يغالب الشخص النوم في الساعة السابعة مساءاً، ويشعر بالجوع الشديد في الساعة الثالثة بعد الظهر، لكن لا شهية عنده للطعام عندما يحل موعد العشاء. ويستيقظ في الرابعة صباحاً ولا يستطيع العودة الى النوم. هذا سيناريو مألوف بالنسبة لكثير من الناس الذين ينتقلون عبر مناطق توقيت مختلفة يصل الفرق بينها أكثر من 3 ساعات. وغالباً ما لا يتاح لجسم المسافر وقت كاف للتأقلم مع المكان الذي يقصده لبعض الوقت، ويواجه إذ يعود الى مقر اقامته الأصلي صعوبات الاعتياد مجدداً على الروتين السابق. علم الجينات اكتشف أخيراً أسرار الساعة البيولوجية الرئيسية، التي تنظم إيقاع الحياة اليومية للانسان وحدد موقها في الدماغ، وتعرف على طريقة عملها. وظهر أن يوم الجسم بالنسبة للانسان 24 ساعة و18 دقيقة تقريباً. ويشارك الانسان في ذلك معظم أشكال الحياة، بما في ذلك ذباب الفاكهة والفئران. وعُثر على مواقع اخرى في جسم حشرة ذباب الفواكه تعمل عمل الساعة أيضاً. ووجد أن هذه الساعات تستمر في العمل حتى عند تقطيع أجزاء جسم الحشرة. إيقاعات الليل والنهار ما الساعة البيولوجية؟ وأين موقعها من الجسم؟ وكيف تشتغل؟ وهل يخضع عملها لايقاع الضوء والظلام المعتادة 24 ساعة في اليوم؟ وما دور الضوء في ذلك؟هذه هي الأسئلة التي شغلت بال العلم قرون طويلة تجد أجوبتها اليوم في بحوث علماء الجينات. ذكر ذلك البروفيسور مايكل يونغ، رئيس مختبر قسم الجينات في جامعة روكفلر في الولاياتالمتحدة. وأشار البروفيسور يونغ في دراسة نشرت في العدد الأخير للمجلة العلمية "ساينتفيك أميركان" أن التجارب التي أشرف عليها كشفت أن موقع ساعة الجسم الأساسية موجود في جزء من الدماغ يُطلق عليه اسم "النواة فوق التصالبية" suprachiasmatic Nucleus. تتكون هذه النواة من خلايا عصبية تضم في داخلها الجينات التي تنظم عمل الساعة. تتحكم الجينات بانتاج البروتينات، التي تشكل المادة الأولية لجسم الانسان ونشاطاته المختلفة. وتقوم الجينات بتشفير هذه البروتينات في دارة تغذية استرجاعية تستغرق 24 ساعة. وتعتبر خلايا "النواة فوق التصالبية" التروس الحقيقية للساعة البيولوجية في جسم الانسان. توجد هذه الخلايا في موقع في قاعدة الدماغ يطلق عليه اسم "هايبوثالاموس" hypothalamus، ويُسمى بالعربية "الوِطاء". وعندما يصيب الضوء شبكية العين كل صباح تطلق خلايا عصبية متخصصة إشارات الى "النواة فوق التصالبية" التي تتحكم بدورها بدورة مواد بيولوجية متعددة. وتحفز هذه النواة موقعاً في الدماغ اسمه "الغدة الصنوبرية" وتجعلها تنتج مادة "ميلاتونين". وتلعب مادة "ميلاتونين"، التي تعتبر "هرمون النوم" دوراً كبيراً في تنظيم النوم، وتباع في الأسواق الأميركية دون وصفة طبيب. ويعتقد البروفيسور يونغ أن تشخيص الجينات وتحديد البروتينات التي تشفرها قد يساعد في علاج كثير من اضطرابات النوم ونوبات الكآبة الموسمية. الضوء والظلام ما الدور الذي يلعبه الضوء في تضبيط وتوقيت الساعة البيولوجية؟ تمتص شبكية العين الضوء الساطع خلال النهار وهذا يساعد على تضبيط إيقاع نشاطات جينات الساعة وفق دورة البيئة السائدة. وعند اقتراب المساء تشرع الغدة الصنوبرية في انتاج المزيد من هرمون ميلاتونين. وتنخفص حرارة الجسم قليلاً نتيجة لارتفاع مستوى الهرمون في الدم وتزداد الرغبة بالنوم. ويعيد التعرض لضوء ساطع في الليل تشغيل الايقاعات اليومية للجسم عن طريق تغيير حجم بعض منتجات الساعة الجينية. ويذكر البروفيسور يونغ أن عمل الساعة البيولوجية لا يخضع لايقاعات الضوء والظلام المعتادة 24 ساعة في اليوم. وعلى رغم أن ضوء النهار يلعب دوراً في "تضبيط" الساعة البيولوجية يومياً فان إيقاع الليل والنهار يستمر في العمل داخل الجسم حتى لدى الأشخاص المحرومين من الضوء. ويبرهن هذا على أن الإيقاع الجزيئي لنشاط التوقيت الجيني فطري ومستديم ذاتياً. وتواصل ساعة الجسم العمل في غياب الدورة البيئية للنهار والليل. وعمدت احدى التجارب العلمية الى زيادة تعريض الأشخاص للضوء فترة 4 ساعات عن المألوف. مع ذلك لوحظ أن درجة حرارة الجسم ومستويات هرمونات الميلاتونين وكورتزول واصلت العمل وفق دورة الساعة البيولوجية التي تستغرق 24 ساعة و18 دقيقة تقريباً. وظهر، خلافاً للاعتقاد السائد أن العمر لا يؤثر على دورة ساعة الجسم البيولوجية. وكشفت التجارب أن تغير مستويات الهرمون ودرجات حرارة الجسم اتبعت الدورة نفسها لدى الشباب والمسنين. ساعات الجسم الاخرى وكشفت بحوث على الحشرات أجراها فريق علمي في جامعة ولاية "أوريغون" أن الدماغ ليس المكان الوحيد للساعة البيولوجية. وعُثر على خلايا في مواقع اخرى من جسم حشرة ذباب الفواكه تعمل عمل الساعة أيضاً. ووجد أن هذه الساعات تستمر في العمل حتى عند تقطيع أجزاء جسم الذبابة. يعني ذلك أن الساعة التي تنظم عمل هذه الأجزاء لا تشتغل وفق إشارات صادرة من دماغ الحشرة. ووجد فريق علمي آخر في معهد البحوث "كريبس" في لاهويا، ولاية كاليفورنيا أدلة تبرهن على وجود ساعات بيولوجية في أجنحة وسيقان ذباب الفاكهة، وفي مناطق فمها وقرونها التي تعمل كمجسات وهوائيات في رأسها. ويدل تنوع مختلف أنواع الخلايا التي تقوم بدور الساعة البيولوجية على أهمية الحفاظ محلياً على التوقيت الصحيح لكثير من أنسجة الجسم. ويضفي هذا الاكتشاف معنى جديداً على مصطلح الساعة البيولوجية. ويعتقد البروفيسور مايكل يونغ بامكانية استخلاص النظام الكامل لجينات الساعة في جسم الحشرات والفئران التي يسهل إجراء التجارب عليها. وقد يكشف داخل هذه الأنظمة عن منتجات جينية غير معروفة تؤثر بشكل كبير على السلوك. وقد يقود أحد هذه المنتجات للعثور على أدوية تخفف ظاهرة "التلكؤ الزمني" Jet Lag وتعالج اضطرابات النوم ومشاكل الأرق.