث عربية أو ظل أكثرها عربياً وان العرب وجدوا بعض القواعد كاملة عند غيرهم، أو وجدوا فيها عقلاً يمكن أن ينتفعوا به، وروحاً يمكن أن تتفق مع روح أدبهم فنقلوها، ولكنهم تصرفوا فيها تصرفاً يمنعها من الاشتراك مع غيرها، ويضللها حتى لا تتذكر أصلها.
ولم تشرع الفلسفة اليونانية للأدب العربي إلا في القرن الرابع على يد قدامه بن جعفر في كتابه "نقد الشعر". ويقرر طه حسين ويتابعه بدوي طبانه وابراهيم سلامه انه قد استغل كتاب قدامه كل مؤلف جاء بعده دون أن يقول كلمة واحدة يقر فيها له بالفضل. ونحن عندما نقرأه نحس من أول فصوله أننا إزاء روح جديدة لا عهد لنا بمثلها من قبل. وأظهر ما يكون ذلك في تعريف قدامه للشعر تعريفاً جامعاً مانعاً، فهو قول موزون مقفى يدل على معنى، وفي كلامه على الصفات النفسية التي هي أمهات الفضائل. فالانسان من حيث هو انسان يمدح بالعقل والشجاعة والعدل والعفة وبما ينطوي تحت كل من هذه الفضائل النفسية وبما ينشأ من تركيب فضيلة مع أخرى. فالحياء والحلم والدراية والسياسة فضائل تتحدر من فضيلة العقل والصبر نتيجة امتزاج العقل بالشجاعة. فان مدح الشاعر بتلك الفضائل كان مصيباً وان مدح بغيرها كان مخطئاً. ويتبع ذلك مسألة مطابقة الكلام لمقتضى الحال وتوزيع المدائح على الممدوحين بحسب منازلهم وأحوالهم، والهجاء ضد المديح. كذلك ليس من فرق بين الرثاء والمدح إلا في الصياغة التي تدل على ان الكلام لهالك. والغزل والتشبيب بالنساء يعتبران من المديح إلا أنه ينبغي ان يختار الشاعر من المعاني والألفاظ ما يؤثر في قلوبهن. ونلحظ هنا أثر الاعتقاد بوجوب مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ومن الواضح إذاً أن أظهر ما في "نقد الشعر" يمكن أن يرد بسهولة الى منطق ارسطو واخلاقه وبلاغته. كذلك يمكننا ان نرد الى "قدامه" ما وقع فيه نقاد العرب من خلط بين التراجيديا والمديح والكوميديا والهجاء. وفي رأي مارجو ليوت ان الذي ساعدهم على هذا الخلط لغة أرسطو في تفريقه بين هذين النوعين، فهو يقول: ان الشعر يبدأ إما شعراً حماسياً أو هجائياً، ومن الحماسي تنشأ المأساة، ومن الهجائي تنشأ الملهاة... وقد ترتب على هذا الفهم أن كادت الكوميديا اليونانية تفقد عند العرب خاصيتها في اثارة الضحك وأصبحت هجاء واقذاعاً، ولم يعد تأثيرها يتوقف على ما قد تثيره من مرح وامتاع.
العبقرية الطبيعية
يفرق أديسون بين العبقري بالطبع والعبقري بالصنعة فيذهب الى أن للأول من مواهبه الفطرية ما يغنيه عن طلب الثقافة الفنية وطلب العلم والفلسفة. وأخص صفاته الحمية والاندفاع ووثبات الخيال النبيلة المتطرفة، وهي صفات تتولد عنها آثار فنية متوحشة رائعة فريدة يقصر دونها التحدي والمحاكاة. ويورد أديسون رأياً لبندار في العبقري بالطبع مؤداه: "انه مهبط وحي يتعالى به على ذاته فيأتي بأنغام فائقة معجزة". ومثله من الشعراء، في رأي أديسون، هوميروس وشكسبير وبندار وشعراء العهد القديم. ويختلف عنه الشاعر بالصنعة في نوع التفوق وليس في درجته. ذلك أنه يأخذ نفسه بالعنت والشدة ويطوع طاقته ومواهبه ويطورها باخضاعها لما تمليه القوانين الفنية من توجيه وتصحيح. وهذا مما يؤثر عن مبدعين كثيرين، منهم أفلاطون، وفرجيل وملتون. ومثل العبقري بالطبع نبات البراري والعبقري بالصنعة نبات الحدائق، على تجانس المناخ والتربة.
وتجدر الاشارة الى انه ليس لأديسون في ما دعا اليه فضل اصالة وابتكار، بل فضل من يهذب مذهباً قديماً ويحمل معاصريه على الاقتناع بصحته. ومعلوم ان افلاطون يعد الشعر مسّاً من جنون والهاماً يتلقاه الشاعر في حالة غيبوبة. وربما كان مصدر الالهام علوياً أو سفلياً، وليس التفريق، على خطورته، غرض افلاطون في هذا المجال، بل التأكيد ان مصدر الشعر غيبي خارج عن ارادة الشاعر وصناعته الواعية. والى مثل هذا يذهب ارسطو في وصفه الاستعارة، وهي جوهر الشعر، بأنها سمة العبقرية، موهبة فطرية وليست صنعة مكتسبة.
وفي عصر الانبعاث يلتقي الالهام الوثني بالوحي المسيحي على تكريس نظرية التلقي في الشعر. يؤثر عن سبنسر قوله: "ليس الشعر فناً، بل هبة الهية، غريزة الهية، يصقلها الجهد والعلم ولكنهما لا يولدانها". ومما يغري في نظرية التلقي صفة البساطة في تفسير التجربة الشعرية: ان هبوط الوحي على الشاعر يعلل عفوية الشعر واستغناءه، عن عمل الارادة، وان قداسة الوحي وجلاله يعللان نشوة الشاعر وطربه وانخطافه. وفي أواخر القرن السابع عشر تروح تعمل على اضعاف الاعتقاد بالوحي الشعري عوامل مستجدة في مجالات الدين والفكر والأدب. تشتد دعوى المهووسين الدينيين والسحرة بأن لهم طرقاً خفية خاصة للاتصال بالله فتناهضها السلطة الدينية. ثم يتقرر لديها انه لا فرق بين تلك الدعوى ومذاهب الفلسفة والشعر التي ترجع الظواهر العقلية، ومنها الوحي الشعري، الى اسباب مغيبة، فترميها جميعاً بتهمة الهرطقة. وفي الوقت نفسه تنتشر نظرية حسية في المعرفة ترى ان عملية الادراك ليست سوى حركة آلية في نطاق العقل، فتنكر عامل الوحي بانكارها وجود الخفايا والأسرار وعالم الغيب. كان هوبز، وهو أول الماديين المحدثين، يعجب لمن يستطيع النطق بأفكاره الخاصة وبحكمة القوانين الطبيعية، كيف يفضل أن ينطق بالوحي فيكون مزماراً ينفخ فيه غيره. ويشيع كذلك مذهب هوراس الذي يغلب الصنعة المتعبة على الموهبة الذاتية، وتسانده النزعة العقلية في المذهب الكلاسيكي المحدث، فيصبح المذهب الغالب على الأدب في مستهل القرن الثامن عشر.
ويستمر الشعراء على عادة التضرع لربة الشعر واستلهامها، ممارسة لطقس شكلي، وليس تعبيراً عن ايمان فاعل يكيف طبيعة شعرهم ويمنعه من أن يكون شعر صنعة محضة. وتشيع نظريات في طبيعة الخلق الشعري تعترف بعامل الطبع والالهام ولكنها تخضعه لأحكام العقل وقواعد الصنعة وتجعله تابعاً لها. غير ان تلك النظريات تضطرب وتشذ عن اتجاهها العام حين تواجه شعر شكسبير فترغم على الاعتراف بأن عامل الطبع والالهام ليس ضرورياً للخلق الشعري فحسب، بل يمكنه ان يستقل به فيبدع روائع خالدة تصبح في ما بعد مصادر تستمد منها الصنعة قواعدها ويستمد العقل احكامه. هذا ما يقرره الشاعر بوب في بعض كتاباته النقدية. ويقرر كذلك ان نعت شكسبير بالشاعر المعبر عن الطبيعة، يتحيف من عبقريته، وأصدق منه نعته بالشاعر الذي اصطفته الطبيعة أداة تعبر بها عن ذاتها. ويتجه بوب تجاه معاصره اديسون ويعقد مثله مشابهة تامة بين العبقري بالطبع ونبات البراري المتوحشة. مع العلم ان بوب شاعر العقل والصنعة.
وتجمع الآراء على ان التأليف الملهم يفرق عن عملية التأليف العادي بالخصائص الآتية:
1 ان الالهام يفاجئ الشاعر وينسكب دفعة واحدة فما يترك له مجالاً للتبصر والرفض والاصطفاء، إذ أنه لا مجال فيه لجهد يتوسط بين القصد والتحقيق.
2 يكون التأليف الملهم عفوياً مستقلاً عن ارادة الشاعر في حال نشاطه وانقطاعه على حد سواء.
3 يصحب المرحلة الأولى من التأليف طرب عارم يخالطه بعض الألم، ثم يعقبه ارتياح وغبطة مطمئنة.
4 يبدو الأثر الشعري بعد اكتماله مدهشاً للشاعر نفسه، غريباً عنه كأن شخصاً غيره قد ألفه.
غير أن طائفة من النقاد تحاول أن تستبدل بالتعليل الغيبي تعليلاً مادياً آلياً لواقع الالهام وظواهره. ولذلك تقرر ان العبقرية ليست سوى طاقة الخيال الذاتية على الانطلاق بسرعة تلهب حميته كما تلهب العجلة سرعة دورانها. ويزداد التهاب الخيال بازدياد سرعته فيصيبه ما يشبه النشوة بموضوعه، ويتعالى على ذاته كأن دافعاً إلهياً يمده بالطاقة والنشاط. وليس غرض الخيال خلق كل عضوي، بل تأليف الأفكار والمشاعر الضرورية على سبيل الترابط. ومن الواضح ان هذه النظرية تبقي على المفهوم التقليدي لعفوية الالهام وتوهجه ونشوته، لكنها تخضعه لمعايير المسافة والزمان والحركة، وهي المعايير التي تنسجم مع النظرية الحسية في المعرفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.